أكذوبة مالك بن صعصعة ومعراجه
قيل أنه صحابي روى عن النبي حديث الإسراء والمعراج الطويل والشهير، ولكن لم تُعرف سيرته بشكل دقيق، مما يفتح الباب للخلاف حوله وحول سيرته وأقواله أو ما نسب إليه، وكعادة المحدثين والمؤرخين فهم لا يبحثون فيما وراء الصحابي، لأن اتصال السند إليه كافٍ لحسم الراوية والقول بصحتها وصدق نسبها للرسول، وهذا منهج غير علمي وعلة من العلل التي يعاني منها علم الحديث ، لأن معيار الثقة وحده لا يكفي للاطمئنان على صدق الخبر، فما بالنا وقد خلطوا بين معيار الثقة حتى وصوله للصحابي.. وقتها ينتقل ويُصبح معيار عصمة لا يجوز معه رد الراوية أو الشك في أهليتها للدين.
سنخوض في السطور القادمة مناقشة حول مالك بن صعصعة وسنتكلم في شأنه بإيجاز غير مخل، فهو حسب ترجمته إسماً ونسبا.." مالك بن صعصعة بن وهب بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار"..(تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني ج10 ص18)...وهو بالتالي يكون أخاً لعبدالرحمن بن صعصعة الأنصاري أحد رواة مالك، وقيس بن صعصعة الصحابي الذي شهدا بدراً، ولكن مع كل هذه المعلومات لم نقف بشكل دقيق على شخصية هؤلاء الأشقاء وبالذات مالك بن صعصعة كون الحديث عنه لم يأتِ إلا متأخراً في القرن الثالث مع عبدالله بن أبي شيبة في مصنفه.
مبدئياً لم يأت خبر مالك بن صعصعة في الصحيحين وكافة كتب الحديث إلا من طريق.."قتادة بن دعامة"..(ت118هـ)..عن الصحابي الشهير ."أنس بن مالك"..(ت93هـ)..وهذا يعني أمرين اثنين:
1- أن بن صعصعة لم يكن معروفاً قبل قتادة أو في عصره إلا من قتادة، وهذا يعني مرور 100عام في المتوسط لم يكن أحد يعرف مالك بن صعصعة صحابياً أو شخصاً كان يعيش بهذا الإسم.
2-أن العلم بابن صعصعة لم يكن إلا من أنس بن مالك فما شأن باقي الصحابة؟!... ألم يكن يعرف مالك–وهو من عاش في المدينة حسب ترجمته-صحابياً آخر غير أنس؟..منطقياً لا يجوز، فالصحابي قد يختلف الناس في سيرته، ولكن لا يختلفون في أمر وجوده، أو ربما جاء الخبر عن بن صعصعة متأخراً بما يعني جهل الأقدمون به...وهذا ما سنراه.
الغريب أن قتادة بن دعامة معدود ضمن الرواة المدلسين عند فقهاء الرواية، والتدليس قرين الكذب، قال فيه عنبسة بن عبد الواحد أنه كان يُتهم بالقدر ، وجرير عن عبد الحميد أن الشعبى رآه حاطب ليل، والمعنى أنه كان يجمع ما يراه ويسمعه دون إبصار،وذكره بن حجر في طبقات المدلسين (1/43) وقال أن النسائي وصفه بالتدليس، وذكره البغدادي في التبيين لأسماء المدلسين(1/46)، وفي جامع التحصيل للعلائي ذكره ضمن المدلسين(1/108) وأضاف أنه يكثر من الإرسال في موضع آخر(1/254)، وكذلك في الإلزامات والتتبع للدارقطني كان مدلسا(ص370).....وغيرها من المراجع .
ويعني ما سبق أن العلم بمالك بن صعصعة أتى من مدلس مرسل حاطب ليل، فما الذي يمنعه من اختراع شخصية صحابي بهذا الإسم إذا لم يكن مدققاً فيما يسمع وينقل بالهوى، في تقديري أن الرجل حتى وإن كان ثقة ثبتاً -لا خلاف عليه- فلا يجوز أن نقبل منه رواية صحابي مجهول السيرة .
للعلم فإن مالك بن صعصعة ليس فقط مجهول السيرة ولكن أيضاً لم يُعرف متى وأين ولد ومتى توفي وكيف، هذه من أبسط المعلومات التي تساعدنا في تعيين الرجل وتتبعه والحكم عليه، فما نُسب إليه في الصحيحين في غاية الأهمية، وقد شكل عقائد موروثة إلى زماننا هذا دون أن يسأل أحد من هذا ومن الذي نقل عنه، وعليه فما قام به علماء الحديث والرواية بالعموم هو خداع لم يخلُ من النصب المتعمد، أن يأتي قائلاً ينسب لصحابياً خبراً عن النبي ثم يقبلون منه الخبر دون تدقيق أو أن يكلف أحدهم نفسه في البحث عن ذلك الصحابي .
لكن وللإنصاف لن نتسرع في الحكم عليهم.. وسنعرض أقوالهم في بن صعصعة، عسى أن نجد معلومة واحدة-غير نسبه- تساعدنا في تحديد من هو هذا المجهول وسيكون لنا بعدها وقفة..
1-البخاري في التاريخ الكبير.." مالك بْن صعصعة روى عنه أنس بْن مالك حديث المعراج"..(7/300)
2-البغوي في معجم الصحابة .." مالك بن صعصعة الأنصاري
من بني النجار من رهط أنس بن مالك سكن المدينة وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثين"..(5/187)
3-ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل.." مالك بن صعصعة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في المعراج روى عنه أنس بن مالك"..(8/211)
4-ابن حبان في الثقات.." مالك بن صعصعة بن مازن بن النجار ثم من بني عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر المعراج"..(3/377)
5-ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار.." مالك بن صعصعة من بنى مازن بن النجار من الانصار وهو الذي حفظ حديث المعراج بطوله مات بالمدينة"...(1/51)
6-الكلاباذي في الهداية والإرشاد.." مالك بن صعصعة المديني سكن البصرة سمع النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه أنس بن مالك في (بدء الخلق) و (الأنبياء) حديث المعراج"..(2/691)
7- ابن منجوية الأصفهاني في رجال صحيح مسلم..." مالك بن صعصعة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في المعراج روى عنه أنس بن مالك"..(2/218)
8-أبو نعيم في معرفة الصحابة..." مالك بن صعصعة الأنصاري روى عنه أنس بن مالك"..(2/ 2452)
9-ابن عبدالبر في الاستيعاب.." مالك بن صعصعة الأنصاري المازني، من بني مازن بن النجار.روى عنه أنس بن مالك حديث الاسراء"..(3/ 1352)
10-أبو الوليد الباجي في التعديل والجرح.." مالك بن صعصعة المدني سكن البصرة أخرج البخاري في بدء الخلق والأنبياء حديث المعراج عن أنس بن مالك عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم"..(2/695)..
نكتفي بهذا القدر من جمع أقوال ومعلومات المؤرخين والمحدثين ، وقد ظهر لنا أن معلوماتهم عن مالك بن صعصعة فقيرة منحصرة في ثلاثة أمور..(إسمه ونسبه ومحل إقامته)..ولكن هل هذا يعني أن مالك كان موجوداً بالفعل؟...سنجيب عن هذا الأمر بالأدلة في تلك الملاحظات:
أولاً: أن كافة معلوماتهم عن مالك جاءت من طريق قتادة بن دعامة فقط، وهو الذي نقل إليهم خبر ابن صعصعة عن أنس، وهذا يعني أمرين اثنين، الأول: أن قولهم.." .روى عنه أنس بن مالك"..هو قول غير صحيح، لأن قتادة هو الذي نقل خبره حصرياً على قناته الروائية وعلى الأرجح أنس بن مالك برئ من أمره، ثانياً أن وجود الرجل بالكلية -ومعه صحة إسمه ونسبه- يتوقف على نزاهة ودقة وصدق وذكاء قتادة بن دعامة..!
ثانياً: أن المعلومات كانت فقيرة إلى حد اضطرابهم في محل إقامته، فالبغوي قال سكن المدينة، والكلاباذي والباجي قالا سكن البصرة، وأن اللفظ .."سكن"..يعني بلغة المؤرخين .."أقام واستقر"..فلم يُعرف عنه سفر أو انتقال، وإلا قالوا ولد بكذا ومات بكذا، ولكن ولأنه مجهول السيرة فاضطربوا في أمره.
ثالثاً: لم يعلموا سنة مولده وسنة وفاته أو أي موقف له يُعرف منه وجوده أوشخصيته، وهذا يعني أنهم جهلوا الرجل بالكلية ولكن لأن خبره جاء عن ثقة عن ثقة أخذوا به دون تمحيص.
ننتقل إلى جانب آخر من المناقشة وهي جزئية هامة تتطلب منا الإجابة على السؤال التالي؟
متى ظهر إسم.."مالك بن صعصعة"..وتم تسويقه كصحابي؟
الإجابة عند عبدالله بن أبي شيبة تعليقاً في مصنفه حيث ذكر له حديث المعراج عن قتادة كما سبق، وابن أبي شيبة متوفي عام 235 هجرية، وهو ما يعني أن "الصحابي"مالك بن صعصعة كان مجهولاً طيلة قرنين من الزمان، لم يعرف به أحد ولم يُسجل إسمه في كتب الرواة إلى أن جاء ابن أبي شيبة وكان له الفضل والسبق.
ولكن تظهر إشكالية وهي ذكر ابن صعصعة ما بين وفاة قتادة بن دعامة عام 118 هـ وبين وفاة ابن أبي شيبة عام 235هـ، أي ظل الرجل طيلة 117 عاماً لم يُدون إسمه في كتب الحديث، وفي تقديري أن السبب هو في تناوله وذكره شفهيا في مناطق محدودة إلى أن جاء عصر تدوين الحديث في القرن الثالث وبأمر من الخليفة العباسي صدر القرار بتدوين ما كان شائعاً على ألسن العوام، فتقدم ابن أبي شيبة وابن حنبل والبخاري وغيرهم بالتدوين.
وربما ذكره البخاري قبل ابن أبي شيبة حيث يُشتهر أن البخاري كتب صحيحه في منتصف عمره، وما بين وفاة ابن أبي شيبة والبخاري 21 عام، وعلى كلٍ فخبر بن صعصعة جاء متأخراً في القرن الثالث ،وهو ما يعني أن مدوني القرن الثاني كمالك بن أنس(ت179هـ) والشافعي(ت204هـ) والطيالسي(ت204هـ) لم يعلموا شيئاً عن بن صعصعة، فكُتبهم جميعا تخلو من أي ذكر للرجل ، وعليه كان ذكر بن صعصعة في بدايات القرن الثالث يبرر سرعة وانتشار خبره بعد ذلك، حيث تبناه البخاري وابن حنبل وهما من هما في علم الحديث.
ما يجعلني لا أٌقبل نسبه المذكور أن المؤرخين كسيف بن عمر التميمي عندما اختلق شخصية.."الصحابي القعقاع بن عمرو"..لم يختلقها دون أن يذكر له نسباً في قبيلته، وهذا يعني احتمالية صنع هذا النسب لأجل تبرير وجوده كشخصية لها أخبار موصولة للنبي، وطالما الاحتمال موجود فالنسب لا يكفي كبرهان، يكفي العلم أن مؤرخين وفقهاء كابن عبدالبر خُدع في القعقاع وساق له خبراً ونسباً دون تمحيص.
جانب آخر مهم هو أن مالك ابن صعصعة هو أشهر من نسبت إليه قصة الإسراء والمعراج الشهيرة، وعليه فالقصة كاملة قائمة على الرجل إذا بطل خبره بطلت القصة بالكامل، وهو ما يعني ضرورة البحث في كتب وتدوينات القرن الثاني عن قصة الإسراء والمعراج، وبعد البحث تبين خلوها تماماً من أي ذكر للإسراء والمعراج، وأن قضايا كالخمسين صلاة المفروضة وعروج النبي إلى السماء وخبر البراق الطائر لم يعرف بها جميعا لا مالك ولا الشافعي..!
توجد رواية واحدة في موطأ مالك تفيد الإسراء ولكن بسيناريو مختلف وقصة مختلفة عن ما نسب لابن صعصعة، قيل فيها عن أبي مصعب الزهري.." حدثنا مالك، عن يحيى بن سعيد، أنه قال: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار، كلما التفت النبي صلى الله عليه وسلم رآه، فقال جبريل: ألا معلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، قال جبريل: فقل: أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء وشر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرئ في الأرض وشر ما يخرج منها، ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن"..(موطأ مالك 2/129)
ويبدو من رواية مالك أنها جاءت في سياق الدعاء والتعوّذ، ولا علاقة لها بقصة الإسراء والمعراج الشهيرة والمثبتة في الصحيحين،وهذا يُرجح أن قصة الإسراء تطورت منذ عهد مالك بن أنس عدة أطوار على ألسن الرواة حتى انتهت إلى ما دونه البخاري وابن حنبل وابن أبي شيبة بعد مالك ب50 عاماً على الأقل، وبالتالي أضيفت لها المعراج التي جاءت من طرق أخرى شفهية كان يجهلها مالك والمنتهية كما سبق عند قتادة بن دعامة.
إذن هي فترة حاسمة بدأت بذكر المعراج على استحياء في بدايات القرن الثاني، وما يثبت عدم رواجها أن كبار المدونين في المئة الثانية لم يعلموا عنها شيئاً، حتى جاء مدوني القرن الثالث وسجلوها موقوفة على قتادة ، وهذا يعني ثبوت مجهولية ابن صعصعة أول 200 عام من عمر الدعوة، وبالتالي مجهولية قصته بسيناريوهاتها وتفاصيلها كاملة.
الملاحظ أيضاً ان ابن حنبل (ت241هـ) نقل خبر المعراج عن ابن شهاب(ت124هـ) عن أنس بن مالك عن أبي بن كعب، والبخاري عن ابن شهاب عن أنس عن أبي ذر، ومسلم شرحه، ولكن من أين هذا السند وكافة مدوني القرن الثاني لم يكتبوه؟!!..عقيدة هامة كالمعراج وما تفرع منها كخبر البراق والصلاة بالأنبياء في الأقصى هذه أخبار ليست هينة، فهل يُعقل أن محدثي ومؤرخي القرن الثاني جهلوا هذه الأشياء حتى جاء ابن حنبل والبخاري بالخير اليقين؟
شئ آخر أن الخبر عن ابن صعصعة وعن أبي ذر وأبي بن كعب جاء من أنس بن مالك، يعني القصة والليلة بحالها موقوفة على أنس، ومعلوم أن أنساً كان صحابياً مكث في بيت رسول الله عشرة أعوام حتى وفاته، فما دلالة تحديث هؤلاء لأنس وقد كان لديه الخيار أن يسأل النبي بنفسه وأن يحدثه النبي حديثاً لشخصه، وقد ثبت من كافة روايات المعراج أنها كانت من غير أنس، وما انتهى عنده كان مرسلاً، وبما أن مرسل الصحابي مقبول فلا يجوز التشكيك في مرسله..!
بالعموم حتى وإن كان المعراج المزعوم مقبول حديثياً فهو غير مقبول شرعياً، إذ بقياس على منطق القرآن يتبين لنا زيف القصة بأكملها، ومعها يظهر لماذا خفيت هذه القصة عن المسلمين 200 عام حتى ظهر البخاري وابن حنبل، قال تعالى..." وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا".. [الإسراء 90: 93]
الآيات تقول أن المشركين طلبوا أشياءً عجز النبي عن تحقيقها لهم من ضمنها.."أو ترقى في السماء"..يعني المعراج ، ليس هكذا فقط بل وصل إعراضهم أنهم هددوا بعدم إيمانهم بمعراج النبي إذا لم يأتِ بشهادة سماوية مكتوبة تشهد للنبي أنه صعد، وهذا هو معنى قوله.." حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه"..فكان رد النبي حاسماً.."هل كنت إلا بشراً رسولا"..
والرقي في السماء حسب تفسير الرازي هو المعراج من أسفل إلى أعلى، فمضاف السماء محذوف يعني.."المعارج"..والمعنى ."أو ترقى في معارج السماء "..وهذا نفي إلهي لإمكاينة تحقق هذا الفعل لبشر، أما عن الآيات في سورة النجم من 1:18 تتحدث عن لقاء النبي بجبريل...وهي شديدة الوضوح من السياق.."ثم قاب قوسين أو أدنى"..وألفاظ مثل .."دنا وتدلى ونزلة أخرى"..تعين أن الحال هو حال نزول من أعلى إلى أسفل، وليس حال معراج من أسفل إلى أعلى، ومعها يظهر أن سدرة المنتهى وجنة المأوى المذكورين تلك أماكن أرضية نزل فيها جبريل، والقائل أنها في السماء يعني اتهام لله بالمكان والمحدودية، وهذه آفة تلك القصة بالعموم.
إن الله ليس له مكان كما هو مقرر في عقائد المنزهة..والقول أنه في السماء على الحقيقة هو بدعة من بدع الوهابية المجسمة...وقصة المعراج تعني بالذهاب والعودة مع الله، وهذا يعني اتهاماً لله بالمكانية والمحدودية، وقد ثبت ذلك قرآنياً بقوله تعالى .." وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله "..[الزخرف : 84]..وقوله تعالى.." وهو معكم أينما كنتم".. [الحديد : 4]..فكيف بعد ذلك يُقال أن الله له مكان يذهب إليه النبي ويعود هكذا باستخفاف وحماقة ؟!
ثم أن القائل بحديث المعراج وفرض الصلاة فيه لا ينتبه لشبهة خطيرة ، وهي أن الحديث يقول بأن الله فرض خمسين صلاة على المسلم في اليوم والليلة ، بينما ذلك الفرض يعني طعناً صريحاً في عدل الله ومخالف لكل مقررات العقل البشري.
بتوضيح أكثر..
زمن الصلاة الواحدة من خروجك من بيتك ثم وضوءكء ثم صلاتك وعودتك هو.."نصف ساعة في المتوسط"...واليوم به 24 ساعة × نصف ساعة= 48 صلاة...أي أنك تصلي طوال اليوم ولم تُجاوز الرقم المنسوب في الحديث..هذا إن افترضنا تفرغ الإنسان فقط للصلاة وليس له أن يعمل أو يبدع أو ينام أو أو أو....إلخ
لو قلت أن عدد الصلوات كان كبيراً لذلك خفف الله عن المؤمنين فأنت بذلك تطعن في الله مصداقاً لقوله تعالى..." والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب".. [الرعد : 41]..أي أن حكم الله واحد لا رجوع فيه ولا تعقيب ، فكيف تتهم الله عز وجل أنه فرض حملاً ثقيلاً على الإنسان ثم تراجع عنه، أو ظهر له أو بدى له خلافه، هذا قول صريح بالبداء ومعه طعن في عدل الله وحكمه.
في تقديري أن قصة الإسراء والمعراج وخبر مالك بن صعصعة لم يأخذ هذه الدرجة من الوثوقية إلا في زمن الإحياء الثاني لعلم الحديث، والذي بدأ في القرن الثامن وانتهى في القرن العاشر، ويعني أن كل تدوينات تلك الحقبة سجلت ما ذكره مدوني القرن الثالث وأضافوا وتوسعوا من عندهم، وأشهر مدوني هذه الحقبة هم ابن تيمية(ت 728هـ) والذهبي (ت748هـ) وابن القيم الجوزية(ت751هـ) وابن كثير(ت774هـ) وابن حجر العسقلاني(ت852هـ) وأخيرا السيوطي(ت911هـ) ألاحظ من تواريخ الوفاة هو التأثر حسب المنهج والمكان، فابن تيمية على سعة حضوره وتدوينه أثر في ابن القيم وابن كثير والذهبي وجميعهم شوام، بينما تأثر السيوطي بابن حجر العسقلاني وكلاهما مصريين.
بالعموم هذه رؤية نسبية ستختلف حتماً، ولكن أؤكد على أمرٍ هام وهو على كل من يريد استقصاء المعلومة فليبحث في مصادرها، أي من يريد صحة خبر فليبحث في كتب التدوين الأولى وليس في ترجيحات وتبريرات وتوجيهات ابن حجر والذهبي، لأن ما سمعه كليهما في مجالس العلم كان له حضور ذهني لديهم، وهذا مُلاحظ من كثرة بلاغاتهم وإرسالهم عن السابقين، حيث يكتفون عادةً بقال فلان وعلان دون سند، وقد كانت هذه طريقة الطبري في تدوين الشائع قديماً حتى جاء الخطيب البغدادي وتوسع في الطريقة، وعلى دربهم سار ابن كثير والسيوطي..
قد يصح الاستئناس بجرحهم وتعديلهم كون علم الجرح والتعديل لم ينشط إلا في ذلك الزمن-زمن الإحياء الثاني- وعليه فقد كان أكثر دقة عن رأي ابن عبدالبر(ت463هـ) والخطيب البغدادي مثلاً(ت463هـ) ، والذي أعتقد أن قدسية البخاري والمحدثين ظهرت في عهدهم وكَثُرَ معها شيوع عقائد الصحيحين وسائر الكتب التسعة على منازلهم، مما يعني أن الاحتجاج بسير أعلام النبلاء وتاريخ الإسلام للذهبي هو حرث في الماء وكذلك تهذيب الكمال للمزي وتهذيب التهذيب لابن حجر لأن جميعها كتب تم تدوينها بطريقة تراكمية حتى شاع فيها الكذب عن ما شاع في كتب السابقين.
هكذا هو التاريخ تصبح تراكميته سلبية رجعية إذا ما كان الضابط فيه السند والثقة، فإذا كان الكذب الآن قيراطاً سيكون قيراطين بعد عام، حتى أننا نلمس ذلك من حياتنا اليومية في اختلاف الشهود على الحدث وتطوره والزيادة فيه والنقص بمرور الزمن، حتى يصعب على من جاء متأخراً تعيين الحدث بطريقة دقيقة، هذا طبعاً بخلاف العلم الذي هو تراكمي إذا ما كان ضابطه الاجتهاد والتجربة، حينها تصبح التراكمية إيجابية لصالح البشر كمثال تطور الحياة البشرية منذ عصر النهضة الأوروبي إلى الآن.
أخيراً فقد ظهر لنا أن مختلق شخصية.."مالك بن صعصعة"..هو الراوي قتادة بن دعامة، وأن كافة ما روي في قصة معراج بن صعصعة ظل مجهولاً طيلة 200 عام حتى سجلته أقلام مدوني القرن الثالث وبأمر من الخليفة العباسي، وظهر لنا أيضاً تطور قصة الإسراء من دعاء وتعوّذ في عصر مالك بن أنس إلى براق وطيران في عصر البخاري، وأن قصة المعراج حتى لو قُبِلَت حديثياً فهي لن تُقبل شرعياً، إذ القرآن ينفيها وينفي معها إمكانية حدوثها مطلقاً، سبحان الله تعالى عما يصفون .
اجمالي القراءات
20797