معجزة اختيار اللفظ في القرآن : مدخل لعلم قرآنى جديد : ( الجزء الأول )

آحمد صبحي منصور Ýí 2013-09-14


 

مقدمة :

1 ـ معذرة للاعادة و التكرار. ولكنه الاضطرار . واقول بايجاز واختصار :

كنت فى مفترق الطريق عندما وقف الأزهر كله ضدى عام 1977 بقيادة شيخ الأزهر عبد الحليم محمود ، رفضا لما كتبته فى رسالتى للدكتوراة عن اثر التصوف فى العصر المملوكى. كان السؤال الذى يوجهونه لى والذى كنت أوجهه لنفسى : هل كل الناس على خطأ وأنت يا فلان الوحيد الذى هو على الحق .؟

المزيد مثل هذا المقال :

كان رفض الشيوخ الكبار لما كتبته مقترنا بالاستعلاء على شخصى ( كنت مدرسا مساعدا أواجه الشيوخ الكبار )، وبالتحقير لى الذى يعكس حقدهم على إجتهادى ، ويبرر جهلهم وقعودهم عن الاجتهاد . هذا الاستعلاء والتحقير دفعنى للتحدى . وهذا التحدى كان يحتاج الى أن أقتنع مائة فى المائة أننى على الحق ، لأواجههم بإيمان مهما كانت العواقب .

كنت أحفظ القرآن الكريم ظاهريا ، وأستشهد به عند اللزوم آليا وتقليديا دون تمعن حقيقى ودون تدبر مخلص . ولكن موقف الجميع ضدى جعلنى أقف وقفة مع نفسى . هل أنا على حق أم على باطل ؟ لا بد أن أقتنع أولا ، ثم أعلن إقتناعى ، ولا يهمنى بعدها ماذا يحدث طالما أن ضميرى مستريح بعد هذا الاقتناع . ولأ بد أن يكون هذا الاقتناع فعليا ومقنعا لعقلى أولا وأخيرا ، لأستطيع المواجهة عن علم ومعرفة . 

2 ـ إيمانى بالله جل وعلا لم يلحقه أدنى شك ، ولكننى فى رسالة الدكتوراة كنت أعرض كلام الصوفية وأفعالهم وتاريخهم على القرآن الكريم ، وكنت أنتقدهم فى ضوء آياته بطريقة آلية عادية ، بينما كنت أقرأ تراثهم وتاريخهم ومؤلفات العصر المملوكى قراءة نقدية متحررة . ولكن لم أفعل ذلك بالطبع مع الآيات القرآنية التى أستشهد بها . إذن تعيّن علىّ وقتها ـ فى مواجهة التحدى مع شيوخ الأزهر أن أعيد قراءة الآيات القرآنية نفسها بنفس القراءة النقدية التحررية التى أتعامل بها مع التراث . هذا التراث المملوكى بما فيه من تصوف وتاريخ وسُنة وأحاديث ممتلىء بالتناقض ، فهل يوجد فى القرآن نفسه تناقض ؟ لا بد أن أعرف الاجابة بنفس العقلية الباحثة الباردة التى تبدأ بدون فكرة مسبقة تريد تأييدها أو دحضها ، وتتعامل مع التراث المملوكى الصوفى والفقهى بعد تحديد مصطلحاته وفهم الجذور التاريخية التى تأسّس عليها هذا التراث وأصحابه .

3 ـ أكثر من هذا ، كان لا بد أن أتعامل مع القرآن الكريم بمنهج ( الشّك ) وليس بمنطق الايمان والتسليم . وهذا هو الفارق بينى وبين خصومى الشيوخ متبعى الأديان الأرضية . هم يتعاملون مع تراثهم السّنى أو الصوفى أو الشيعى بالتسليم والايمان والتصديق دون ذرة شكّ . ويقومون آليا بالتأويل والتبرير والتجاهل والتعامى . بينما أقرأ أنا هذا التراث بعقلية ناقدة فاحصة ، فأرى بسهولة تناقضه وتخلفه وخرافاته وخزعبلاته . ولكن كنت أعتبر البحث في القرآن موضوعيا وعلميا ومنهجيا يتعارض مع الايمان به . تعيّن علىّ وقتها أن أتعامل مع القرآن بنفس المنهج الموضوعى فى تعاملى مع التراث ، بل وأكثر بأن أبدأ بالشك .

4 ـ وطبقا لمنهج الشك سألت نفسى : هل القرآن من عند الله جل وعلا ؟ أم إفتراه وكتبه رجل عربى من قريش اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، فى القرن السابع الميلادى . لو كان مكتوبا بيد وقلم ( محمد ) فأنا أكثر منه علما ومعرفة ، فلقد ورثت بالتراكم علما أكبر منه ، وأعيش فى بيئة أكثر علما وحضارة من البيئة والعصر الذى عاش فيه ، وحتى لو كنت أعيش فى نفس عصره وأنا فى مصر وهو فى مكة لكنت أكثر علما ومعرفة منه. وإذا كنت أقرأ كتب أعلام التراث و أحللها وأكتشف عيوبها و أخطاءها و التناقض فيها ، فبالتالى لو كان محمد هو مؤلف القرآن الكريم فسيكون بوسعى اكتشاف ما فيه من أخطاء وتناقض .  

5 ـ وفى ذلك العام 1977 بدأت البحث الموضوعى فى القرآن الكريم ، من أول آية فى سورة البقرة ، واستمررت عاما الى أن انتهيت ، ومعى حصيلة علمية قرآنية تحولت بها الى شخص جديد إنسانيا وخُلقيا وباحثا أصوليا وقرآنيا . هذه الحصيلة العلمية القرآنية هى أساس أى مؤلف قرآنى كتبته وتم نشره أو لم ينشر من وقتها وحتى الان .

خرجت من التجربة شخصا مختلفا إنسانيا وعلميا ، خرجت بايمان عميق لا شك فيه فى أنّ القرآن الكريم كتاب رب العالمين الذى يعلو فوق إمكاناتى العقلية وإمكانات أى بشر ، وأنه يستحيل أن يكون من تأليف محمد ، بل إنه عليه السلام هو الذى تلقاه من رب العزة ، معجزا لكل البشر ، وأن آيته الكبرى فى أنه يجمع بين البساطة والعمق معا ، بساطة الهداية وسهولة الخطاب المفهوم فى عصر النبى وعصرنا ، بحيث لو إفترضنا أننا نتحدث مع أبى بكر أو عمر أو معاوية فلن يفهمنا ولن نفهمه ، مع أننا نتحدث العربية الفصحى ، ولكن لو تلونا معا القرآن لفهمناه . ومع ذلك فالقرآن فيه عُمق لانهائى لمن يريد التبحُّر فيه تدبرا وبحثا . وبهذا التيسير فى الذكر يتمكن العامى من الهداية لو أراد ، وبهذا العمق يزداد الراسخون فى العلم القرآنى إيمانا بأنهم لن يحيطوا بالقرآن علما .

سجد عقلى المشاغب للقرآن الكريم ، وعرفت من وقتها حلاوة الصلاة ، وجمال قراءة الفاتحة وروعة الخشوع فى السجود والركوع ، ومعنى أن أستعين على كل شىء من مصائب الدنيا ومتاعبها وأزماتها بالصبر والصلاة ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)   ) البقرة   )، وتعلمت من وقتها أننى طالما ألوذ بالله العزيز الجبّار خالق السماوت والأرض الواحد القهّار وطالما أعتصم بكتابه العزيز فأنا أقوى البشر وأقدر على تحدى العالم كله ، فكيف بالشيوخ الجهلة المنافقين أشباه البشر ؟. وواصلت طريق التحدى من وقتها وحتى الآن حتى صرت أرجو أن أموت قتلا فى سبيل القرآن الكريم لأكون شاهدا على عصرى هذا .  والذى لا يخشى القتل والموت لا يخشى من بشر ، والذى يخاف الله جل وعلا لا يمكن أن يخاف من البشر ، أما الذى لا يخاف الله فإن الشيطان يخيفه من كل شىء ، وهذا ضمن ما تعلمته من القرآن الكريم : (إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)  آل عمران ) . 

6 ـ أصبحت باحثا مختلفا أيضا . عثرت فى القرآن الكريم على محيط لا حدود لعمقه وإتساعه ، وقفت أمامه منبهرا . لم يسبق لأحد قبلى أن قرأ القرآن بمنهج موضوعى يحدد مفاهيم ألفاظه من خلال سياقاته ، ويتدبر كل الآيات الخاصة بالموضوع بلا رأى مسبق وبلا إنتقاء ، ثم يستخلص الرؤية القرآنية فى النهاية . كانت العادة أن يدخل الفقيه على القرآن وهو يحمل فى قلبه مذهبه ودينه الأرضى لينتقى من الآيات ما يتفق معه ويؤول ويتجاهل و يقول ( بنسخ ) ما يخالف رأيه من آيات قرآنية ، ثم هو يجعل الأحاديث التى يؤمن بها هى الحكم فى نظرته للقرآن الكريم ، ويفهم كلمات القرآن الكريم ومصطلحاته حسب المفهوم السائد فى عصره ، ويرى مصطلحات القرآن تابعة لعصره ، ويسيطر عليها عصره . ثم يعلن كل المختلفون أن ( القرآن حمّال أوجه ) ينتقى منه كل شخص ما يريد ، ويختلفون ويتضاربون بالآيات ، فيزدادون بالقرآن خسارا ، كما قال رب العزة : (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً (82) ( الاسراء ).  أحسست بمنهج التدبر القرآنى بالشفاء النفسى وراحة البال التى تجعل القلب مستعدا للتضحية متقبلا لها فى سبيل الدفاع عن حقائق الاسلام . وبعد 36 عاما لا زلت تلميذا أمام القرآن العظيم ،أكتشف منه ما لميكن لى به علم من قبل ، وأشعر وقتها برعشة الانتصار العلمى وروعة الايمان بهذا الكتاب السماوى الذى لا مثيل لروعته وحلاوته . لا زلت وأنا فى الرابعة والستين من العمر أبدأ كل بحث قرآنى من نقطة الصفر ، أدخل على القرآن فى بحث موضوع ما دون أدنى فكرة مسبقة ، أريد مخلصا أن أهتدى وأن أعرف الحقيقة القرآنية . وإذا ظهر خطئى سارعت بالاعتراف بالخطا وبالتصويب.  وبالقرآن الكريم ومن عام 1977 بدأت تطهير عقلى وقلبى من قاذورات الدين الأرضى وموروثاته . ولا زلت حتى الآن فى هذا التطهير . وأعذر ضحايا هذه القاذورات .!

7 ـ وأعاننى على التدبر القرآنى التبحر فى تاريخ المسلمين وتراثهم من عصر الخلفاء الى نهاية العصر المملوكى . وحتى الآن أقوم بعرض تاريخ المسلمين وتراثهم على القرآن الكريم بهدف الاصلاح السلمى ن فى عصرنا هذا الذى سقط فيه المسلمون فى حضيض التقاتل المذهبى .

8 ـ ولكن .. ماهى صلة هذه المقدمة الطويلة بعنوان هذا المقال : (معجزة اختيار اللفظ في القرآن : مدخل لعلم قرآنى جديد  )؟

 كنت فى بحث الدكتوراة أقرأ تراث العصر المملوكى بعين الناقد المتحفّز لأى تناقض أو خطأ ، والعصر المملوكى هو الذى شهد إعادة تدوين التراث الفكرى العربى بعد تدمير المغول لبغداد ومكتبتها ، ولم يقتصر العصر المملوكى على إعادة كتابة الكتب التى ألفها العصر العباسى بل قام بشرحها والتعليق عليها ، كما حدث مع صحيح البخارى . وكان منهج رسالتى فى الدكتوراة ( أثر النصوف فى العصر المملوكى ) يستلزم توضيح أثر التصوف فى الحياة العلمية والعقلية وعلوم الحديث والتفسير والفقه ..الخ ، أى كان لا بد أن أقرأ هذه المؤلفات دراسة نقدية لأعثر على أثر التصوف فى عقلية علماء العصر المملوكى فى التعليق عليها . وبالقراءة النقدية لمشاهير العلماء والفقهاء فى العصرين العباسى والمملوكى كان سرعان ما يتساقطون فى نظرى ، بأن أرى تناقض المؤلف مع نفسه حتى فى الصفحة الواحدة . وبالمعايشة تولّدت عندى هذه الملكة فى الاكتشاف السريع لأى خلل أو تناقض لأى كتاب أقرؤه . ودخلت بهذه الخبرة على القرآن الكريم ، فلو كان من تأليف ( محمد بن عبد الله ) فلا بد أن يقع فيه تناقض كبير ، فمن جاء بعده فى العصر العباسى وقعوا فى هذا التناقض ، فكيف برجل عربى فى بيئة صحراوية ؟ أما إذا لم يكن فى القرآن هذا الاختلاف والتناقض فهو فعلا من عندالله ، وأن محمدا هو رسول الله . والذى يعزّز هذا ان القرآن الكريم قد تميّز بالتكرار فى القصص والتشريع وغيبيات اليوم الآخر التى توزعت فى سور كثيرة تختلف فى تفصيلاتها . وهذا التكرار وما فيه من متشابهات تجعل إحتمال الاختلاف والتناقض مؤكدا لو كان القرآن الكريم من تأليف بشر . لذا كان تركيزى على المتشابهات والموضوعات المكررة بحثا عن التناقض والاختلاف . وبعد دراسة متأنية مركزة إكتشفت علما جديدا هو معجزة اختيار اللفظ فى القرآن الكريم ، ضمن اكتشافات أخرى ، ولكن لم أجد الوقت حتى الان لمتابعة كل البذور التى بدأتها فى عام 1977 الذى شهد تحولا فى حياتى وسجودى أمام عظمة القرآن الكريم ، حتى لقد أسميت هذا العام (  العام القرآنى ) .

9 ـ وفى منتصف التسعينيات وما بعدها عهدت لى جريدة العالم اليوم بالكتابة فى صفحتها الرمضانية السنوية ، فكان مما نشرته فيها فقرات من (  معجزة اختيار اللفظ في القرآن) . أى عدت ـ كالعادة ـ الى أوراقى القديمة فى العام القرآنى عام 1977 ، وعثرت على تخطيط لعلم جديد فى القرآن الكريم هو (معجزة اختيار اللفظ في القرآن  ). ونشرتها على مراحل .

ونعيد نشرها هنا فى هذا المقال دعوة لمن يتابع الطريق ، ويكتب المزيد والجديد .

10 ـ معجزة اختيار اللفظ في القرآن :

كان مما إكتشفه الامام البقاعى فى القرن التاسع الهجرى ما أسماه بعلم المناسبة فى القرآن الكريم ، وكتب فيه كتابا ضخما ، لا يزال ـ حسب علمى ـ مخطوطا فى مكتبة الأزهر . ولم أعثر على مخطوطة الكتاب فى السبعينيات ، ولكن السيوطى ( الخصم اللدود للبقاعى ) سرق أفكار البقاعى ، ولخّص كتابه فى رسالة قصيرة ، مطبوعة ومنشورة . وما أكتبه ونشرته من (معجزة اختيار اللفظ في القرآن )، يختلف عن (علم المناسبة ) للبقاعى الذى يبحث التناسب بين الآيات والسور . أمّا ما أكتبه فقد جاء نتيجة لبحث نقدى عن إحتمال وجود تناقض فى الآيات المتشابهة ، وكانت النتيجة معجزة لاختيار اللفظ الذى يجعل هذه الآيات المتشابهة يتميز  بعضها عن بعض بلا تناقض ، بل بإضافة معان جديدة ، وتبيان أوضح لهذه الآية عن رفيقتها . ونعطى أمثلة :

أولا :

(بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ) ( بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )

 يقول تعالى "الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) التوبة "

ثم يقول تعالى "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) التوبة "

 فما هى معجزة إختيار اللفظ هنا ؟

أعمال المنافقين تناقض أعمال المؤمنين ، ومصير المؤمنين إلى الجنة ومآل المنفقين فى إلى النار، وهذا ما توضحه الآيتان من سورة التوبة . والسياق الواضح هو التناقض بين صفات ومصير المنافقين والمؤمنين . وفى هذا السياق قال تعالى عن المؤمنين " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ " لم يقل أن "المنافقين والمنافقات بعضهم أولياء بعض " وإنما قال " الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ " .

والتدبر فى هذا المعنى يوضح أحد الفوارق الأساسية " النفسية " بين قلوب المؤمنين وقلوب المنافقين . فالمؤمنون الذين يخلصون قلوبهم لله تعالى يكونون رحماء بينهم ويوالى بعضهم بعضا موالاة تنبع من الإخلاص فى العقيدة والتناصر على الحق وفى سبيل الحق وابتغاء مرضاة الله تعالى ، حيث يحاسب كل منهم نفسه قبل أن يحاسبه ربه .

أما المنافقون فهم حالة خاصة مختلفة عن المؤمنين وعن الكافرين الذين يعلنون كفرهم صراحة . ولذالك ليس غريبا أن يقول الله تعالى عن الكافرين الصرحاء " وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ  " الأنفال  73 " مثلما قال عن المؤمنين المخلصين " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ " لأن كلا الفريقين يعلن عقيدته إن كان مؤمنا وإن كان كافرا ،أما المنافق فهو فى حالة انعدام وزن ، يعلن عكس ما يبطن ، ويضمر نقيض ما يعتقد ينطق الإيمان ويكتم الكفر ، ولذلك فهو يخفى أو يحاول أن يخفى عن الآخرين حقيقة انتمائه ، ويظل فيه توجس وتشكك فى كل من حوله ، وينتظر من الجميع أن يتآمروا ضده ويمكروا به لأنه نفسه يمكر بهم ويتآمر عليهم ويتوقع فى كل وقت أن يضبطه أعداءه فى حالة تلبس ، وهو يعتبرهم أعداءه بينما يعاملهم فى الظاهر على أنهم إخوته ورفاقه .. وهو لا يأمن أن يفضحه أقرب الناس إليه لأنه لا يثق فى أقرب الناس إليه ، ويتوقع الوشاية به فى كل حين ، خصوصا وهو لا يسكت عن التآمر وعن الحقد وعن المكر . ولذلك فهو لا يثق حتى برفاقه فى النفاق . ولذلك فإن المنافقين جميعا على طريقة واحدة هي القدرة على الخداع والخسة والنذالة ، ومع أنهم على نفس الصفات إلا أنهم لا يوالى بعضهم بعضا خشية أن ينفث أحدهم سمومه فى الآخر . لذلك قال تعالى عنهم وحدهم " الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ  " ولم يقل" بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ " .

ثانيا :

( فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً .) ( فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ )..

يقول تعالى في سورة البقرة " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " البقرة / 245 . ) . ويقول تعالى في سورة الحديد " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) الحديد) .

فما هى معجزة إختيار اللفظ هنا ؟

من أكثر أساليب القرآن تأثيرا في الدعوة للصدقة أن يجعلها القرآن الكريم قرضا لله تعالى , وأن الله تعالى يرد ذلك القرض مضاعفا , وقد تكرر هذا الأسلوب كثيرا في القرآن ، كقوله تعالى في سورة التغابن " إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ).التغابن 17 " وفي سورة الحديد "  إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ): الحديد / 18 " وغير ذلك في سورتي المائدة والمزمل .                                      ونقتصر من الأمثلة السابقة بالمقارنة بين آيات سورتي البقرة والحديد .

ففي السورتين اتفقت الآيتان في بدايتهما ,فقالتا " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَه " ولكن إختلفتا فى كيفية مضاعفة الآجر ؛ ففي سورة البقرة " فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ..  " وفي سورة الحديد " فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ .. " .

والمعروف أن الله تعالى يضاعف الأجر على الصدقة في الدنيا قبل الآخرة , يقول تعالى " وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ : سبأ : 39 " . والله يضاعف الرزق ويخلفه فى الدنيا ، ليس فقط في المال ولكن في الصحة والسعادة والأولاد والطمأنينة النفسية والاجتماعية . وهكذا فإن حساب الثواب الدنيوي لا يقتصر على الرزق الظاهر ولكن الأهم منه هو الرزق الخفي الذي لا ينتبه له الكثيرون. وعن مضاعفة الأجر في الدنيا لمن يتصدق ويقرض الله تعالى قرضا حسنا, يقول تعالى " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " فهذه الآية في سورة البقرة تتحدث عن مضاعفة الأجر في الدنيا .

أما الآية الأخرى في سورة الحديد فهي تتحدث عن مضاعفة الأجر للمتصدق في يوم الدين , أو اليوم الآخر بالإضافة إلى الدنيا , يقول تعالى " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَه " أي في الدنيا , " وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ " أي في الآخرة . وفي هذا اليوم يسعى نورهم بين أيديهم وأيمانهم ويتلقون البشرى بالخلود في الجنة ، وهذه هى تكملة الآية .. " يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .. " ، أى يتضاعف أجرهم يوم يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم .وهذا هو الفارق بين الآيتين المتشابهتين وأجر المتصدق فيهما بين الدنيا والآخرة .

ثالثا :

(وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى ) ، ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ) ..

 فى قصة موسى عليه السلام يقول تعالى فى سورة القصص : " وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) ) .

وفى قصة القرية التى أرسل الله جل وعلا رسولين ثم رسولا ثالثا يقول تعالى فى سورة يس : " وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) )

فما هى معجزة إختيار اللفظ هنا ؟

1ـ تحدثت سورة القصص عن قصة موسى عليه السلام من مولده إلى نشأته فى قصر فرعون إلى أن قتل الرجل المصري وأصبح فى المدينة خائفا ، وجاء رجل من أقصى المدينة يحذره من تآمر الملأ عليه ليقتلوه .

أما سورة يس فقد تحدثت عن القرية التى جاءها ثلاثة من المرسلين فكذبوهم ، فجاء رجل من أقصى المدينة يحذر أهلها من عاقبة تكذيب المرسلين .

وفى قصة موسى عليه السلام قال تعالى :  ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى ) ، وفى قصة أهل القرية التى كذبت الرسل قال تعالى : ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ) ، فلماذا اختلف الأسلوب فى الآيتين ؟

2ـ فى قصة موسى كان فرعون ينشر الرعب والإرهاب وحيث يسود الاستبداد والرعب فإن الرجال قليلون ويصبح الجبن والخنوع هما القاعدة وتكون الرجولة هى الاستثناء ، ويكون من المدح أن يوصف إنسان ما بأنه رجل أى وقف موقف رجولة ، وهناك من آل فرعون من وقف ذلك الموقف الرجولي فقال الله تعالى عنه : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) غافر )  أى كان رجلا لأنه جرؤ على مواجهة الفرعون ، مع أنه بسبب الرهبة من فرعون كان يكتم إيمانه .  . ولذلك لم يقل تعالى عن ذلك الرجل الشجاع الشهم الذي حذر موسى : ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ) بل قال ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى ) أى  قدّم كلمة " الرجل " أو صفة الرجولة وصفا لهذا الرجل الشجاع الجرىء الذى قدم من أقصى المدينى يسعى ليحذّر موسى ، ، يقول له : (يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ  )، ولأن الارهاب الفرعونى كان فاشيا فقد خرج موسى من المدينة خائفا يترقب : (  فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) )  .

3ـ أما فى قصة القرية فلم يكن الإرهاب فيها فاشيا بمثل ما كان فى عصر موسى وفرعون لذا لم يكن التركيز على الموقف الرجولي بل على كون ذلك الرجل من أقصى المدينة وأطراف القرية لذا قال تعالى : (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ  )،    أى جاء يسعى من أقصى المدينة ذلك الرجل يحذر قومه من تكذيب المرسلين .

4ـ وقد اشتركت الآيتان فى وصف ذلك الإنسان بالرجولة وبأنه جاء خصيصا لهدف نبيل من أقصى المدينة ، ولكن جرى التقديم والتأخير لكلمة ( رجل ) . والعادة أن يعيش الفقراء والهامشيون على أطراف المدن بينما يحتل الأغنياء أواسط المدينة وأفخم الأحياء فيها والتى تشرف على الأنهار . وقد ذكر القرآن أن آل فرعون التقطوا تابوت موسى من النيل ، أى كان قصر الفرعون على النيل ، بينما كان ذلك الرجل النبيل يعيش فى أطراف المدينة ، مثله فى ذلك مثل الرجل الآخر الذي حذر أهل المدينة .. فقد اشتركا فى صفتين .. وقدم القرآن صفة الرجولة فى صاحب موسى ، وقدم صفة المجيء من أقصى المدينة فى الرجل الآخر .. على حسب الوضع .

 ونستكمل غدا ..بعون الله جل وعلا ..

اجمالي القراءات 17143

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (2)
1   تعليق بواسطة   غسان مغارة     في   الأحد ١٥ - سبتمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً
[73050]

القرأن الكريم الخير كله

 السلام عليك ايها المؤمن الموحد ورحمة الله وبركاته


ان التدبرفي كتاب الله يفتح كنوز فكرية للعقل والقلب لا يمكن تخيلها والاجر فيها لا شك انه عظيم لان الناس يستفيدون منه الخير الكثير كما ان الله عز وجل امر في تدبر كتابه فقال عز وعلا 1 - { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } محمد82

2 - { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } محمد24


فلله الحمد والشكر الكبير


ولك الشكر والتقدير


2   تعليق بواسطة   عبدالرحمن المقدم     في   الثلاثاء ١٧ - سبتمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً
[73060]

;كيف ؟ ومتي ؟ واين هو ؟ من يصل الي الفضاء علي قدميه ؟

أصبحت باحثا مختلفا أيضا . عثرت فى القرآن الكريم على محيط لا حدود لعمقه وإتساعه ، وقفت أمامه منبهرا . لم يسبق لأحد قبلى أن قرأ القرآن بمنهج موضوعى يحدد مفاهيم ألفاظه من خلال سياقاته ، ويتدبر كل الآيات الخاصة بالموضوع بلا رأى مسبق وبلا إنتقاء ، ثم يستخلص الرؤية القرآنية فى النهاية

_----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------       كم من الناس يمكنه الوصول الي التجرد والاخلاص ؟؟؟؟

 


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5111
اجمالي القراءات : 56,684,786
تعليقات له : 5,445
تعليقات عليه : 14,818
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي