رؤية موسّعة في التوسل ونزعات الهدم المادية والفكرية
منذ ما يقرب من عامين فكرت في إثارة مادة فكرية تُمثل محل نزاع لدى الكثيرين، ثم القيام بعرضها عبر أسلوب جدلي يٌقرّب المفاهيم، سيقول البعض ولماذا تثير هذه المادة وأنت تعلم ما حولها من خلاف..الجواب أنني أردت تقديمها بأسلوب جديد يهدم ما لصق بها من سلبيات سواء لهذا الطرف أو لذاك، ويُعيد صياغتها في قالب عملي تنويري أملاً في زوال أي تشويش يحدث من ورائها...واكتملت الفكرة بحمد الله وقدمتها بعد شهور من الصياغة، وكعادتي لا أقدم على الكتابة إلا بعد أن تكتمل قناعاتي وتتجرد في ذهني كافة المفاهيم المتعلقة بها..فأي فكرة لابد وأن تُرافقها نزعة تعليمية تُخضع هذه الفكرة للجوانب الإلقائية والعملية، وعندما تفتقد الفكرة لتلك النزعة فهي إما عبارة عن جزء من كل فنقع في الخلاف الشديد حولها وذلك في إطار بحثنا عن كُليتها لتجريدها، وإما هي بالأصل فكرة متوهمة ليست لها مسوّغ شرعي أو عقلي وتلقفتها أذهاننا- حسب أعرافنا وثقافاتنا المُختلفة.
وفي قضية التوسل أرى أنها فكرة حقيقية وليست متوهمة وبالتالي فهي تحتفظ بمسوّغاتها الشرعية والعقلية لدينا، فقط هي بحاجة لفهم داخل منظومة العمل والإلقاء بعيداً عن الدجل والعُنف المقابل له أو عن الضعف ونزعات السيطرة المقابلة له..فالإنسان بطبيعته يتوق للحرية ويعتقد في حريته أنها مصدر أصيل لقوته الوحيدة، وبالتالي كان رفض الرأي الآخر هو طبيعة بداخلنا نتجت عن اعتقادنا بذواتنا كأولوية..وأننا إذا سلكنا سلوك الحوار والجدل فسيقودنا ذلك إلى الفهم، لذلك فعندما تتعقد أي مشكلة بين طرفين مهما بلغ مقدار تعقيدها فالحل السهل واليسير لها يبدأ من الحوار.
رحم الله أبي القاسم الشابي الذي قال بأن الحياة صراع فبدّلها البعض إلي صراع الحياة..وسواءً كانت هذه أو تلك فثبوت الصراع في الدنيا بدهي، بل تكاد أن لا تجد مجالاً أو منطقة أو مجموعة من البشر إلا وكان الصراع فيهم حاضراً –بطبقاته-كنتيجة حتمية لسنة التدافع…تظهر أنواع تلك الصراعات فتأخذ أشكالاً أقرب إلي صورة الشخص المُخيلة إليه ، فيرى نفسه طرفا أصيلاً يحمل الحق في مواجهة الباطل، وبغرور الإنسان وتناظره وحِرصه علي الانتصار يبعد عن النجعة وتزداد الهَوّة..وبعيدا عن مؤلفات الصوفية والسلفية حول التوسل والتي لا تكاد تخلو من التبرير والأدلجة..أرى أن قضية التوسل بحاجة للتوضيح من مجال آخر أكثر خصوصية للإنسان في عقله وثقافته وعُمق استقراءه..وكأن المسألة لدينا ليست بحاجة إلي علم أكثر ما هي تحتاج إلي عقل وبالتالي إلى فهم..فالعِلم يرتبط بالمعلومة كمغذي أولي ، والمعلومة تعني التقريب وسيادة مفاهيم التواصل، أما لو تحالف العلم مع العقل حينها سيُفنّد المعلومة ويطرحها للتساؤل وهذه أولي مراتب العلم الحقيقية…السؤال ..وعدم التسليم للموروث دون محاججته وإخضاعه للشك.. هذا فيما دون الأمر فيه بالتسليم…
قد يقول قائل بأن قضية التوسل تمس أصول الدين وتجرح التوحيد ولا ينبغي التهاون فيها…وقائل آخر يقول بأن التوسل جائز وهو قول جمهور السلف والخلف ولكن يفعله المتوسلون بشرائط تحفظ لهم دينهم وحبهم لأولياء الله الصالحين …إذن نحن أمام طرفين..الأول يفعل والثاني يُنكر..ولكن لم يسأل أحد منا من قبل ماذا لو لم يلتزم كل فريق بضوابط الفعل والإنكار؟..هذا ما أود الإِشارة إليه كمُدخل لفهم تلك القضية التي تسببت في شقاق بين المسلمين وتشيعهم لفرق متناحرة تقاتل بعضها بعضاً علي التافه والعظيم..
إن الطرف المُدافع عن التوسل يدافع عنه لاعتقاده بأنه لازم من لوازم حب الولي الصالح..ومنهم من يرى في التوسل وسيلة فطرية تدفعه رغباته الإيمانية بالاستزادة من سيرة المتوسل فيه..وكأنه يري القدوة العملية في ذهنه حاضرة وبحاجة لإخراجها من حيّز الصورة إلي حيّز الفعل..أغلبهم يعلمون ضوابط الفِعل ولا ينساقون وراء أهوائهم التي أحيانا تخرج بهم عن المألوف فيرتكبون جُرماً عظيما..وفي الغالب يقع هذا الطرف أسيراً للعُزلة..فيعبد الله بحواسه قبيل عقله وينساق وراء عاطفته الجياشة -التي يتميز بها عن الآخرين..فتُسقطه عبادته في براثن العُزلة والجهل بالتركيبة المجتمعية والسياسية والثقافية المحيطة به..فيرى مصطلحات العصر-المتداولة-شذوذا عن العقائد ويُخضع الأحدث لمعتقده ، ولن يقع في ذلك المأزق كل متفتح من ذلك الطرف يعلم معني الحب والإيثار أشمل مما درسه وتلقاه علي أيدي مشايخه فيسع صدره وعِلمه الآخرين.
أما الطرف المحارب للتوسل فحاله أشبه بحال المدافع وقد يفوقه سوءا..وكأن قضية التوسل ليست بحاجة إلي هجوم أو دفاع أكثر من حاجتها للعقل الذي يضع لها معايير خارج الفهم الموروث والمُقيّد بقيود الزمان والمكان..فحال الهجوم لن يخلو من الأخطاء ولو لم يراجع ذلك الطرف أخطائه فستُهدم شخصيته لأنه لا حقيقة كاملة دون الخطأ والاعتبار منه..وحال ذلك الطرف علي خطر عظيم..فالهجوم الدائم قد يقلب الإنسان إلي وحش كما قال "نيتشة" بضرورة أخذ الحذر عند مقاتلة الوحوش لئلا يُصبح المقاتل وحشا…هذا هو الإنسان ضعيف المَلكة، تدفعه حواسه للحُكم والفِعل دون وضع حواجز تحول بينه وبين الغلو.. وبالامكان أن نري تلك الوحوش الافتراضية في مجتمعاتنا بوضوح…
ستري أن أكثر المحاربين للتوسل قلوبهم غُلف ولا تتقدس لديهم القدوة إلا بخضوعها لهوي المحارب ورأيه، فهم يرون التوسل فِعلاً جارحا للعقيدة وهؤلاء أرجح أنهم مُقصّرون في واجبات التربية الإيمانية أوالتثقيفية التي تجعل مقاصد الإسلام وروح شريعته نبراسا لهم أمام أعينهم ،وأكثر هؤلاء صناع للفِتن ..فتَحكّمِهِم في أنفسهم بسيط مع وجود حافزهم أقوي..ولو أعملوا عقولهم لوقفوا علي أن التوسل هو فكرة قبل أن يكون فِعلاً جارحا للعقيدة..ولن يُجابه الفكرة سوي الفكرة المضادة الخالية من الإقصاء أو التهميش الذي قد يضع الهدف المقصي في خانة الضعف مما سيجلب لها الأنصار..أما الفكرة المضادة الصحيحة هي قيام الفرد علي ذاته بالتثقيف والاحتكاك والحضّ عليه، وأن يهَب نفسه للحُبّ والإيثار..وأن لا يَعجل بزوال المُنكر -وإلا لم يكن هذا الفعل منكراً..وأن يقوم علي إِشغال فراغه وفراغ الناس ، وأن يعمل كحلقة مجتمعية لقتل الجهل بالتحريض علي معرفة أوجه الخِلاف وتدارسها ببيّنة عقلانية وروحية شرعية..
بينما ستري أكثر المدافعين عن التوسل يُفرغونه من مضمونه الداعي إلي حبّ الولي والاقتداء بسيرته وتقليده في عبادته..فينقلون التوسل من مجال العبادة والتطهير إلي مجال التعصب للفكرة..فالمحارب يترصد لهم ولو لم يدافعوا ستُمحى هويتهم وهوية الأولياء…ولو أعملوا عقولهم سيجدون أن لا حاكم عليهم سوى أنفسهم..سواءً بقي ها القبر أم ذهب ..أو ضعفت فكرة التوسل أو قويت.. فالتوسل في مكنونهم دافع للعبادة أكثر منه شرطاً أو وسيلة..فهم الذين يصنعون ويحملون التوسل..وبالامكان زرعه كفكرة في قلوب الأجيال دون التعرض للدافع أصلاً ، هذا الدافع الذي ومن كثرة الدفاع عنه وإبرازه كفكرة مقدسة -أو جائزة مُدافع عنها- ستوضع في قفص الاتهام وسيُشار إليها كمُنكر لدى العامّة..
من تلك الظواهر وقفت علي رأياً وسطا أسوقه كالتالي:
1-أن قوله تعالي"وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان"..هو قولُ كافٍ لاختصار طريق الدعاء وعدم التكلف.
2-ضرورة الحضّ علي حُبّ الأولياء وتدارس سيَرهم لزرع القدوة أمام الأبناء..خاصة أننا شعوب بحاجة ماسّة إلي إظهار قدى تتسم باللين والزُهد والحبّ والمقامات الربّانية والعِرفان.
3-يتميز الصوفيون بإنكار ذواتهم وتنمية نزعاتهم الاجتماعية..فالتصوف –كفكرة- تغرس لديهم الإيثار والزُهد..وهاتين القيمتين كافيتان لبناء مجتمع ناجح و مترابط.
4-يتميز السلفيون بغيرتهم علي العقيدة..ولكن من الغيرة ما قتل والتكلف يودي إلي المهالك.
5- أن علي الطرف المحارب للتوسل عليه بناء ذاته وإنسانيته بعيدا عن فكرة الوصاية علي الآخر التي تستحوذ علي عقله، إضافة إلي إظهارها للاقتداء بها ظهوراً لا رياء فيه ومُفعم بالإخلاص والربانية..
6-ضرورة الحِفاظ علي الآثار الإسلامية ومن بينها قبور الأولياء ومقاماتهم..فأي أمة تفرّط في آثارها ينقطع الحبل بينها وبين ماضيها..
7-لا أري في قضية التوسل حاجة للزهد عن الخوض فيها..وكأنها قضية تراث إسلامي مختلف عليها بين الفقهاء وحسب..وإلا لن نُراوح أمكنتنا وسنظل في دائرة الخلاف تتسع وتضيق حسب مستوي العِلم وجُهد العلماء..من الضروري بل من الواجب النظر إليها برؤية أكثر عصرية مما قُرئ عنها في الكُتب…
لو نظرنا إلى أي قضية شرعية ومجتمعية -ومن بينها التوسل- سنرى أن المقصود منها مرضاة الله حسبما يظن الفاعل أنه مأمور شرعاً..فإذا كان الجميع يسعى –بطريقته- لتحصيل مرضاة الله فحين اختلافهم حول أشيائهم يكون خلافهم تابع من تصورهم لها..وبالتالي لا صورة واحدة يجتمع عليها الفُرقاء وإلا سينتفي تعدد المصاديق،حينها وجب بحثهم عن أصول الخِلاف –لتوحيد الصورة- وأن يعملوا لحلّها طمعاً في نيل الحقيقة..فالعائق الذي يمنع البحث عن أصول الخِلاف هو نفسه من اعتقد في رأيه وفِعلهِ الحق، والإنسان بفِطرته باحثُ عن الحقيقة ومع ذلك ليس هو الحقيقة..فلا من حارب التوسل مُحقاً ولا من دافع عنه كان ناجيا..
أحاول أن أستجمع تلك الصورة للرجل الذي يقف متمسحا بالمشهد داعياً بجاه الولي وقد يستغيث به، فالصورة المُنطبعة للولي في ذهنه هي لرجل صالح له مقام عظيم عند الله، فكان تصرفه وكأنه يعتقد بوسيلة بينه وبين الله.. أن اشفع لي ياسيدي عند ربي ، إنني مأزوم ومهموم إنني مخطئ وعاصي ،هذا الرجل مِسكين ضل طريق الله من أوسع أبوابه المُسجلة في الأمر الشرعي الصريح.."أن ادعوني فإني قريب".. يبحث عن السعادة ولكن قلة علمه بطريق السعادة حالت بينه وبين تحصيلها بطريق آخر غير هذا الطريق..فهو يعتقد أن السعيد غير مُحتاج وأن الأثرياء هم السعداء، وبحسب منطقه لن نري ثرياً يفعل ما يفعله المتوسلون بتلك المشاهد..
صورة أخري لرجل يقف بذات المشهد ويفعل ما فعله الأول..ولكنه يدعو دعاءً عِرفانياً كي يري الله بقلبه بعدما عجز عن رؤيته بحواسه، فهو يهيم شوقا في حب الله متأسياً بالرجل الصالح -صاحب المشهد، يدعو من خير الدنيا والآخرة فهو علي عِلمٍ بما يقول وصورة الرجل الصالح لا تفارق خياله..يري أن ذلك كان مسلكاً للسلف وللخلف فلا يشك بما يفعل..هذا رجل صالح ولو اختصر دعائه دون الرجل الصالح لما خسر شيئا ولم يكن لينتقص من صاحب المشهد ولو مثقال ذرّة..فقد تكلّف بدعائه بدليل أنه سعى لمعرفة الله بقلبه ثم تحول الوسيلة بينه وبين ربه فكيف يتصل الحبل العِرفاني وبينهما وسيط.
وعلي النقيض من رواد ذلك المشهد أري رجلين أحدهم غارَ علي دين الله عِلماً بعدما عَلم أن هذا السلوك كان فِعل الأولين من الكَفرة والمشركين ولكن عدم تمكنهم من أنفسهم وضبطهم لعلومهم انداحت لهم -وورثتهم -المسألة باعتقاد النفع والضرر فيهم من دون الله، فلا يجلس في المكان إلا وأنكر علي من فَعل..فكان تصرفه شهوة ساعة وكأنها غايته في الدنيا –أن يمنع- ومن أجل ذلك وُجد،فيُهمل نفسه بجهله للولاية وأصحابها الأتقياء الأنقياء.. الذين وصفهم ربهم بأنهم لاتتجافى جنوبهم عن المضاجع ويدعون ربهم خوفا وطمعا، ولو فعل لعَرف معني المنع الذي قام، أن لا منع إلا بعِرفان وأن شهوته قد تحول بينه وبين إصلاح ما ظن أنه فاسد..القضية لديه بحاجة إلي ضبط نفسي وعقلي يقيمان الدين في النفس قبل البحث عنه في ذوات وأفعال الآخرين، وتلك هي الحكمة أن أصلح نفسك قبل أن تصلح الآخرين وإلا شاب فِعلك فساداً من حيث أردت الإصلاح، وتُصبح وحشاً من كثرة مقاتلتك للوحوش..وما عِبته عليهم بعدم الضبط والتمكن وقعت فيه يامسكين، فرأوك جافيا مجافيا..غليظا فجا فانعقدت لديهم الآمال في غيرك وصِرت شر من يُمثل قضية وأتاها من حيث لا يعلم..
بينما الآخر كان لديه المنع.."نزعويا"..فهو جاهل بسلوك السلف والخلف..ولديه رأي واحد أن هذا شِرك عظيم وأصحابه ليسوا بشراً مخطئين ولكنهم فاعلين متعمدين..رافضاً للحوار ومُقلدُ عظيمُ لسلفه الأولين الذي ظن بجهله أنهم سلف الأمة المختارين..فقادته نزعته إلي التقوّل علي الولي الصالح بعلم أو بدون فوقع في الإثم العظيم أن انتقص من أولياء الله وقام علي هدم القدوة في أذهان من رجاها وسعى إليها..هؤلاء في الأًصل ليسوا مخلصين فعبادتهم لله -يسعون إليها- رهبةً وخوفاً دون الطمع والرغبة وإلا انعكس ذلك علي سلوكهم وصاروا كمثل الأول الذي قام بالمنع علماً وفهما للقضية وللموضوع ، أن نواجههم في مهدهم قبل أن نراهم مشركين..
الفارق بين الأول والثاني هو نفسه الفارق بين البناء والهدم..فالثاني أقرب إلي الهدم منه إلي البناء، ولكن الأول ليس ببعيد عن الهدم فقد يهدم نفسه دون أن يدري، والاثنان علي قاعدة معرفية ليست متينة..فعبادتهم لربهم تجاوزت المعرفة بالله بأن عبدوا ربهم-بظنهم- خوفاً وطمعاً دون سلوك الحُبّ.. أن يُحبّوا الله فهو الواحد الذي يستحق العبادة والأهلية، فيُحبونه ومن فرط حبهم ينسون الخوف والطمع ولو أنهم في قرار أنفسهم راجين خائفين،فيتوجهون بقلوبهم في رِحابه ويضعون عن أنفسهم الوهم وهوى النفس ولا يقعون أسرى لتلبيس الشيطان عليهم.. فيعرفون معني العبادة ، وأن تنعكس عبادتهم علي سلوكهم فتتهذب مَلَكاتهم، وتَخفُق قُلوبِهم لمن يُحب الله ولو بطريقٍ ليس كطريقهم..
على جانبٍ آخر فقضية التوسل ليست نصية أكثر منها روحية وعقلية..لها جانب نصي فيما يُعرف بالدليل، وهو لدي الفقهاء مختلف فيه بين ما يصلح لأن يكون دليلاً وما لا يصلح للاستدلال..القضية طويلة ومُعقدة وقد قرأت قولا للشيخ حسن البنا -رحمه الله- يُجيز فيه التوسل بالأفعال والمنازل ولزمه مع حب العبد للصالحين..ومن الغريب أن نري فقيهاً كالعِزّ بن عبدالسلام وهو صوفي النزعة والهوى والطريقة ولكنه كان من ضمن المانعين..في المقابل تري فقيهاً آخر كالشوكاني وهو سلفي النزعة والهوى ولكنه كان من المُجيزين..إذن نحن أمام قضية لا ترتبط بعِلم ولا بنص أكثر من ارتباطها بالعقل الكاشف لذلك النص وبالروح التي تستشعر هذا السلوك..
أعظم طريقة تكشف سلوك الإنسان وتضعه في مواجهة بين عقله ومبادئه هي إخضاع الأشياء للسؤال…هكذا..لماذا هذا ولماذا تلك وماذا سيحدث لو..من هنا أقف علي أن الأيدلوجية -الموِجّهة لكلا الطرفين المختلفين- مرتبطة بالكسل العقلي أكثر من ارتباطها بنص -أياً كان درجة صِحته وقول الفقهاء فيه..أيضا ترتبط بالنزعة التقليدية أكثر من نزعة التجديد..فكِلا الطرفين مُقلدين ومن الصعب إقناعهم بخِلاف ما نشأ عليه كل فريق..لذلك أري الحاجة ماسة للخروج من بوتقة التقليد واعتبار أنّ ما ألِفَهُ الأولون خاضع للسؤال لاعتباره صادراً من قول غير معصوم..هكذا ستُحل إشكالية التوسل بكل سهولة..وبغض النظر عن الدخول في حوار الهدف منه البحث عن ما يوافق الهوى والنزعة أكثر من تقصي الحقيقة...وهذا يتسق مع كون علاقة المسلم بالمخالف هو الاستيعاب لا تعزيز الخِلاف وكأنها حرب بين خير وشر، فلا من حارب التوسل كان مقلداً للنبي ولا من دافع عنه كان متأسياً به..كمثل تلك الخِرقة التي تقطعت التي إذا ما أقدمنا بتجميعها وخياطتها وتأهيلها للملبس كانت شيئاً جميلا….فالخِرقة التي تقطعت هي الدين ..وقِطعها المتناثرة هي فهمنا الجزئي له…فإذا ما سلكنا العمل علي تجميع هذه الخِرقة بانت لنا واتضحت صورة الدين بأسمى قِيَمه ورِفعته وكماله.. فتلك النزعة الوحدوية ضرورية لفهم الدين فهماً كلياً يُقرب لنا فهم سلفنا الصالح له..
حقيقة فإن الكثيرين ممن يعتدون بالتوسل- كسلوك- يقرأون قولة تعالي"إني قريب"..بحقيقة بُعد العبد عن ربه وبذلك فلا تعارض بين الآية وحقيقة التوسل الذي يُفترض فيه بأن تلك العلاقة لا تقوى إلا بوسيط..وفي هذا نُظُر..فحقيقة العبادة لله في الأمر الصريح.."أعبدوا الله"..ولم يُشرك رب العزة هذا الأمر بمخلوق حتى يبدو أنه كوسيط..فهو أمر مباشر وقد تكرر في عديد الآيات التي نفت الوسيط بين العبد وربّه..لماذا أقول هذا الكلام….لأن المتوسل في الغالب ينطلق من قاعدة العصيان أو البُعد ليسلك مسلك التوسل كي يكون أكثر قُربا لخالقه..وهذا الفِعل وإن بدا نزيها إلا أنه قد يجلب بعضا من التواكل والكسل فيظن العبد أن العلاقة بينه وبين ربّه متعلقة بفلان أو عِلاّن، وكأن باب الله لن يُفتح إلا في أوقاتٍ معينة ،وبهذا جعل العبد عبادته لربه من جانب دون جانب.. حقيقة لست من هواة التعقيد ولا أحسب نفسي إلا طارحاً لأفكاري بسلاسة ويُسر، وتلك العبادة من ذلك الجانب قد تتعارض حقيقة مع هدى الله لعباده التي ربطها الله في أكثر مواضع القرآن بالتقوى وبالتالي فلا حاجة للعبد إلى وسيط..
يقول الله تعالي.."ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين"..فالقرآن هداية ولكن لمن؟..هو هداية للمتقين..والتقوى محلها القلب، وللمتقين صفات في القرآن خَصَّها الله لعباده الصالحين كالإيمان بالغيب وهو أشمل ومنه تأتي سائر العبادات..، فيكفي العبد تدارس ملكاته وتهذيبها عن المعاصي وإقامته لدين الله –كما فهمه-في نفسه كي يكون ممن هدى الله ، ولا تقوى حقيقة إلا بإرادة السلوك..ومنه يأتي الربط بين هدى الله وإرادة العبد….فمن يجعل فكرة الوسيط واجبة كمن قطع العلاقة بين الهُدى والتقى واشترط علي نفسه- بتكلف-طرفا ثالثا قد يحرمه من التدبر الذي لا يحتاج إلى متخصصين..تكفيه الفطرة.
إن الإنسان كي يسعى لإثبات ذاته وبنائها بناءً علمياً عملياً لابد له من شروط أهمها التخلي عن أي مطلب دنيوي كتحصيل المال مثلاً، فطلب المال وطلب العلم لإثبات الذات لا يجتمعان، كالذي حرص على الدعوة بوظيفة تقوم أولاً وأخيراً على تحصيل المال أما الدعوة فهي عمل لديه مُعتاد وأحيانا بحُجة فراغ الأتباع وانتظارهم للداعي، في هذه الحالة أصبحت مقاومة النفس الأمّارة بالسوء في غاية الصعوبة، هذا لو أراد المواجهة أو خُلق لديه الدافع أصلاً، فالنفس تميل دوماً لحب الظهور وسد الحاجة، وغايتها أمام الناس تختلف عن غايتها الحقيقية باختلاف التبرير وشرح المقاصد العامة للفعل، لذلك فإن العالم الداعي الذي يسعى إلى تحصيل المال قلما ينتفع من علمه، وفي الغالب تنطبع لديه دعوة روتينية لا بحث فيها ولا نَظَر، فإبداعه مُقيد بقيد الرغبة في العلم.
هذه إشارة إلى أن اللاجئ لفِعل التوسل أحياناً ما يقع أسيراً لدعواتٍ تقليديةٍ جامدة لا بحث فيها ولا نَظر، فما عُرِف عن السلف كافٍ للتعيين دون النظر، وهذا يقتل الرغبة الإصلاحية لدى المتوسل ويستبدلها بأفكار جامدة كثيراً ما يتسبب تهويل الإنسان لها إلى جرائم عقدية ليست من الإسلام، هنا قد يكون للعِرفان دور ناهض، يجب التركيز فيه على احترام العلماء وتوقير العارفين والتأسي بما عُرف عنهم،والعِرفان -ذو الدعوة العملية- هو الأكثر تأثيراً في صَلاح بني البشر عامة، وهو عين الحكمة ومسلك كافة فقهاء الدنيا وفلاسفتهم، فالطفل منذ الصِغر وبتقليده للكِبار لا يعرف إلا الدعوة العملية، وبصلاح الكبير يَصلُح الصغير، وقد تأتي مرحلة عُمرية للتلميذ يفترق فيها عن أفكار وأعمال المُعلّم هي النقطة التي يأتي منها الخلاف.
سواءً بقي البشر أو فنوا من هذا العالم لن يضر الله شيئاً،وإثبات الإنسان لذاته يأتي لتقويم سلوكه وعدالة أفكاره لنفسه كي ينتفع بها في هذا العالم، وأن يصنع لديه الإرادة لفِعل الخير، كل هذا يفعله الإنسان تبرّماً من النقص الذي لا يتسق مع فطرة الإنسان..فلا يوجد إنسان على وجه الأرض يرضى بالنقص،قد يرضى حينها بالعجز لضعف قدراته، أما أن تُتاح له الفرصة لسد النقص –بعد رصده-فلا أعتقد أن هناك إنساناً سيُفرّط في هذه الفرصة، وبناء الإنسان لنفسه سيخلقه عزيزاً عند الناس، أو كما قيل بأن تبني نفسك وتبخل عن ما في أيدي الناس عامة فتُصبِحَ عزيزاَ...لماذا أقول هذا الكلام؟..لأن فاعل التوسل عادةً ما يعتقد في ذاته النقص ولا يتبرم منه ويرضاه، يفعل ذلك بحُجة أن هؤلاء أسياده ومهما فعل فلن يصل لمنازلهم عند الله ، هذه فكرة فاسدة بالطبع وفسادها في جلبها للتواكل وللكسل، وأظن أن أكثر هؤلاء كُسالى لا يخدمون مجتمعاتهم أكثر من خدمتهم لأنفسهم، وهم معزولون داخل دائرة ضيقة لا تكاد تتسع إلا لمن يوافقهم وأفعالهم، ليس الكل إنما لكل قاعدةٍ شواذ..إنما هذا التيار في الغالب لا يستمع للنصائح -مقلداً، والسبب كما قلنا في السابق قد يجوز لفساد فكرة المواجهة من أناسٍ يعملون على تحطيم هذه القدى لديهم، أو أنهم أنفسهم مِثالاً للفساد أكثر من الإصلاح، ومن يفهم هذا التيار جيداً يعرف كيف يتعامل معه.
أما الآن فسننتقل إلى تصوير سيكولوجي مادي لنزعات الهدم التي يتبعها البعض لمحاربة التوسل..وسنضع لها تصويراً من زوايا عِدّة لقتل هذه الروح الغريزية.. واستكمالا للفكرة الإصلاحية التهذيبية سنعرج على قضية الهدم مُمثلة في قضية هدم الأضرحة، ولكن كالعادة سننظر إليها بإيجاز.. بعيداً عن حُكمها الشرعي الذي يسوغ فيها الخلاف بين علماء المسلمين ، فالخوض في غُمار هذا الحُكم -من الناحيتين الفقهية والعقدية- سيودي بنا إلى التكلف والتعسير..أما الإسلام فهو سهل وبسيط وتلخص فكرته الإصلاحية في البناء وليس في الهدم..تلخص أيضاً في إيجاد البدائل قبل التفكير في مآلات المشاهد..وكأننا ننظر للمسألة بطريقة تصور مختلفة تنتقل رحابها من إنسان إلى إنسان آخر يرى في تلك المشاهد ظُلمةً ونورا..جهلاً وعلما..تقوىً وضلال..جنةً ونار.
لذا كانت الحاجة لنا للنظر للمسألة من زوايا أخرى أكثر رحابة وواقعية..وسنبدأها بالزاوية الاجتماعية ثم نعقبها بالعروج على الزوايا الأخرى على التوالي..فتعيين الحالة الاجتماعية لقضية هدم الأضرحة لابد وأن تكون استثنائية كي تخضع لجميع معايير الحالة الاجتماعية للظرف الاستثنائي، وبما أن هذا الظرف سيُنتج حِراكاً قد يؤدي إلى صدام بين فئتين فجاز لنا القول بأن هذا الظرف الاستثنائي قابل للدحض -كفكرة -وحال مخالف للواقع الافتراضي- الغير صدامي..من وجه آخر فإنه ليس كل صدام سيؤدي إلى تنوير كما يزعم بعض الديالكتيكيين…فالصدام في بعض الحالات يُورث ضغائن وأحقاد تتوارثها الأجيال..هذه الموروثات لا تُزال بغير التوعية ونشر العلم..لذا كان من الأصلح في هذه الحالة أن تُستبدل الفكرة إلى حالة توعوية تؤدي إلى التنوير الحقيقي الخالي من نزعات الصدام- ذات الخلفيات الدينية..فالتنوير هنا له أصل روحي يُميّز بين علاقة الله والإنسان وبين علاقة الإنسان بنفسه، فالعلاقة الأولى قِيَمية أخلاقية لوجود غاية عظمى يسعى لها الإنسان لتحصيل الأجر..والعلاقة الثانية نفعية بحتة..مادية لو خَلَت من أي فكرة إلهية فهي خالية من الأخلاق بالتبعية.
لذا كان كل من يجور على العلاقة الأولى لصالح الثانية فهو مُفسد لا محالة، ويتساوى في ذلك كل من اتبع شخصا دون غيره في ذات المسألة وبين من جعل نفس الشخص إلهاً يُعبد..فالتنوع واجب وقصد العلم من تتبع الخِلاف وليس الجزم بعدميته، ولكن ليس معنى وجود الضرر أو المفسدة أن يكون عدم منفعة..هنا كانت الحالة أشبه بالحالة الافتراضية الأولى-الغير صدامية- التي خالفها الظرف الاستثنائي القابل للدحض..خُلاصته في فساد التحرك الأول الذي صنع الظرف الاستثنائي المعروف لدينا بهدم الأضرحة..وهذا إثبات واضح من ناحية عقلانية واجتماعية موجزة..بأن القائم على الفكرة وتنفيذها هو مُفسد في الأرض ومخالف لشريعة الله الإصلاحية بين بني البشر.
أما من الناحية الثقافية فالمطلوب من المرء أن يكون عارفاً مُطلعاً ولو على معلومات وأفكار لا تُرضيه..وطُرق تحصيل المعلومات لا تخلو من إنكار للذات- عملياً..فالقارئ العارف لابد وأن يتسلح بالتواضع وإلا فسينظر لأي فكرة جديدة بموضع شك أو رفض أو خوف..يقول الله عز وجل.."ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا"..وكما أوضحنا العلاقة بين الهُدى والتُقى- في معرض العلاقة بين العبد وربه..يبدو لنا تلازماً من وجهٍ آخر بين .."التُقى والقُدرة".. وذلك على التفريق بين الحق والباطل، وكما أثبتنا في الفكرة الاجتماعية أن القائم على هدم الأضرحة حكمُهُ حُكم المعتدي فيتبين لنا انحراف وِجدانه وخطأ تقديره بدلالة تَلبّس المسألة عليه وعدم قدرته على التفريق ..وبالتالي وقوعهِ في الآثام وإلا فسيقف لثبوت الشك.
فالفكرة الثقافية المتعلقة بالبناء نابعة من الحالة الثقافية للمجتمع الحاضن لهذا الفعل، والوقوف على ماهية المجتمع تصعب في هذا الزمان، ذلك لأن الحدود بين الدول والشعوب أصبحت كالسراب وبالتالي سقطت فكرة.."أهل مكة أدرى بشعابها".. وكما أن الثقافة في أصلها معارف وعلوم فالإنسان المثقف لن يكون مثقفاً إلا باطلاعه على كل خِلاف دار حول المسائل ومن ضمنها مسألة هدم الأضرحة..فلا يتعين على الفاعل القيام بما يريد إلا بتجاوز الخلافات وخاصة الفكرية منها، وإلا لن يكون مثقفا...إذن فالتفريق بين الحق والباطل مشروط بالمعرفة- شرط الثقافة-والثقافة كما أنها علوم ومعارف وبما أن العلوم والمعارف لا ينضب معينها إذن فالثقافة أصلها الإحاطة بجميع أوجه الخِلاف وتجاوز كافة الشُبهات، وأنه لا حق إلا بإجماع لا لبس فيه ويكون مُعتبر وبدليل صحيح وصريح لا يقبل التأويل..ولو ساغ فيه الخِلاف وكان التأويل فيه على أوجه ، حينها خرجت المسألة من سياق اليقينيات إلى سياق الظنون وبالتالى أصبحت شُبهة ومن اتقى الشُبهات فقد استبرأ لدينهِِ وعِرضِه.
أما الزاوية الأخلاقية فهي عماد المسألة، فالأخلاق بطبيعتها ترفض الهدم وعندما يجرؤ الإنسان على فِعلٍ فهو إما عالم به وبعواقبه وحينها سيتحرز قدر إستطاعته، أو يجهل الفعل وعواقبه وحينها سيُقدم على التبرير له بقصد قطع الطُرق لإدانته..فهو في هذه الحالة يرى في خصمه ذلك الكيان العاصي الشرير الذي يجب نحره فكريا حتى يطمس لديه أصل معاصيه وشروره ، يفعل ذلك الإنسان ما فعل في تصرفٍ شائع بين الناس تحت مسمى "الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر"...لكن فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر لابد لها من ممارسات مفيدة ،ولو أدت هذه الفكرة إلى ضرر فلا فائدة منها وينبغي إعادة فهمها من جديد، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المُعضلة عند البعض بقوله تعالى.."وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"..ولا بر ولا تقوى في وجود الضرر، ولا إثم وعدوان مع منفعة..هكذا يُفهم الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر بسهولة ويُسر،أن التعاون على البر والتقوى سمة الجماعات الصالحة وأن والتفكك والعُنف الناتج عن الإثم والعدوان هو سمة الجماعات الضالة.
حقيقةً فالمخالف في الإسلام له قُدسية يلمسها العارفون، تتضمن هذه القدسية وجوب العدل معه وإنصافه مصداقاً لقوله تعالى في مواضع عِدّة.. "اعدلوا هو أقرب للتقوى".."وأمرت لأعدل بينكم".."وأقسطوا إن الله يحب المقسطين".."قل أمر ربي بالقسط".."وإذا قلتم فاعدلوا"..فالمخالف في الإسلام مُحصّناً تحصيناً مانعاً لأي اعتداءٍ على كرامته وخصوصياته وأملاكه فضلا عن اعتقاده وحرياته….أيضا فالإنسان المخالف -أيا كان منهجه أو اعتقاده -لا ينبغي التفريط فيه بحال، فهو كالثروة القومية التي لا ينضب معينها عند العُقلاء، بمعنى أن وجود المُخالف في حد ذاته يخلق دافعاً للإنجاز والمنافسة على المستوي العملي ودافعاً للتطوير والتجديد على المستوى النظري والفكري، ومن يظن في مخالفه أنه شر من الشرور الكثيرة فقد قدم أولى استمارات نهايته ونهاية مشروعه في هذا العالم...إذن فالزاوية الأخلاقية تبدأ من قبول الآخر قبولاً وجوديا -على أقل تقدير، وأن العمل على قهر هذا المخالف هو إيذانٌ بنهاية أخلاقية مأساوية على جميع المستويات الفردية منها والجماعية-عدا المعتدي.. وقديما قال شوقي.." إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا"…
أما لمن يلجأ إلى تبرير أعماله فالإنسان ليس بحاجة إلى تبرير ما يفعله إلا لو كان مُحيطا قديرا بالمسألة من جميع جوانبها ، وأن يكون متسلحاً بوِشاح الحق والثبات على الرأي ما دام لا ينقص من حقوق الآخرين، فالتبرير هو سقوط أخلاقي مرير يقع في أسره عادةً طُلّاب الهوى وسائر الضعفاء أمام نزواتهم وشهواتهم..وفي الغالب ما يقع التبرير في أمرين اثنين هما.." السياسة والعلم".. وبالذات العلم الشرعي، ذلك أن النفس بحبها للظهور ولرفضها للهزيمة تميل إلى إظهار دوافع هي ليست الدوافع الحقيقية لأفعالها، ومع التكرار ينكشف أمر المُبرّر، ومع توالي الهزائم والنكبات ينكشف أكثر، أن أسبابه التي ساقها قديما ليست هي الحقيقية وأنه كان يكذب...أيضا ما يسوق إلى التبرير ذلك من يقوم على الهدم بتفكير مُجرد يُطلع الآخر على تفاصيل المسألة مُتجنبا مضمونها الإنساني وفكرتها الرئيسة، كمثال من يُقدم على هدم الضريح فيُشرع على الفور في إظهار تفاصيل عمله وأن ما فعله لتجنب الشرك بالله ولمحاربة الجهل والخُرافات وما إلى ذلك من أسباب قلنا أنها تبدو مقنعة للناس، ولكن دافعه الأصلي -وهو ضيقه من الآخر- قام بكتمانه، وأنه وفور انتهائه من التخلص من هذا الأمر سينتقل إلى ما بعده في سلسلة هدم لن تتوقف، فبتفكيره المُجرّد وتبريره لم يقف على لُبّ المسألة، وبجهله وكِبرِهِ خاض في التفاصيل ، فالجانب الإنساني لديه من القضية صعب الخوض فيه لأنه سيكشفه كإنسان عدواني ينزع إلى الفساد أكثر من الإصلاح.
وقد يكون الفاعل هنا لديه مشاكل اجتماعية أو روحية ،وبدلا من مواجهتها بما يناسبها فيشرع على الفور في تحويل مشاعره الغاضبة من هذه المشاكل إلى مشكلة أخرى عبر ما يُعرف في علم النفس بالإزاحة، ومعناها أن يُزيح الفرد عنه أي مشكلة بافتعال مشكلة أخرى، وبالتالي يخرج من حيز مشكلته القديمة إلى فضاء أكثر قبولا لديه ولأهوائه التي تملكته في تلك اللحظات، وهو وإن كان شخصاً عنيفاً في ذاته فسيلجأ في الغالب إلى هذا السلوك، أما لو كان ممن لديهم خيالاً خِصباً أو مشاعر فِضفاضة أو سلوكاً مُهذّباً فمن الصعب عليه أن يسير في هذا الطريق دون أن يجد لديه الوازع لكسر أهوائه العدوانية التي اكتسبها في أوقات ضعفٍ فكري وخللٍ تربويّ.
ولو انتقلنا إلى الزاوية السياسية فسنرى أن أكثر الأزمات التي يُقابلها السياسيون هي اهتزاز صورهم أمام الشعوب، وعليه كان من أبجديات العمل السياسي أن يتعلم الدارسون كيف يتحكّمون بعواطفهم بعيداً عن الانفعال أو الخروج عن المعتاد، هناك بالتأكيد صورة تنطبع في أذهان الناس يملؤها الهيبة والوقار عن العاملين في السلك الدبلوماسي عامة، هذه الصورة تظل موافقة للأسماء المُرادة حتى أقرب الأجلين سواءً لترك الوظيفة أو للوفاة، حتى أنها تظل بعد الوفاة لا تفارق هذه الصورة أذهان الناس، وكثيرا ما أصبحت هذه الصور محلّ أعمال المبدعين في إخراج أعمال كوميدية لتصوير هذه الأسماء بخلاف ما اعتاد عليه الناس، النتيجة هي صورة جديدة كاسرة للعادة تجلب البهجة والضحك في القلوب.
كذلك لابد للسياسي أن يتجنب كل ما يُثير كراهية الناس واحتقارهم، فخطابه التوحيدي هو أسلم طريق للخروج من مُعضلة السياسي المُهدد بفشل مشروعه أو إقصاء جهته–أياً كانت-لذلك كان العمل السياسي التوافقي هو أنجح صنوف العمل السياسي تأثيراً وانتشارا، قد يحدث تقصيراً فيما يخص عدم مواجهة الإشاعات ونبض الشارع كما ينبغي..لذلك كان السياسي الأقرب إلى الشارع ونبض الناس هو الأعلم بكافة خيوط اللعبة السياسية وكيفية تحصيل النجاح، كذلك على السياسي أن لا يكتفي بالعمل حسب ظروف مجتمعه الثقافية والسياسية والدينية، بل عليه أن يُراقب مُحيطه الجُغرافي من كافة زواياه العِرقية والدينية والثقافية، ذلك لأن الإعلام هو سيد العصر بلا منازع، هذه السلطة الإعلامية –تقريبا- نجحت في إزالة الكثير من الفوارق بين الشعوب وهدمت أغلب ما تعارفت عليه المجتمعات بنقلها لشعوب دول الجوار.
طبيعي وفي ظل هذا الوضع أن تُخلق بيئة شعوبية لا تترك صغيرا إلا وحاز على اهتمامها وكيفية دراستها..ومن هذه القضايا هي رؤية سلوك السياسي البانية التي تهتم بالعمل والإنتاج أكثر من اهتمامها بالوعود، تهتم بمواجهة ظواهر الرجعية والانحطاط أكثر من اهتمامها بكيفية تطبيق أيدلوجياتها..وكل ذلك هو مقدمة لنجاح مشروعه السياسي فيما لو أحسن الرصد ثم المواجهة….أما قضية البناء فهي لا تُعطي فقط سُمعة للسياسي بل أيضا تبني له حائط صد أمام أي غزو سياسي أو فكري يتعرض له، أما ثقافة الهدم وكما تحدثنا عنها في السابق فلها جانبا سياسياً لا يقل أهمية ، حيث وتِبعاً للانشقاق المُجتمعي واستنكار ما تعارف عليه الناس فهي تهدم صورة السياسي هدماً مُعرّضاً للتعاظم إذا لم يواجه ما حدث بوضوح..وأن لا يظهر بصورة المُتلوِّن أو التافه الضعيف الذي يخرّ أمام أولى الضغوط عليه..حينها سيشيع بين الناس ضعفه وتُهدم صورته بلا رجعة.
أما إذا كان البناء له أوجه ضارّة فلا يمكن تعيين الإصلاح بالمُطلق، فقد يبني الإنسان بناءاً في ذهنه غير صحيح فيبني عليه مقدمات ونتائج غير صحيحة، وقد يبني بناءاً في الواقع الخارجي يقتل به المخلوقات أو يخرق به قوانين الطبيعة فيُفسد التوازن البيئي، كذلك الهدم فقد يهدم الإنسان في ذهنه فكرة مخطئة أو خُرافة فتخلق لديه رؤية أكثر عقلانية وواقعية، وقد يهدم بناءاً في الواقع الخارجي فيُحقق به العدالة، لذلك كان تعيين الإصلاح للبناء وللهدم في عَرَضهم أحق من تعيينهما في الجوهر..كالمسلم الذي يذبح البقرة والذبح لديه بناءا لتغذيته، بينما الذبح لدى الهندوسي هدم لا يجوز ..الفكرة العقلية والسياسية في البناء تأتي من تحقيق العدالة وهي عند أفلاطون تحقيق الانسجام والتكافل بين كافة أفراد المجتمع، ولدى أرسطو تصرفات وِفق تشريعات تُحقق المساواة وتواجه الظُلم، وقضايا الهدم التي تُنتج صراعاً دينيا أو فكريا صِداميا -له تأويل سائغ- في الدين لا تُصنّف وِفق قضايا الهدم الإصلاحية، وبما أن القائم على الهدم تجاوز العدالة -باعتماده على قوته حيث طغت عليه الأنانية- فعمله يكون خارج دائرة العدالة ..وذلك بدلالة خرقه لتشريعات المجتمع..هذا الخرق سينعكس على الأخلاق ويؤدي إلى كسر الفضائل..فالإنسان في ذاته كائن اجتماعي يملك وعياً وإرادة ولا يمكن أن يبقى معزولا عن الناس بمجرد إيمانه بمُقدسٍ لديه، وكأن هذا الكائن كما هو مسئول قانونيا فهو أيضاً مسئول أخلاقياً، وكأن هناك تلازم بين القانون والأخلاق.
لشرح النقطة السابقة من وجهٍ آخر ..فقد تأملت في فلسفة الكوجيتو لديكارت التي تؤمن بالتفكير كشرط للشعور بالوجود فوجدته يؤمن بأن الآخر كائن افتراضي وأن الذات لديه كائن مستقل ومنغلق على نفسه..وفي رأيي أن هذه الطريقة في التفكير هي مُدخل خطير للشعور بالأنانية أو الدونية، وقد يتبعها القائم على الهدم دون معرفتها..والحل الأسلم لذلك هو الاعتبار بأن الذات هي جزء من وجود مجتمعي يضم الذات والآخر..وأنه لا وجود للذات إلا بتعيين الآخر له..في المحصلة أنا آخر عند الآخر..وأنا ذات عند نفسي..ولا أعيش في هذا الكون وحدي..وأن المنظومة التشريعية تفرض علىّ وعلى الآخر التمسك بالقانون كشرط لعدم التجاوز في حقوق الآخرين، وأن الالتزام بهذه المنظومة هو في المُحصّلة ارتقاءٌ بالأخلاق.
في الأخير مهما بلغ الخلاف حول التوسل -وما يتعلق به من قضايا- فقد أصبح قضية مُستهلكة- كشعور لدى الرأي العام العربي، وأن من يعيشون الآن في فَلَكه بين مؤيدٍ ورافض ..هم يصرفون جهودهم إلى سلوكيات انعزالية لا تخضع للمعايير الحقيقية التي تسير عليها مجتمعاتنا الحديثة، وأن هذه المعايير أصبحت لا تؤلي بالاً لأي خلاف يتعلق بالتراث بل إلى علوم وواقع جديد يتسم بالتغيّر الجذري في المنظومة الفكرية للإنسان، وأن الذين يعزلون أنفسهم عن هذا الواقع هم في الحقيقة يواجهون ثقافة شعب بأكمله ويواجهون أيضاً شواهد ومُعطيات لا تكف عن صناعة الجديد كل ساعة...إنما كان هذا البحث هو محاولة لبناء إنسان مترابط ومتزن بعيداً عن الغلو أو التفريط في قضية أصبحت نتائجها وتوابعها وما يلحق بها أهم من طبيعتها وأحكامها الشرعية.
اجمالي القراءات
7953