مشهد السودان وحسن الترابي
دخلت السودان في تجربة الحُكم.."الإسلامي"..ودخل معها السودانيون في خِضم أحلامٍ لا تتوقف عند طلب المعيشة بل إلى تنفيذ حُكم الله، أقاموا الحدود وقطعوا الأيادي والأرجل، ثم سرعان من انقلب البشير على الترابي كجزاء لمن يضع الشعوب لخيار إما القلم أو القوة ، قد لا يجد الإنسان صعوبة لديه في الاختيار إذا ما كانا متصارعين في السر والعلن، ولكن عند رؤية التحالف ثم الانفصال ينحاز المواطن إلى القوي، هذه التجربة حاضرة من قبل في زمن عبدالناصر ، فكما حدث مع الترابي والبشير حدث مع عبدالناصر والإخوان، وكأن ضريبة القمع والسجن أصبحت عقاباً لمن تسوّل له نفسه أن يسلك سلوك السلطة بمباركة القوي .
أرى أن سلوك السلطة لن يكون نزيهاً وقائما قياماً صلباً إلا بعملية كبرى للإصلاح الديني والفكري تخرج منها المجتمعات من حالة إلى حالة، أما أن نعتقد بأن ما نحن عليه هو الحق وأن الباطل قليل لهو الحَمَقُ بعينه، فما من فشلٍ حضاري شامل إلا ورافقه الجهل والانحطاط الخُلقي والثقافي، بالضبط كما حدث في المجتمع السوداني حيث ابتهجت نفوس الإسلاميين في المنطقة بقدوم هذا المارد الذي سينقل السودان من الانحطاط والجهل إلى مصاف الدول المتقدمة ، ولكن تناسى هؤلاء بأن هناك فراغاً فكرياً وثقافياً يعاني منه الشعب السوداني بأسره ،فمن تخبطه على أعتاب الأضرحة إلى استقطاب المجتمع السوداني دينياً وعِرقياً وصل السودانيون إلى مرحلة اللاعودة، فانقسمت البلاد وخضعت الأقاليم لسُلطة كبار الطوائف وضعفت الدولة المركزية فكانت النتيجة أن انتشرت الجرائم السياسية والعِرقية .
بالتأكيد كانت هذه الجرائم مُخبّأة قبل ظهور المشروع الإسلامي في السودان وكانت فقط تنتظر اللحظة لخروجها للعلن فور استدعائها إما بجهل وسطحية أصحاب المشروع الإسلامي، أو بتورط خصوم الإسلاميين في التحريض ضد الدولة المركزية وعدم التعاون مع الحاكم، كانت أكثر تجربة مريرة عاني منها إسلاميو السودان هي فتنة السُلطة، حيث أتذكر حواراً مع الترابي منذ عامين قال فيه بأن معيار الاختيار الذي كنا نسلكه كان هو معيار الثقة ، وأن الرجل لم يكن ليتقدم لموقع المسئولية إلا بالثقة في أخلاقه وطاعته والتزامه، ففوجئنا بعد حينٍ من الزمن بأن ما كنا نُقدّمه في الماضي لم يكن إلا مشروعاً لدكتاتور فَتَنَته السلطة ، فسُرعان ما كان يُقصي خصومه حتى أنه لم يشعر بما هو عليه ولجأ كعادة أكثر الإسلاميين إلى التبرير.. ومن هذا المشهد سقطت دولة السودان بين رُحى الاستبداد..
من شهادة الترابي أرى أن تجربتهم التي عانوا منها ليست ببعيدة عن المشهد العربي وبالأخص في مصر وتونس فهما مُعرّضتين لنفس التجربة أو أخف أو أشد وطأة، فارق كبير بين التنظير العقلي بين مشروعين سياسيين أحدهم يُدخل الدين عنوة في كل صغيرة وكبيرة، وبين مشروعين سياسيين يعتمدان على معيار الأكفأ لضمان البقاء والاستمرارية..فالأول سيُنتج مجموعة يعتريها الجهل بالقانون والحياة..أما الثاني فسيكون أكثر مرونة وتفاهماً وبالتالي أكثر دراية..
اجمالي القراءات
8749