أسس البحث التاريخى (1 من 5 )اعداد الباحث قبل البحث
مقدمة
البحث التاريخي فريضة إسلامية دعا إليها القرآن حين حث على أن نسير في الأرض لنرى ما حدث للسابقين ونأخذ من ذلك العظة والاعتبار ، ويقول تعالى ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم )...( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب (يوسف 109 ، 111 ) ومعنى ذلك أن القرآن الكريم سن المنهج العلمي الحديث في استقاء أحداث الماضين من آثارهم الباقية بعد فنائهم.
ولقد ركز القرآن الكريم على أهمية تحرى الحقائق عن الماضين من خلال بحث ما بقى من مساكنهم ، يقول تعالى عن عاد وثمود ( وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم . العنكبوت 38 )
والتبين هنا يعنى دعوة للبحث و التنقيب فى الآثار الماضية لمعرفة أحوال وتاريخ أصحابها ، ولهذا ينعى الله تعالى على القرشيين أنهم يمرون على آثار مساكن الماضين دون أن يعتبروا من تاريخهم ( أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى . طه 128 ). أي أن أصحاب العقول هم الذين يستفيدون من عبر التاريخ ودروسه .
والقرآن الكريم قص علينا سير الأنبياء السابقين والأمم البائدة وأمرنا بالتدبر والتفكر وصولا للعبرة من تاريخ الماضيين وذلك هدف أسمى للتاريخ أن يستفيد الإنسان من تاريخه ليرقى ويتطور . ولو فعل الإنسان لقام بمسئوليته كما يجب باعتباره خليفة في أرض الله ينشر فيها الخير ، ولكن الانسان تطور في أساليب الشر وسخر كل امكاناته العلمية والتاريخية في صراع لن ينتهي إلا بتدمير الإنسان وحضارته .
والمسلمون أحوج البشر إلى البحث التاريخي ليصلحوا من شأنهم ويسترجعوا حقائق دينهم الضائعة .
وفي هذا الموقع وتحت هذا الباب من الدراسات التاريخية نصطحب القارىء فى شوارع مجهولة من تاريخنا ، ونبدأ هذه الصحبة بلمحة سريعة وخفيفة مع أسس البحث التاريخي ، وسنعرض لها فى خمس مقالات هى :
أولا : اعداد الباحث قبل البحث
ثانيا : اختيار موضوع البحث
ثالثا : التعامل مع المصادر التاريخية
رابعا : جمع المادة التاريخية وتنظيمها
خامسا: النظرة في المادة التاريخية
أخيرا: كيفية كتابة البحث التاريخي
أسس البحث التاريخي
أولا :اعداد الباحث قبل البحث
1ـ باحث التاريخ ليس باحثا عاديا ...
من الباحثين من يجعل الجمادات مجال بحثه يستحضرها ويخضعها لتجاربه ، ومن الباحثين من يتخذ الإنسان الحي مجالا لبحثه يفتش عن نفسيته والمكبوت من انفعالاته ،أو يغوص في جسد الإنسان بالمشرط يحاول أن يبحث عن الداء .
وباحث التاريخ مهمته أصعب من هؤلاء جميعا ... إنه يبحث في الإنسان الماضي الذي فنى ولم يبقى منه إلا آثاره أو ما كتب عنه ، وليس بالضرورة أن ما كتب عنه يمثل الحقيقة . ومهمة الباحث أن يعمل الحقيقة بغض النظر عن المكتوب أو غير المكتوب .
ثم إن الإنسان كائن معقد ولا يستطيع إنسان أن يفهم نفسه على حقيقته. فكيف بالإنسان أن يفهم غيره من البشر حتى لو كان يعايشه ويساكنه ؟ بل هل يتمكن الباحث من فهم إنسان مضى واندثر ولم يبقى منه إلا آثار وكتابات قد تظهر بعض الحق ولكنها بالقطع لا يمكن أن تكون الحق كاملا ؟؟.
والإنسان ليس كائنا معقدا فحسب ولكنه أيضا كائن حضاري له عقل وعاطفة ، له تراث عقلي وعلمي وتراث أدبي وجداني ، وله حضارات قائمة وحروب دمرت حضارات بائدة ، له حياة سياسية كانت له فيها علاقات وحروب ، وله حياة اجتماعية كانت له فيها عادات وتقاليد ، وله حياة دينية حفلت بالمختلف من العقائد والطقوس ، وله حياة علمية حفلت بالإنتاج الذهني الأصيل أو المستورد .. الخ ... وعلم التاريخ هو الذي يعني بكل هذا ...
فالتاريخ يدور حول الإنسان في كل عصر من العصور يرصد حركاته على هذا الكوكب بالحرب وبالسلام بالتعمير أو بالتخريب بالتقدم أو بالتخلف ، يبحث كل تصرفاته ويقيم إنتاجه ويفلسف دوافعه وتصرفاته .
2- من هنا فباحث التاريخ أمامه مهمة صعبة ، عليه أولا أن يستعد لها على المستوى العلمي الثقافي وعلى المستوى العقلي الذهني .
فباحث التاريخ عليه أن يبدأ في بحثه ببناء نفسه ثقافيا بأن يقرأ ليس فقط في كتب التاريخ وإنما في كل المعارف الإنسانية وبخاصة ما يدور حول الإنسان والأرض .
وبعد القراءة العامة في الآداب والعلوم الإنسانية والسلوكية والتاريخ العام يركز القراءة في العصر الذي اختاره ميدانا لبحثه يقرؤه قراءة متأنية ، حتى يعيش في العصر بخلجاته ونبضاته وأحاسيسه ومشاعره . ذلك أن لكل عصر من العصور رائحة عقلية يعرفها من عايش هذا العصر قارئا ومنقبا وباحثا ، فالباحث إذا استغرق في قراءة عامة ثم قراءة مدققة في تاريخ عصر من العصور ألفى نفسه دائما متعايشا مع ذلك العصر مصاحبا لأبطاله يتجسمون في خياله بعد طول المعاناة من القراءة عنهم والإحساس بهم . ثم مع التكرار والمعايشة يتعود الباحث على تعبيرات العصر وطرق تفكيره ومثله وعاداته ، وهنا يكون الباحث خير مترجم لأحوال هذا العصر الذي يبحثه وخير وسيط ينقل بأمانة تاريخ العصر الذي يبحثه إلى أبناء جيله فى العصر الذي يعيش فيه .
بيد أن استعداد الباحث ثقافيا وعلميا لا يغني عن شحذ عقله وتنمية ملكة النقد والتحليل لديه ... وعموما فمن شأن الباحث ـ أي باحث ـ أن يكون صاحب ملكة ناقدة نافذة ، ولكن الذي يخص باحث التاريخ أن يسلط ملكته الناقدة ، ليس فقط على ما يقرأ في مصادر تاريخ العصر الماضى الذى يكتب عنه ، وإنما أيضا على ما يشاهد من أحوال الناس الذين يعايشهم فى عصره ، من بين جيرانه واقاربه واصدقائه ، و من خلال القصص الأدبية المعاصرة ، والانتاج الفنى الدرامى وفنون الاعلام التى تعبر عن عصره وتنطق بلسانه وتعكس ذهنية المجتمع وثقافته..
وتفسير ذلك أن الإنسان هو الإنسان مهما تباعد به الزمن وتناءت المسافات .. فالإنسان لا يزال هو الإنسان الأول بكل غرائزه وشروره وحسناته ومميزاته ، ودائما فالشر الانسانى هو الأعلى صوتا ، والدليل ان للحروب ضوضاء بينما للسلام همس .
لقد تطور الإنسان فعلا ولكن في المظهر فقط ، وبقى في داخله نفس الشر الذي كان يحمله الإنسان البدائي الوحشي ، بل ربما كان ذلك الإنسان البدائي صريحا في عدوانه لم يعرف النفاق والمداهنة كما عرفها أحفاده من بني البشر .
إن الصراع الإنساني لم ينته ولن ينتهي ، وفي هذا لم يفترق إنسان اليوم عن الإنسان البدائي اللهم إلا في تطور السلاح الذي يذبح به أخاه الإنسان .
وعليه فالإنسان المعاصر في سلوكه الطبيعي غير المفتعل – يعتبر ذخيرة حية أمام باحث التاريخ ، وما على باحث التاريخ إلا أن ينمي في نفسه ملكة النقد والتحليل لكي ينفذ بعقله وراء الظواهر الخادعة في مجتمعه ليصل إلى المضمون المختفي في قاع النفس البشرية والذي هو بالقطع موجود في كل عصر مهما اختلفت الظروف والأشكال .
إن نظرة الباحث التاريخي إذا كانت عميقة ثاقبة ووجهها بوعي نحو أنماط مختلفة من مجتمعه فلا بد أن تفيده حتما في بحثه لاسيما إذا كان قد اتخذ لنفسه مجال البحث في الظواهر الاجتماعية .
والظواهر الاجتماعية فى أى عصر ماض هى مجال غير مطروق فى البحث التاريخى ، كما إن المادة التاريخية عنها سطور كثيرة مبعثرة بين آلاف المجلدات ،لأن المؤرخين القدامى إعتادوا ان يركزوا على الأحوال السياسية والطبقة الحاكمة دون اهتمام كاف ب(الرعية أو الرعاع أو العوام أو الدهماء) ، الذين أصبح اسمهم الان الشعب ..
ومع أن أحوال المجتمعات تأتى عادة بين سطور التاريخ وعلى هامش التاريخ للحكام إلا إن البحث فى تاريخ المجتمعات وسط أكوام الصفحات المكتوبة فى تاريخ الحكام ليس صعبا ،إذ أن من عادة المجتمعات أن تحتفظ في أعماقها بالكثير من التفصيلات خصوصا المجتمعات المحافظة كالبيئات الشعبية والزراعية التي تميل للتقليد وتعيد سيرة الأسلاف بوعي أو بدون وعي .
ومن هنا تبدو الأهمية القصوى للباحث التاريخى كى يوجّه نظرة ثاقبة لأحوال الناس فى عصره كى يصل الى أعماق الانسان و الثوابت التى تعيش داخل كل مجتمع . وهذه النظرة الثاقبة لا بد أن تبدأ بمناقشة كل العادات و التقاليد والمألوف و المعتاد من حياة الناس ، فالذى اعتاده الناس وألفوه وتعودوا عليه بحيث لا يستوجب نقاشا ـ لا بد للباحث التاريخى أن يتوقف معه بالتحليل و النقاش ..
3- وهذه النظرة من باحث التاريخ لا تتوقف على مجرد العلم و الثقافة ، إنها تستلزم أيضا قدرا كبيرا من الوعي العقلي والحس التاريخي .
وبالوعي العقلى والحس التاريخى يتمكن الباحث من تطويع المادة التاريخية المجردة إلى أشخاص أحياء يراهم بعين خياله و يتحدث معهم فى احلام يقظته من فرط معايشته لهم .
والحس التاريخي هو الذى يميز بين المؤرخ الباحث وغيره من القراء العاديين للتاريخ ، وبالحس التاريخي يكون التمايز بين باحثي التاريخ .
ويتكون هذا الحس التاريخى بالمعايشة ـ وليس مجرد القراءة ، أى أن يعايش ما يقرؤه بخياله وفكره ، بحيث يتقمص دور الشخصيات ويحاول ان يتسلل الى عقولها ويخمن ردود افعالها ، وبالتالى يمكنه أن يفهم تلك الشخصيات ، بل يستطيع أن يميز بين الرواية الصحيحة و الباطلة على اساس الحس التاريخى القائم على فهمه للعصر وشخصياته ..
والوعى العقلى ضرورة ايضا للباحث التاريخى . وما من شك أن الوعي العقلي يرتكز على أساس متين من الثقافة الإنسانية المتنوعة و حصيلة وافرة من العلم بالتاريخ العام ، إلا أنه يسمو بهذه الحصيلة العلمية التاريخية إلى نقد الحوادث التاريخية وتحليلها وكشف خباياها والترجيح بين الروايات التاريخية للحدث الواحد، أو بمعنى آخر يحول المادة التاريخية الخام إلى فلسفة للتاريخ قائمة على تحليل الدوافع و بيان الأسباب ، بل وسد الفجوات بين الأحداث التاريخية التى اغفلها المؤرخون ، فالشأن أن تظل فجوات تعبر عن أحداث تاريخية غائبة كانت تربط بين الأحداث المكتوبة ، ولكن أغفلها المؤرخون عمدا او سهوا أو جهلا ، ويمكن التكهن بها علميا إذا توفرت للباحث أدلة مقنعة .
4- ومن المعلوم أن هناك ما يعرف " بالتاريخ بالرواية " وهو سرد روايات التاريخ وحوادثه ويرتكز جهد المؤرخ هنا ـ إن أراد إظهار شخصيته العلمية ـ على تحرى الصدق في الرواية والتثبت من صحتها معتمدا على نقد الرواة وبيان حالهم من الصدق أوالكذب من الحفظ والنسيان من الغرض والهوى ...
وقد قام المؤرخون القدامى بهذا الجهد ، خصوصا فى التاريخ الحولى ، فأوصلوا لنا أحداث التاريخ باليوم والشهر والسنة عبر سلسلة من الروايات والرواة. بعضهم قام بجمع الروايات المتعددة وأتى بها دون تمحيص ونقد تاركا مهمة البحث والنقد لمن سياتى بعده ـ كما فعل الطبرى عمدة المؤرخين المسلمين ، وبعضهم بحث حال الرواة وحكموا بعدالة بعضهم وتضعيف الآخرين وكذبهم . وبعضهم قارن بين الروايات ورجح بعضها كما فعل ابن خلدون ،وبعضهم اكتفى بإيراد الرواية الصحيحة بعد جهد عقلي لا شك فيه – أهمل فيه الرواية الضعيفة وأتى بالصحيح منها . وهذا ما فعله ابن الأثير فيما نقله عن الطبري .
والمهم أن المؤرخين القدامى أوصلوا لنا التاريخ رواية وأحداثا ... ومادة خاما .
وبقي على باحثي اليوم أن يتحول التاريخ بالرواية على أيديهم إلى (التاريخ بالدراية) أو فلسفة التاريخ . فالحوادث قد وصلت رواياتها وفيها قدر من الصحة وقدر من الخطأ والكذب ، وبقى أن نعللها وأن نبرز الخفي من دوافعها .. إذا ذكرت حادثة ما نتساءل لماذا ؟
وكلمة لماذا هذه هي أساس التاريخ بالدراية... وهذا هو المطلوب الحقيقي من باحثي التاريخ اليوم. وتلك مسئوليتهم .
تلك المسئولية تحتم على باحث التاريخ أن يبدأ بإعداد نفسه علميا وثقافيا وينظر بعين قلبه إلى الظواهر الإنسانية من حوله مستكشفا أحوال البشر عن بصيرة ووعى .
وإذا اكتملت لديه الملكة العلمية والثقافية والملكة بالوعي والحس التاريخي أمكن له – بعون الله جل وعلا وتوفيقه ـ أن يكشف أستار المجهول من أعماق التاريخ ويقترب أكثر من حقائقه.
5 ـ وفى كل الأحوال فان أقصى ما يصل اليه أى باحث تاريخى هو مجرد حقيقة نسبية ، اى خبر يحتمل الصدق و الكذب . وهنا يقع الفارق بين حقائق التاريخ النسبية وحقائق الدين الالهى الكلية اليقينية، لأن التاريخ الحقيقى للبشر سيقرؤه البشر جميعا يوم القيامة فى كتاب أعمالهم الفردى و الجماعى حيث تتجلى الحقائق المطلقة التى لا ريب فيها.
والقرآن الكريم وحده هو الذى لا ريب فيه .. وكلام القرآن الكريم عن اليوم الآخر لا ريب فيه ..
وما عدا ذلك فهو محل للريب و الشك ، ولو صدق كان صدقه نسبيا وليس مطلقا.
هذه الحقيقة هى التى يجب ان يعرفها ويؤمن بها باحث التاريخ حتى لا يضل ولا ينسى..
هذه المقالة تمت قرائتها 440 مرة
اجمالي القراءات
16218