* كان الخليفة أبو جعفر المنصور يعد ابنه جعفر لولاية العهد مع المهدي ابنه الآخر. وقد اختار له رجلاً من ذوى العلم والفضل ليؤدبه واسمه الفضيل بن عمران، وأرادت بعض نساء القصر الكيد للفضيل فأوعزت للخليفة المنصور أن الفضيل يعبث بجعفر، وهو تعبير مهذب عن معنى فاحش، وفي ذلك الوقت كان جعفر مع معلمه في الموصل، فأسرع الخليفة أبو جعفر المنصور بإرسال كتاب مع اثنين من القادة فيه الأمر بقتل الفضيل ابن عمران، وأمرهما أن يقتلاه حيث وجداه ثم بعد أن يقتلاه يعطيان الكتاب لجعفر، وذهب الرجلان إلى المهمة، وبعد خروجهما قيل للمنصور أن الفضيل بن عمران أبرأ الناس مما يرمى به وأنه مؤمن عفيف، وأن الخليفة قد تعجل في الحكم عليه، وأسرع الخليفة بإرسال مبعوث آخر لإنقاذ الفضيل ، ووصل المبعوث فوجد الفضيل قد جف دمه على باب بيت جعفر.
وحزن جعفر على أستاذه الذى ذهب دمه هدراً ومات مظلوماً فقال لبعض الفقهاء: ما تقول في قتل أمير المؤمنين لرجل عفيف مسلم بلا جرم ولا جناية ؟
فقال الفقيه منافقاً : هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء وهو أعلم بما يصنع، فغضب جعفر وأمر بإلقائه في نهر دجلة وشتمه وقال له: يا ابن(....) أنا أكلمك بكلام الخاصة وتكلمني بما نخدع به العامة.. فاستجار الرجل وقال: أقول الحقيقة، فأخرجوه، فقال : هل تسأل أباك المنصور عن قتل الفضيل وقد قتل عمه عبد الله بن على وقتل عبد الله بن الحسن وغيره من أولاد رسول الله (ص) ظلماً وقتل من أهل الدنيا ممن لا يحصى ولا يعد، فأين الفضيلة من أولئك جميعاً!!
*ذلك الفقيه المنافق هو سويد ، أحد موالي أبي جعفر المنصور، وأحد العاملين في أجهزة المنصور الاعلامية وقد قامت الخلافة العباسية على أساس دعاية محددة هي أنهم آل رسول الله الذين يحكمون باسم الله، وللخليفة أبي جعفر المنصور خطبة توضح منهجه في الحكم وقد قالها في عرفة في موسم الحج يقول" أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وسداده" أى أكد سلطته الإلهية وإنه يحكم بتفويض من الله ووحي منه، أى أنه أول من أرسى مبدأ السلطة الثيوقراطية في تاريخ المسلمين.. وعلى ذلك الأساس كان يسفك الدماء حتى من بين أولئك المسالمين الذين لم يرفعوا السلاح، وحين ثار عليه بعض العلويين بقيادة محمد النفس الزكية قام باعتقال أهاليهم المسالمين ووضعهم في جب تحت الأرض يبول بعضهم على بعض حتى ماتوا .
* وبذلك العنف وطد الحكم لولده المهدى ودولته حتى حكمتها ذريته قروناً من الزمان وهم يستندون إلى قانون الحكم الإلهى المقدس،وهو نفس الحكم الذى جعل هارون الرشيد يفتتح ولايته بقتل أحد القادة لأنه كان ينقم عليه إنه أزاحه في الطريق في يوم من الأيام.
*وأولئك الفقهاء لم يكن لهم وجود في الدولة الأموية وقت قوتها، فلم تحتج الدولة الأموية إلى مجهوداتهم، لأنها لم تكن كالدولة العباسية تحتاج إلى قانون إلهى تتمسح به إذ كان يكفيها قانون الغاب، فالأمويون لم يحتاجوا إلى فتوى حين قتلوا الحسين وآله في كربلاء، ولم يحتاجوا إلى فتوى حين انتهكوا حرمة المدينة وقتلوا أبناء المهاجرين والأنصار في موقعة الحرة، ولم يحتاجوا إلى فتوى حين حاصروا مكة وضربوا الكعبة بالمجانيق!! والحجاج بن يوسف الثقفى أشهر الولاة في الدولة الأموية قتل مئات الألوف من المسلمين دون أن يأخذ فتوى من أحد، وما كان له أن يحتاج إلى فتوى في صراع القوة إذ يكفيه قانون القوة بديلاً عن قوة القانون.
أما الخليفة العباسى فقانون الحكم الإلهى بيده وفتاوى الفقهاء تؤكد أن الأرض ومن عليها ملك يمينه يفعل بها كيف شاء وقد خوله الله الحكم والسلطان ومن اعترض على ذلك فهو مستحق للقتل بتهمة الردة!
* وانتقلت الدولتان الأموية والعباسية إلى متحف التاريخ ولكن استمرت التجربة، دولة تحكم بقانون القوة وأخرى تحكم بقوة القانون القائم على الباطل .. وإلى عهد قريب كان عبد الناصر يحكم بقانون القوة أو ما اصطلح على تسميته بالشرعية الثورية ثم جاء السادات فحكم بقوة القانون الذي يصدره أعوانه طبقاً لأهوائه.
*وحيث يوجد قانون القوة أو قوة القانون الذي يوافق هوى الحاكم فإن هناك عملاقاً نائماً يحرص الحاكم على استمرار تخديره، وهو الشعب .. فذلك الشعب إذا نهض ووعى بحقوقه وحرص عليها فإن القوة تصير إلى جانبه ويصير الحاكم مجرد موظف أجير لدى الشعب ينفذ رغبات الشعب مقابل المرتب الذى يتقاضاه.
هذا الشعب الواعى القوى تتساوى لديه قوة القانون مع قانون القوة ، وتصبح القوة عندئذ في جانب العدل، ويصبح القانون حينئذ معبراً عن القسط، ويعيش الشعب في سعادة كما يعيش الحاكم في أمن واستقرار ولا يعرف الخوف من المجهول ولا يعرف تلك الحراسات المهولة التي تجعله يعيش في سجن من طراز خاص.
• متى نبلغ هذه المرحلة من النضج والوعى والقوة؟
• هذا هو السؤال وتلك هى الأمنية.
اجمالي القراءات
14307
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }الحجرات6
فالدرس المستفاد من هذه الآية الكريمة هو التحقق من الخبر حتى لا نصيب قوما بجهالة ونندم بعد ذلك ، فهذا الملك الظالم لم يتحقق من الخبر فأصدر حكمه على معلم ابنه ، وعندما علم بالحقيقة كان ذلك بعد فوات الآوان ، وإن دل هذا على شيىء إنما يدل على أن الحكام فى ذلك العصر يعتمدون على الشائعات والأقوايل فى إصدار الأحكام بدون تفكير أو إعمال للعقل فى ما يسمع ويصدر حكمه مباشرة دون وعى ، فهل هؤلاء حكام يستأمنوا على أرواح شبعهم ، بل وكذلك يزعمون أنهم آل رسول الله يحكمون باسم الله ، لا أظن ذلك .