محمود علي مراد Ýí 2011-04-26
المسلمون والحج
هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون يؤدون شعائر الحج والعمرة خلال الفترة المكية وفي السنة الأولى من الهجرة؟
قد يكون من المفيد قبل أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال، أن نشرح ما هو الحج وما هي العمرة في الإسلام.
الحج هو مجموعة من الشعائر تؤدى في تاريخ محدد من الشهر الثاني عشر من السنة القمرية، إحياءً لذكرى إبراهيم عليه السلام. وقبل أن يصل الحاج إلى مكة، يلبس ملابس الإحرام ويحترم بعض القواعد السلوكية المعينة. وحين يصل إلى مكة يطوف بالكعبة سبع مرات ويسعى سبع مرات بين الصفا والمروة وهما مكانان مرتفعان. ثم يذهب إلى جبل عرفة على مسافة من مكة. وتتحصل شعائر الحج الحقيقي في وقوف جماعي في وادٍ صحراوي أمام هذا الجبل بين الظهر وغروب الشمس يوم 9 من شهر ذي الحجة، ثم في وقفة مسائية في مكان يقع على مسافة من عرفة يسمى بالمزدلفة. وفي المدة من 10 إلى 12 من الشهر، يقيم الحجاج في منى وهي مكان يقع على مسافة سبعة كيلومترات من مكة، ويذبحون الهدي ويرمون الجمرات، ويتخلل ذلك عودة إلى مكة حيث تؤدى فيها بعض الشعائر، قبل أن ينهي الحاج إحرامه بقص شعره أو بقطع شعرات منه.
أما العمرة فهي صورة مصغرة من الحج يمكن أداؤها في أي وقت من السنة بصورة منفردة. وشعائرها تشبه الجزء الأول من الحج، الذي يؤدى في مكة، أي الطواف بالكعبة والسعي بين الصفا والمروة.(13)
وكانت شعائر الحج والعمرة تؤدى، مع بعض الاختلافات، منذ عهد ضارب في القِدم في الجاهلية؛ وقد ألغى الإسلام بعض الممارسات التي كانت تجرى فيها.
ولا تحدد "السيرة" التاريخ الذي بدأ المسلمون فيه تأدية شعائر الحج والعمرة، ولكنها تخبرنا ضمناً أنهم كانوا يحجون خلال الفترة المكية، فإن الرجال الثلاثة والسبعين ومعهم امرأتان، الذين عقدوا بيعة الحرب مع الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا قد جاءوا إلى مكة في رفقة حجاج المدينة المشركين. وفي موسم الحج السابق حضر إلى مكة اثنا عشر من حجاج المدينة المسلمين وعقدوا معه صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى.
ولكن "السيرة" لا تصوِّر لنا الرسول ولا واحداً من أصحابه المكيين، في أي لحظة في سنوات الفترة المكية الثلاث عشرة، وهم يؤدون الحج أو العمرة. كذلك فإن أياً من أحكام القرآن الكريم التي نـزلت في الفترة المكية لا يذكر هذا الفرض. وأخيراً فإن عدة آيات مدنية مثل: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ …" ﴿217﴾ [البقرة] تتحدث عن إخراج من المسجد الحرام. وهذا الإخراج يشير بطبيعة الحال إلى إجراءات حظرت بها قريش على المسلمين الدخول إلى المسجد الحرام لتأدية عباداتهم من صلاة أو حج. لذلك يحق للمرء أن يشك في صحة ما جاء في "السيرة" عن وصول الاثني عشر ثم الثلاثة والسبعين حاجاً مسلماً من المدينة الذين يُدَّعَى أنهم عقدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم بيعتي العقبة المزعومتين.
ولو أن النص ذكر أن مجموعتي مسلمي المدينة المذكورتين جاءتا إلى مكة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم لكان ذلك أقرب إلى التصديق. لقد كان من الطبيعي جداً أن يأتي بعض من دخلوا في الإسلام خارج مكة إلى هذه البلدة خلال موسم الحج أو خارجه لرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم أو لرؤيته من جديد، هذا الرسول الذي يحبه المسلم أكثر من حبه أولاده، ويقوم بتقديم هدايا له، وللصلاة خلفه، ولحفظ ما جدَّ له من آي الذكر الحكيم، ولالتماس بركته، ولتوجيه أسئلة إليه عن الدين أو عما يحسن عمله لخدمته، ولإحاطته علماً بالجهود المبذولة لنشره، وبحالات النجاح وحالات الإخفاق في ذلك، وبالصعوبات التي تثور في صدد إبلاغ الدعوة للناس، وللتعرف على الإخوان في الدين من مسلمي مكة أو المسلمين الوافدين إليها من خارجها، ولحضور بعض الاجتماعات التي يعقدها الرسول صلى الله عليه وسلم معهم أو مع الكفار. وهذه اللقاءات مع الرسول كانت تتيح للرسول صلى الله عليه وسلم كذلك الفرصة، في بعض الحالات، لإيفاد بعض صحبه لتفقيه مسلمي الجزيرة في الدين.
وهذه اللقاءات ذات الطابع الديني لم تكن، مع ذلك، الغرض الوحيد للمسلمين الذين كانوا يقدمون إلى مكة للزيارة. لقد كانوا يقضون جانباً من وقتهم كذلك في التردد على السوق. وكانوا أحياناً يبيعون فيه الجمال والدواب والخراف التي جاءوا بها معهم. وكان هذا شيئاً يسيراً إذ أن الحجاج كانوا في حاجة إلى بعض هذه الدواب لنحرها في منى. وكان الوافدون يبيعون كذلك سلعاً أخرى كالخيل والجلود والأصواف والبُسُط والخيام والتمر وأنواع الجبن والبيض واللحوم المجففة، وغير ذلك، مما هو ضروري لطعام الحجاج. وكان بعض هذه البضاعة مخصصاً للاستهلاك المحلي، ولكن بعضها الآخر كان يشتريه تجار مكة لتصديره إلى سوريا أو اليمن أو إلى أسواق خارجية أخرى. وكانت حصيلة البيع تستخدم جزئياً لدفع نفقات الحج، كشراء الذبائح، ونفقات الإقامة في "النُزُل"، والطعام، والولائم التي يُدعى إليها الأصدقاء، الخ. وبالباقي كان الحجاج يشترون تموينهم من البضائع التي يحملونها معهم عند عودتهم لاستهلاك الأسرة أو القبيلة لمدد طويلة من الحبوب والملابس والأسلحة والدواب، أو لتجارة الداخل إذا كان الحاج هو نفسه من التجار، كما كان يحدث كثيراً. وكان موسم الحج أيضاً فرصة لبيع وشراء الرقيق. وباختصار، كان مسلمو الجزيرة، شأنهم في ذلك شأن الحجاج المشركين، ينتهزون فرصة الحج والعمرة للقيام في مكة بأنواع شتى من النشاط التجاري والاجتماعي. وكانت إقامتهم في مكة للحج وللعمرة - بالأمس، كما هو الحال اليوم - لا تقتصر على الوقت اللازم لتأدية الشعائر، بل كانت تمتد أحياناً إلى أسابيع، لاسيما بالنسبة للقادمين من بعيد.
والسؤال الآن هو: هل كان هؤلاء المسلمون القادمون إلى مكة كثيرين أم كانوا يمثلون حالات منفردة؟
لقد ذكر ابن إسحاق، في حديث الفترة المكية، حالة الطفيل بن عمرو الدَّوْسي، الذي دخل في الإسلام ثم عمل على نشره بين أعضاء قبيلته. وقد تردد على مكة مرتين ليشرح للرسول صلى الله عليه وسلم الصعوبات التي لقيها ويلتمس دعواته، واستطاع خلال سنوات قليلة أن يهدي إلى الإسلام سبعين أو ثمانين بيتاً من قبيلته. ولكن "السيرة" لا تتحدث إلا عن هذه الحالة. وهذا جزء من استراتيجية مؤلفنا الذي جعله تَحَزُّبه الشديد لأهل المدينة يصور المدينة على أنها ملاذ الإسلام الوحيد، ويصور الجزيرة العربية كلها، ومكة بوجه خاص، على أنها رفضت الإسلام. وهذا قول صعب التصديق، والمؤلف لم يشرح الأسباب التي من أجلها كانت أنحاء شبه الجزيرة أقل تقبلاً للإسلام من المدينة، ولا تلك التي جعلت المدينة أكثر حفاوة بالدين الجديد. والواقع، في رأينا، أن الإسلام إذا كان قد نجح في القرون التالية نجاحاً كاسحاً لدى شعوب في أفريقيا وآسيا لا تعرف العربية، لابد - لأنه كان يروق للناس - قد حظي بنجاح مماثل في الجزيرة العربية، في الفترة المكية، أثناء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. وبفضل انتشار الإسلام في بلاد العرب، كانت أعداد متزايدة ممن اعتنقوه تفد إلى مكة للنهل من منابعه الروحية، ولعقد صفقات تجارية. وكانوا، بطبيعة الحال، يفضِّلون، عقد هذه الصفقات، مع بني دينهم، وكان ذلك يخفف إلى حدٍ ما من وطأة المقاطعة التي فرضتها قريش ضدهم (لا ضد بني عبد المطلب، كما يدعي النص). وكانوا يجدون في لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم من الغبطة ما يجعل بعضهم يكثر من الذهاب إلى مكة لرؤيته.
هذا، فيما نرى، هو الحال الذي كان سائداً خلال الفترة المكية. أما بعد الهجرة، فقد تغيرت الأمور. لا بالنسبة لمشركي الجزيرة، فقد استمر هؤلاء في الذهاب إلى مكة للحج والعمرة، وإنما بالنسبة لمسلميها، الذين أصبحوا يذهبون إلى المدينة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وينبغي التفريق، بالنسبة لهؤلاء، بين مرحلتين: المرحلة التي تمتد من الهجرة إلى فرض الحج كواحدة من العبادات في الإسلام، والمرحلة التي تلي هذا الحدث.
وفي المرحلة الأولى كانت إقامة المسلمين الوافدين إلى المدينة تسير على المنوال ذاته الذي كانت تسير عليه في مكة قبل الهجرة. أما بعد أن فرض القرآن حج البيت على المسلمين، فقد قصرت فترة إقامتهم في المدينة وأصبحت مجرد إضافة للحج الشرعي. وترتب على ذلك أن أصبح ما ينفقونه من مال في المدينة أقل من ذي قبل.
كيف إذاً، وفي أي تاريخ، فُرض الحج كواجب ديني على المسلمين في الفترة المدنية ؟
لقد فُرض بمجموعة من الآيات شرحت أصله وقررته وحددت شعائره. وفيما يلي أهم الأحكام القرآنية التي نـزلت بصدده.
ورد تاريخ المسجد الحرام في الآيات التالية من سورة البقرة:
– وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم ُ ﴿127﴾ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿128﴾
– وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿125﴾
وعن فريضة الحج، وما هو محظور وما هو مباح، نجد الآيات التالية:
– وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴿27﴾ [الحج]
– وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴿97﴾ [آل عمران]
– الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴿197﴾ [البقرة]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴿198﴾ [البقرة]
وتقرر الآيات التالية بعض المحظورات وشعائر الحج:
– غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ﴿1﴾ [المائدة]
لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ﴿2﴾ [المائدة]
وَإِذَا حَلَلْتُـمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُـمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَـدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَـرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ﴿2﴾ [المائدة]
– إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعاَئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴿158﴾ [البقرة]
هذه الآيات، التي وردت في سور مدنية، متى نـزلت؟ إن نص ابن إسحاق لا يوضح ذلك. ولما كنا نجهل التاريخ الذي بدأ فيه المسلمون يحجون إلى مكة بعد نـزول الآيات المذكورة، فإننا نجهل طول الفترة التي أصبحت فيها المدينة بمثابة مكة الجديدة لمسلمي مكة وشبه الجزيرة، وابتداءً من أي لحظة أصبحت زيارتهم للمدينة، نتيجة لفرض الحج إلى مكة، أقصر أمداً مما كانت منذ الهجرة.
وعلى النقيض، فإن في "السيرة" بياناً يسمح، بالمقارنة وبصورة تقريبية، بمعرفة الوقت الذي فُرض فيه الحج. إنها تخبرنا أن صرف القبلة (من القدس إلى الكعبة) تم على رأس ثمانية عشر شهراً من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة (ص 606). وقد تقرر هذا التغيير بالآية (144) من سورة البقرة في قوله تعالى: "قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ" ولهذا السبب ولأن أهمية الكعبة بالنسبة لشعائر الحج لا تقل عن أهميتها كقبلة للصلاة، يجوز للمرء أن يستنتج أن صرف القبلة كان مقدمة لفرض الحج، وأن الآيات المتعلقة بهذه الفريضة نـزلت بعد صرف القبلة بوقت قصير. أي بعبارة أخرى أن المدينة أصبحت مقصد مسلمي الخارج لفترة عام ونصف على الأقل. وكانوا يفدون إليها بأعداد متزايدة. وكان فريق منهم يأتون من مختلف أرجاء الجزيرة بعد أيام أو أسابيع من السفر. ولكن فريقاً آخر كانوا يأتون من مكة. ولما كان ابن إسحاق قد أكد، خلافاً لما هو بديهي، أن جميع مسلمي مكة غير المحبوسين هاجروا إلى المدينة، فإن سيرته لا تتحدث أبداً عن أي وجود للمسلمين بمكة بعد الهجرة على اعتبار أن الإسلام استؤصل منها تماماً ولم يعد إليها إلا عند الفتح بعد ثماني سنوات من الهجرة. وهذا خطأ كما أوضحنا. ومن شبه المقطوع به أن نفراً من المسلمين الذين بقوا في مكة كانوا يسافرون إلى المدينة لرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ورؤية أقاربهم وكانوا يبقون معهم فترة من الوقت. ثم إنه كان هناك أيضاً من بين الوافدين إلى المدينة فئة لا ينبغي أن ننساها. فئة لم يكن قدومها بغرض الزيارة ولكن للبقاء كمهاجرين جدد. أشخاص من شبه الجزيرة أو من مكة كانوا يستجيبون لدعوة القرآن الكريم في آيات مثل:
– وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿100﴾ [النساء]
كل هؤلاء المسلمين، بالإضافة إلى أولئك الذين كانت قبائلهم تخرجهم، كانوا يتوافدون إلى المدينة، ونشأ عن توافدهم، في هذه البلدة - الواحة، وضع غير مسبوق فيها. لقد كان الأمر يقتضي إسكانهم، وإطعامهم، وتقديم الخدمات لهم. وكما هو الحال بالنسبة للحجاج الذين كانوا يصلون إلى مكة، كان هؤلاء المسلمون كثيراً ما يُحضرون معهم من الأموال والسلع ما يكفي لدفع نفقات إقامتهم. ومتى انتهى لقاؤهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يسعون لإجراء عمليات بيع وشراء وتجارة. كان لابد إذاً من بناء بيوت لإسكانهم، وإنشاء أسواق لمعاملاتهم ومرافق لخدمتهم. وكانت الوسائل البشرية والمالية اللازمة لمواجهة هذا الوضع الجديد متوافرة محلياً، فقد كان من بين مهاجري مكة تجار و"مقاولون" ورجال أعمال لهم باع طويل في هذه الأنشطة، فقد كانت "الفندقة" والتجارة وتقديم الخدمات فنوناً مارسوها وورثوها أباً عن جد. وكان الزوار يعرفون بعضهم ويتعاملون معهم في مكة. وفيما يتعلق ببناء المنازل وتقديم الخدمات كانت المدينة غاصة بيد عاملة رخيصة تبحث عن عمل. أما الأموال اللازمة لكل هذه المشروعات فكانت موجودة. لقد استطاع بعض التجار المهاجرين أن ينقذوا أموالهم من المصادرة في مكة، وأحضروها معهم. واقترض آخرون أموالاً من إخوانهم أهل المدينة أو أشركوهم في مشروعاتهم التجارية. وما أن وصل المهاجرون إلى المدينة حتى اشتروا جمالاً، وكوَّنوا قوافل أرسلوها إلى داخل الجزيرة لشراء المنتجات المحلية، ثم إلى سوريا والعراق لبيع هذه المنتجات وشراء بضائع أخرى يبيعونها في المدينة لعملائهم الجدد.
لقد كان وصول الزوار إلى هذه المدينة خيراً عميماً من كل وجهات النظر، فقد سمح بتنمية اقتصادها عن طريق إضافة قطاعات نشاط جديدة إلى أنشطتها التقليدية. وبفضل مهارة المهاجرين التجارية ومعرفتهم التامة بالأسواق الداخلية والخارجية، استطاعوا، في وقت قصير، أن يحققوا لأنفسهم استقلالاً اقتصادياً يرفع عبئهم عمن استضافوهم من أهل المدينة، كما استطاعوا أن يخلقوا فرص عمل لكثير من المهاجرين ولبعض أهل المدينة الفقراء. وقد تحسنت نتيجة لهذا النشاط كل أحوال الناس المعيشية وظهرت بوادر الانتعاش في كل مكان. وكانت آفاق المستقبل في المجال الاقتصادي طيبة، كما أن كثيراً من المشكلات التي تمخضت عن الهجرة تم حلها بمرور الوقت أو كانت في سبيلها إلى الحل.
كذلك فإن الأمور، على المستوى الديني، كانت تجري بصورة مُرضية. واستطاع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد تخففوا من المشاغل المادية، أن يكرسوا ما يلزم من الوقت والاهتمام لنشاط الدعوة. وخلَق الانتعاش الذي نتج عن تقاطر الزوار على المدينة، وسلوك المهاجرين النموذجي، والمثل الذي كان يضربه المسلمون القادمون من بعيد لرؤية رسولهم والتمتع بقربه، مناخاً ملائماً لنشر الإسلام. وكانت أعداد متزايدة من أهل المدينة تدخل في الإسلام. على أن هذا لم يكن، بطبيعة الحال، من بواعث السرور لجميع الناس.
إن غير المسلمين من أهل المدينة ذاتها كانوا ولا شك يتحدثون عن شيء كالاحتلال: هؤلاء المسلمون، ونبيهم، الذين وصلوا إلى بلدتهم كلاجئين فقراء، أصبحوا، أو هم بسبيل أن يصبحوا، قوة تضر بمؤسساتهم، وتحالفاتهم، وتقاليدهم، وحتى نمط حياتهم. صحيح أنهم جاءوا للمدينة بشيء من الرخاء، ولكنهم أول المستفيدين منه. أما التجار المحليون فقد أُضيروا بمنافستهم. ورؤساء القبائل والعشائر، لم يعد لهم على أعضائها السلطة التي تخولها لهم صفتهم، وقد هجر عديد من هؤلاء الأعضاء انتماءاتهم القبلية. لقد أحدث محمد وقرآنه خراباً كثيراً في مجتمعهم. ومع السيل الذي لا يتوقف من زائري مكة وسائر الأنحاء لم يعد أهل البلد الأصليون يشعرون أنهم في بلدهم.
كذلك فإن أوساط اليهود في المدينة كانت بدورها تتابع تطور الأحداث بقلق: هذا الرجل الذي يدعي أنه نبي والذي يحاول بقرآنه أن يقوِّض الدعائم الاجتماعية- الدينية للنظام القبلي الذي مرت عليه آلاف السنين في المدينة، والذي جاء بالثورة إلى عالمهم، ومنظر المسجد وهو يُبنى، والموجات المتلاحقة من الزائرين الأجانب التي تتوالى على المدينة، وقلب الموازين الديموغرافية لطوائف البلد وتوزيع الأدوار في المجال الاقتصادي بينهم وبين غيرهم من الأهالي، وإقبال هؤلاء المتزايد على الإسلام، ومنافسة التجار المهاجرين لليهود باجتذابهم للزبائن المسلمين المحليين والأجانب .. كل هذا جعل الخصومة الدينية بين اليهود والمسلمين تقترن، منذ السنة الأولى للهجرة، بتنافس تجاري قوي.
ومكة، من جانبها، كانت تتوجس من هذا التطور. لقد كانت تشعر بأنه يهدد مصالحها باعتبارها العاصمة الدينية والتجارية لجزيرة العرب بأكملها. وكانت منافسة المجتمع الإسلامي لها في المدينة خطراً على مستقبلها. إن جزءاً غير قليل من زبائنها التقليديين الذين كانوا يفدون إليها للحج والتجارة انصرفوا عنها إلى محمد. والأدهى من ذلك أن بعض أبنائها من المسلمين كانوا يذهبون إلى المدينة وينفقون فيها من مالهم. أي فضيحة لمكانة مكة، وأي خسارة لتجارتها!
كانت السنة الأولى للهجرة إذاً السنة التي ظهر خلالها في المدينة كيان إسلامي قائم بذاته. لقد استوعبت فيها صدمة الهجرة. ونشأ عن الزيارات والهجرات الجديدة ازدهار اقتصادي شجَّع على اتساع الإسلام وسمح بحل أو بتخفيف مشكلات الجماعة الإسلامية. ولكنها كانت في الوقت ذاته السنة التي زاد فيها العداء للإسلام لدى مشركي المدينة، ولدى القبائل اليهودية، ولدى قريش. وكان من الطبيعي أن يضم خصوم الإسلام صفوفهم وأن يُعْمِلوا الفكر في الوسائل التي يمكن بواسطتها احتواء صعود الإسلام في المدينة. ولابد أن مشركي هذه المدينة ويهودها قالوا لأصدقائهم المكيين إنهم بذلوا كل ما في وسعهم للحدِّ من نفوذ محمد، لكن الحيَل أعيتهم. لابد من عمل عسكري لمنع تدفق الموجة الإسلامية. وكان بودهم أن يتولوا هم مثل هذا العمل ولكنهم يكرهون أن يقتلوا أبناء وإخوة حلفائهم المكيين. قريش هي التي عليها أن تقوم باللازم.
إن ردود الفعل التي من هذا النوع شيء مألوف. والأمثلة لا تحصى في التاريخ القديم والحديث للحالات التي أدت فيها اعتبارات المصالح الاقتصادية، وحدها أو بالإضافة إلى الاعتبارات الدينية أو الأيديولوجية، إلى نـزاعات عسكرية. وإذا كانت مكة، بعد ثمانية عشر شهراً من الهجرة، قد سيَّرت جيشاً ضد محمد في المدينة، فقد كان ذلك، في رأينا، للأسباب التي شرحناها لا - كما يدعي ابن إسحاق في حديث غزوة بدر - لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يستولي على قافلة لقريش جاءت من الشام في طريقها إلى مكة.
المسلمون والحج
هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون يؤدون شعائر الحج والعمرة خلال الفترة المكية وفي السنة الأولى من الهجرة؟
قد يكون من المفيد قبل أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال، أن نشرح ما هو الحج وما هي العمرة في الإسلام.
الحج هو مجموعة من الشعائر تؤدى في تاريخ محدد من الشهر الثاني عشر من السنة القمرية، إحياءً لذكرى إبراهيم عليه السلام. وقبل أن يصل الحاج إلى مكة، يلبس ملابس الإحرام ويحترم بعض القواعد السلوكية المعينة. وحين يصل إلى مكة يطوف بالكعبة سبع مرات ويسعى سبع مرات بين الصفا والمروة وهما مكانان مرتفعان. ثم يذهب إلى جبل عرفة على مسافة من مكة. وتتحصل شعائر الحج الحقيقي في وقوف جماعي في وادٍ صحراوي أمام هذا الجبل بين الظهر وغروب الشمس يوم 9 من شهر ذي الحجة، ثم في وقفة مسائية في مكان يقع على مسافة من عرفة يسمى بالمزدلفة. وفي المدة من 10 إلى 12 من الشهر، يقيم الحجاج في منى وهي مكان يقع على مسافة سبعة كيلومترات من مكة، ويذبحون الهدي ويرمون الجمرات، ويتخلل ذلك عودة إلى مكة حيث تؤدى فيها بعض الشعائر، قبل أن ينهي الحاج إحرامه بقص شعره أو بقطع شعرات منه.
أما العمرة فهي صورة مصغرة من الحج يمكن أداؤها في أي وقت من السنة بصورة منفردة. وشعائرها تشبه الجزء الأول من الحج، الذي يؤدى في مكة، أي الطواف بالكعبة والسعي بين الصفا والمروة.(13)
وكانت شعائر الحج والعمرة تؤدى، مع بعض الاختلافات، منذ عهد ضارب في القِدم في الجاهلية؛ وقد ألغى الإسلام بعض الممارسات التي كانت تجرى فيها.
ولا تحدد "السيرة" التاريخ الذي بدأ المسلمون فيه تأدية شعائر الحج والعمرة، ولكنها تخبرنا ضمناً أنهم كانوا يحجون خلال الفترة المكية، فإن الرجال الثلاثة والسبعين ومعهم امرأتان، الذين عقدوا بيعة الحرب مع الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا قد جاءوا إلى مكة في رفقة حجاج المدينة المشركين. وفي موسم الحج السابق حضر إلى مكة اثنا عشر من حجاج المدينة المسلمين وعقدوا معه صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى.
ولكن "السيرة" لا تصوِّر لنا الرسول ولا واحداً من أصحابه المكيين، في أي لحظة في سنوات الفترة المكية الثلاث عشرة، وهم يؤدون الحج أو العمرة. كذلك فإن أياً من أحكام القرآن الكريم التي نـزلت في الفترة المكية لا يذكر هذا الفرض. وأخيراً فإن عدة آيات مدنية مثل: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ …" ﴿217﴾ [البقرة] تتحدث عن إخراج من المسجد الحرام. وهذا الإخراج يشير بطبيعة الحال إلى إجراءات حظرت بها قريش على المسلمين الدخول إلى المسجد الحرام لتأدية عباداتهم من صلاة أو حج. لذلك يحق للمرء أن يشك في صحة ما جاء في "السيرة" عن وصول الاثني عشر ثم الثلاثة والسبعين حاجاً مسلماً من المدينة الذين يُدَّعَى أنهم عقدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم بيعتي العقبة المزعومتين.
ولو أن النص ذكر أن مجموعتي مسلمي المدينة المذكورتين جاءتا إلى مكة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم لكان ذلك أقرب إلى التصديق. لقد كان من الطبيعي جداً أن يأتي بعض من دخلوا في الإسلام خارج مكة إلى هذه البلدة خلال موسم الحج أو خارجه لرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم أو لرؤيته من جديد، هذا الرسول الذي يحبه المسلم أكثر من حبه أولاده، ويقوم بتقديم هدايا له، وللصلاة خلفه، ولحفظ ما جدَّ له من آي الذكر الحكيم، ولالتماس بركته، ولتوجيه أسئلة إليه عن الدين أو عما يحسن عمله لخدمته، ولإحاطته علماً بالجهود المبذولة لنشره، وبحالات النجاح وحالات الإخفاق في ذلك، وبالصعوبات التي تثور في صدد إبلاغ الدعوة للناس، وللتعرف على الإخوان في الدين من مسلمي مكة أو المسلمين الوافدين إليها من خارجها، ولحضور بعض الاجتماعات التي يعقدها الرسول صلى الله عليه وسلم معهم أو مع الكفار. وهذه اللقاءات مع الرسول كانت تتيح للرسول صلى الله عليه وسلم كذلك الفرصة، في بعض الحالات، لإيفاد بعض صحبه لتفقيه مسلمي الجزيرة في الدين.
وهذه اللقاءات ذات الطابع الديني لم تكن، مع ذلك، الغرض الوحيد للمسلمين الذين كانوا يقدمون إلى مكة للزيارة. لقد كانوا يقضون جانباً من وقتهم كذلك في التردد على السوق. وكانوا أحياناً يبيعون فيه الجمال والدواب والخراف التي جاءوا بها معهم. وكان هذا شيئاً يسيراً إذ أن الحجاج كانوا في حاجة إلى بعض هذه الدواب لنحرها في منى. وكان الوافدون يبيعون كذلك سلعاً أخرى كالخيل والجلود والأصواف والبُسُط والخيام والتمر وأنواع الجبن والبيض واللحوم المجففة، وغير ذلك، مما هو ضروري لطعام الحجاج. وكان بعض هذه البضاعة مخصصاً للاستهلاك المحلي، ولكن بعضها الآخر كان يشتريه تجار مكة لتصديره إلى سوريا أو اليمن أو إلى أسواق خارجية أخرى. وكانت حصيلة البيع تستخدم جزئياً لدفع نفقات الحج، كشراء الذبائح، ونفقات الإقامة في "النُزُل"، والطعام، والولائم التي يُدعى إليها الأصدقاء، الخ. وبالباقي كان الحجاج يشترون تموينهم من البضائع التي يحملونها معهم عند عودتهم لاستهلاك الأسرة أو القبيلة لمدد طويلة من الحبوب والملابس والأسلحة والدواب، أو لتجارة الداخل إذا كان الحاج هو نفسه من التجار، كما كان يحدث كثيراً. وكان موسم الحج أيضاً فرصة لبيع وشراء الرقيق. وباختصار، كان مسلمو الجزيرة، شأنهم في ذلك شأن الحجاج المشركين، ينتهزون فرصة الحج والعمرة للقيام في مكة بأنواع شتى من النشاط التجاري والاجتماعي. وكانت إقامتهم في مكة للحج وللعمرة - بالأمس، كما هو الحال اليوم - لا تقتصر على الوقت اللازم لتأدية الشعائر، بل كانت تمتد أحياناً إلى أسابيع، لاسيما بالنسبة للقادمين من بعيد.
والسؤال الآن هو: هل كان هؤلاء المسلمون القادمون إلى مكة كثيرين أم كانوا يمثلون حالات منفردة؟
لقد ذكر ابن إسحاق، في حديث الفترة المكية، حالة الطفيل بن عمرو الدَّوْسي، الذي دخل في الإسلام ثم عمل على نشره بين أعضاء قبيلته. وقد تردد على مكة مرتين ليشرح للرسول صلى الله عليه وسلم الصعوبات التي لقيها ويلتمس دعواته، واستطاع خلال سنوات قليلة أن يهدي إلى الإسلام سبعين أو ثمانين بيتاً من قبيلته. ولكن "السيرة" لا تتحدث إلا عن هذه الحالة. وهذا جزء من استراتيجية مؤلفنا الذي جعله تَحَزُّبه الشديد لأهل المدينة يصور المدينة على أنها ملاذ الإسلام الوحيد، ويصور الجزيرة العربية كلها، ومكة بوجه خاص، على أنها رفضت الإسلام. وهذا قول صعب التصديق، والمؤلف لم يشرح الأسباب التي من أجلها كانت أنحاء شبه الجزيرة أقل تقبلاً للإسلام من المدينة، ولا تلك التي جعلت المدينة أكثر حفاوة بالدين الجديد. والواقع، في رأينا، أن الإسلام إذا كان قد نجح في القرون التالية نجاحاً كاسحاً لدى شعوب في أفريقيا وآسيا لا تعرف العربية، لابد - لأنه كان يروق للناس - قد حظي بنجاح مماثل في الجزيرة العربية، في الفترة المكية، أثناء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. وبفضل انتشار الإسلام في بلاد العرب، كانت أعداد متزايدة ممن اعتنقوه تفد إلى مكة للنهل من منابعه الروحية، ولعقد صفقات تجارية. وكانوا، بطبيعة الحال، يفضِّلون، عقد هذه الصفقات، مع بني دينهم، وكان ذلك يخفف إلى حدٍ ما من وطأة المقاطعة التي فرضتها قريش ضدهم (لا ضد بني عبد المطلب، كما يدعي النص). وكانوا يجدون في لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم من الغبطة ما يجعل بعضهم يكثر من الذهاب إلى مكة لرؤيته.
هذا، فيما نرى، هو الحال الذي كان سائداً خلال الفترة المكية. أما بعد الهجرة، فقد تغيرت الأمور. لا بالنسبة لمشركي الجزيرة، فقد استمر هؤلاء في الذهاب إلى مكة للحج والعمرة، وإنما بالنسبة لمسلميها، الذين أصبحوا يذهبون إلى المدينة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وينبغي التفريق، بالنسبة لهؤلاء، بين مرحلتين: المرحلة التي تمتد من الهجرة إلى فرض الحج كواحدة من العبادات في الإسلام، والمرحلة التي تلي هذا الحدث.
وفي المرحلة الأولى كانت إقامة المسلمين الوافدين إلى المدينة تسير على المنوال ذاته الذي كانت تسير عليه في مكة قبل الهجرة. أما بعد أن فرض القرآن حج البيت على المسلمين، فقد قصرت فترة إقامتهم في المدينة وأصبحت مجرد إضافة للحج الشرعي. وترتب على ذلك أن أصبح ما ينفقونه من مال في المدينة أقل من ذي قبل.
كيف إذاً، وفي أي تاريخ، فُرض الحج كواجب ديني على المسلمين في الفترة المدنية ؟
لقد فُرض بمجموعة من الآيات شرحت أصله وقررته وحددت شعائره. وفيما يلي أهم الأحكام القرآنية التي نـزلت بصدده.
ورد تاريخ المسجد الحرام في الآيات التالية من سورة البقرة:
– وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم ُ ﴿127﴾ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿128﴾
– وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿125﴾
وعن فريضة الحج، وما هو محظور وما هو مباح، نجد الآيات التالية:
– وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴿27﴾ [الحج]
– وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴿97﴾ [آل عمران]
– الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴿197﴾ [البقرة]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴿198﴾ [البقرة]
وتقرر الآيات التالية بعض المحظورات وشعائر الحج:
– غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ﴿1﴾ [المائدة]
لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ﴿2﴾ [المائدة]
وَإِذَا حَلَلْتُـمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُـمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَـدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَـرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ﴿2﴾ [المائدة]
– إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعاَئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴿158﴾ [البقرة]
هذه الآيات، التي وردت في سور مدنية، متى نـزلت؟ إن نص ابن إسحاق لا يوضح ذلك. ولما كنا نجهل التاريخ الذي بدأ فيه المسلمون يحجون إلى مكة بعد نـزول الآيات المذكورة، فإننا نجهل طول الفترة التي أصبحت فيها المدينة بمثابة مكة الجديدة لمسلمي مكة وشبه الجزيرة، وابتداءً من أي لحظة أصبحت زيارتهم للمدينة، نتيجة لفرض الحج إلى مكة، أقصر أمداً مما كانت منذ الهجرة.
وعلى النقيض، فإن في "السيرة" بياناً يسمح، بالمقارنة وبصورة تقريبية، بمعرفة الوقت الذي فُرض فيه الحج. إنها تخبرنا أن صرف القبلة (من القدس إلى الكعبة) تم على رأس ثمانية عشر شهراً من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة (ص 606). وقد تقرر هذا التغيير بالآية (144) من سورة البقرة في قوله تعالى: "قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ" ولهذا السبب ولأن أهمية الكعبة بالنسبة لشعائر الحج لا تقل عن أهميتها كقبلة للصلاة، يجوز للمرء أن يستنتج أن صرف القبلة كان مقدمة لفرض الحج، وأن الآيات المتعلقة بهذه الفريضة نـزلت بعد صرف القبلة بوقت قصير. أي بعبارة أخرى أن المدينة أصبحت مقصد مسلمي الخارج لفترة عام ونصف على الأقل. وكانوا يفدون إليها بأعداد متزايدة. وكان فريق منهم يأتون من مختلف أرجاء الجزيرة بعد أيام أو أسابيع من السفر. ولكن فريقاً آخر كانوا يأتون من مكة. ولما كان ابن إسحاق قد أكد، خلافاً لما هو بديهي، أن جميع مسلمي مكة غير المحبوسين هاجروا إلى المدينة، فإن سيرته لا تتحدث أبداً عن أي وجود للمسلمين بمكة بعد الهجرة على اعتبار أن الإسلام استؤصل منها تماماً ولم يعد إليها إلا عند الفتح بعد ثماني سنوات من الهجرة. وهذا خطأ كما أوضحنا. ومن شبه المقطوع به أن نفراً من المسلمين الذين بقوا في مكة كانوا يسافرون إلى المدينة لرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ورؤية أقاربهم وكانوا يبقون معهم فترة من الوقت. ثم إنه كان هناك أيضاً من بين الوافدين إلى المدينة فئة لا ينبغي أن ننساها. فئة لم يكن قدومها بغرض الزيارة ولكن للبقاء كمهاجرين جدد. أشخاص من شبه الجزيرة أو من مكة كانوا يستجيبون لدعوة القرآن الكريم في آيات مثل:
– وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿100﴾ [النساء]
كل هؤلاء المسلمين، بالإضافة إلى أولئك الذين كانت قبائلهم تخرجهم، كانوا يتوافدون إلى المدينة، ونشأ عن توافدهم، في هذه البلدة - الواحة، وضع غير مسبوق فيها. لقد كان الأمر يقتضي إسكانهم، وإطعامهم، وتقديم الخدمات لهم. وكما هو الحال بالنسبة للحجاج الذين كانوا يصلون إلى مكة، كان هؤلاء المسلمون كثيراً ما يُحضرون معهم من الأموال والسلع ما يكفي لدفع نفقات إقامتهم. ومتى انتهى لقاؤهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يسعون لإجراء عمليات بيع وشراء وتجارة. كان لابد إذاً من بناء بيوت لإسكانهم، وإنشاء أسواق لمعاملاتهم ومرافق لخدمتهم. وكانت الوسائل البشرية والمالية اللازمة لمواجهة هذا الوضع الجديد متوافرة محلياً، فقد كان من بين مهاجري مكة تجار و"مقاولون" ورجال أعمال لهم باع طويل في هذه الأنشطة، فقد كانت "الفندقة" والتجارة وتقديم الخدمات فنوناً مارسوها وورثوها أباً عن جد. وكان الزوار يعرفون بعضهم ويتعاملون معهم في مكة. وفيما يتعلق ببناء المنازل وتقديم الخدمات كانت المدينة غاصة بيد عاملة رخيصة تبحث عن عمل. أما الأموال اللازمة لكل هذه المشروعات فكانت موجودة. لقد استطاع بعض التجار المهاجرين أن ينقذوا أموالهم من المصادرة في مكة، وأحضروها معهم. واقترض آخرون أموالاً من إخوانهم أهل المدينة أو أشركوهم في مشروعاتهم التجارية. وما أن وصل المهاجرون إلى المدينة حتى اشتروا جمالاً، وكوَّنوا قوافل أرسلوها إلى داخل الجزيرة لشراء المنتجات المحلية، ثم إلى سوريا والعراق لبيع هذه المنتجات وشراء بضائع أخرى يبيعونها في المدينة لعملائهم الجدد.
لقد كان وصول الزوار إلى هذه المدينة خيراً عميماً من كل وجهات النظر، فقد سمح بتنمية اقتصادها عن طريق إضافة قطاعات نشاط جديدة إلى أنشطتها التقليدية. وبفضل مهارة المهاجرين التجارية ومعرفتهم التامة بالأسواق الداخلية والخارجية، استطاعوا، في وقت قصير، أن يحققوا لأنفسهم استقلالاً اقتصادياً يرفع عبئهم عمن استضافوهم من أهل المدينة، كما استطاعوا أن يخلقوا فرص عمل لكثير من المهاجرين ولبعض أهل المدينة الفقراء. وقد تحسنت نتيجة لهذا النشاط كل أحوال الناس المعيشية وظهرت بوادر الانتعاش في كل مكان. وكانت آفاق المستقبل في المجال الاقتصادي طيبة، كما أن كثيراً من المشكلات التي تمخضت عن الهجرة تم حلها بمرور الوقت أو كانت في سبيلها إلى الحل.
كذلك فإن الأمور، على المستوى الديني، كانت تجري بصورة مُرضية. واستطاع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد تخففوا من المشاغل المادية، أن يكرسوا ما يلزم من الوقت والاهتمام لنشاط الدعوة. وخلَق الانتعاش الذي نتج عن تقاطر الزوار على المدينة، وسلوك المهاجرين النموذجي، والمثل الذي كان يضربه المسلمون القادمون من بعيد لرؤية رسولهم والتمتع بقربه، مناخاً ملائماً لنشر الإسلام. وكانت أعداد متزايدة من أهل المدينة تدخل في الإسلام. على أن هذا لم يكن، بطبيعة الحال، من بواعث السرور لجميع الناس.
إن غير المسلمين من أهل المدينة ذاتها كانوا ولا شك يتحدثون عن شيء كالاحتلال: هؤلاء المسلمون، ونبيهم، الذين وصلوا إلى بلدتهم كلاجئين فقراء، أصبحوا، أو هم بسبيل أن يصبحوا، قوة تضر بمؤسساتهم، وتحالفاتهم، وتقاليدهم، وحتى نمط حياتهم. صحيح أنهم جاءوا للمدينة بشيء من الرخاء، ولكنهم أول المستفيدين منه. أما التجار المحليون فقد أُضيروا بمنافستهم. ورؤساء القبائل والعشائر، لم يعد لهم على أعضائها السلطة التي تخولها لهم صفتهم، وقد هجر عديد من هؤلاء الأعضاء انتماءاتهم القبلية. لقد أحدث محمد وقرآنه خراباً كثيراً في مجتمعهم. ومع السيل الذي لا يتوقف من زائري مكة وسائر الأنحاء لم يعد أهل البلد الأصليون يشعرون أنهم في بلدهم.
كذلك فإن أوساط اليهود في المدينة كانت بدورها تتابع تطور الأحداث بقلق: هذا الرجل الذي يدعي أنه نبي والذي يحاول بقرآنه أن يقوِّض الدعائم الاجتماعية- الدينية للنظام القبلي الذي مرت عليه آلاف السنين في المدينة، والذي جاء بالثورة إلى عالمهم، ومنظر المسجد وهو يُبنى، والموجات المتلاحقة من الزائرين الأجانب التي تتوالى على المدينة، وقلب الموازين الديموغرافية لطوائف البلد وتوزيع الأدوار في المجال الاقتصادي بينهم وبين غيرهم من الأهالي، وإقبال هؤلاء المتزايد على الإسلام، ومنافسة التجار المهاجرين لليهود باجتذابهم للزبائن المسلمين المحليين والأجانب .. كل هذا جعل الخصومة الدينية بين اليهود والمسلمين تقترن، منذ السنة الأولى للهجرة، بتنافس تجاري قوي.
ومكة، من جانبها، كانت تتوجس من هذا التطور. لقد كانت تشعر بأنه يهدد مصالحها باعتبارها العاصمة الدينية والتجارية لجزيرة العرب بأكملها. وكانت منافسة المجتمع الإسلامي لها في المدينة خطراً على مستقبلها. إن جزءاً غير قليل من زبائنها التقليديين الذين كانوا يفدون إليها للحج والتجارة انصرفوا عنها إلى محمد. والأدهى من ذلك أن بعض أبنائها من المسلمين كانوا يذهبون إلى المدينة وينفقون فيها من مالهم. أي فضيحة لمكانة مكة، وأي خسارة لتجارتها!
كانت السنة الأولى للهجرة إذاً السنة التي ظهر خلالها في المدينة كيان إسلامي قائم بذاته. لقد استوعبت فيها صدمة الهجرة. ونشأ عن الزيارات والهجرات الجديدة ازدهار اقتصادي شجَّع على اتساع الإسلام وسمح بحل أو بتخفيف مشكلات الجماعة الإسلامية. ولكنها كانت في الوقت ذاته السنة التي زاد فيها العداء للإسلام لدى مشركي المدينة، ولدى القبائل اليهودية، ولدى قريش. وكان من الطبيعي أن يضم خصوم الإسلام صفوفهم وأن يُعْمِلوا الفكر في الوسائل التي يمكن بواسطتها احتواء صعود الإسلام في المدينة. ولابد أن مشركي هذه المدينة ويهودها قالوا لأصدقائهم المكيين إنهم بذلوا كل ما في وسعهم للحدِّ من نفوذ محمد، لكن الحيَل أعيتهم. لابد من عمل عسكري لمنع تدفق الموجة الإسلامية. وكان بودهم أن يتولوا هم مثل هذا العمل ولكنهم يكرهون أن يقتلوا أبناء وإخوة حلفائهم المكيين. قريش هي التي عليها أن تقوم باللازم.
إن ردود الفعل التي من هذا النوع شيء مألوف. والأمثلة لا تحصى في التاريخ القديم والحديث للحالات التي أدت فيها اعتبارات المصالح الاقتصادية، وحدها أو بالإضافة إلى الاعتبارات الدينية أو الأيديولوجية، إلى نـزاعات عسكرية. وإذا كانت مكة، بعد ثمانية عشر شهراً من الهجرة، قد سيَّرت جيشاً ضد محمد في المدينة، فقد كان ذلك، في رأينا، للأسباب التي شرحناها لا - كما يدعي ابن إسحاق في حديث غزوة بدر - لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يستولي على قافلة لقريش جاءت من الشام في طريقها إلى مكة.
3 : ما معنى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ.)
قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ) يعنى أن فريضة الحج تستغرق أياما معدودات. ويمكن تأدية الفريضة فى هذه الأيام المعدودات فى أى وقت خلال الأشهر الأربعة الحرم.
4 : ولكن الله تعالى قال في الآية الأخيرة عن الحج فى السورة: (وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى ..َ) ( البقرة 203 ) فماهى العلاقة بين الأشهر المعلومات والأيام المعدودات ؟
الأيام المعدودات هى المدة التى تكفى قضاء مناسك الحج خلال أشهر الحج أو موسم الحج الذى يستمر أربعة أشهر كل عام . ولأن تشريع الاسلام يقوم على التيسير ورفع الحرج فإن الله تعالى يبيح للمضطر أن يبدأ الحج قبل ميعاده بيومين أى فى التاسع والعشرين و الثلاثين من ذى القعدة أو أن يتأخر عن نهايته بيومين أى فى الأول و الثانى من ربيع الآخر.
وتخيل أن يأتى هذا التسهيل و التيسير حين كان الحجاج وقتها بالالاف ، فما هو الحال فى يومنا والحجاج بالملايين ..!! هنا نتعرف على جناية الدين السنى على أصحابه وعلى الاسلام و المسلمين..!!
5 ـ فما هى أشهر الحج الحقيقية ؟
من خلال سورة التوبة نتعرف على الأشهر الحرم الحقيقية، ففيها نزل إعلان البراءة من كل المشركين المعتدين وأعطاهم مهلة أربعة أشهر هى الأشهر الحرم ليكفوا عن الاعتداء ، وأذيع ذلك الإعلان يوم الحج الأكبر ، أى بداية موسم الحج.
تقول الاية الأولى من سورة التوبة: ( بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ) هذا إعلان البراءة. وتقول الاية الثانية : (فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ) وهذه هى المهلة : أربعة أشهر. تقول الآية الثالثة : (وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ..) وهنا بداية المهلة أو الأذان ؛ يوم الحج الأكبر، أى بداية موسم الحج. ثم تقول الاية الخامسة : (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ .. ) وهنا نهاية المهلة. وهنا أيضا التوضيح بأن مهلة الأربعة أشهر هى نفسها الأشهر الأربعة الحرم التى يحرم فيها القتال، وأنها تبدأ بموسم الحج، ثم تستمر متتابعة الى انسلاخ الأشهر الحرم كلها .والمفهوم أن يسرى مفعول الآذان – أو الأنذار – فى الشهور التالية لتكون الأشهر الحرم هى " ذو الحجة ، محرم ، صفر ، ربيع أول " فليس معقولا أن ينذرهم الله بأربعة أشهر سابقة هى شوال وذى القعدة ..!!
وقوله تعالى (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ) معناه أن الأشهر الحرم تبدأ بذى الحجة وتنتهى بربيع الأول .وذو الحجة اشتق أسمه من بداية موسم الحج للبيت الحرام ، وربيع الأول لأنه الشهر الرابع فى الأشهر الحرم ، وكلمة ( إنسلخ ) تفيد التتابع . أى أن الأشهر الحرم تأتى متتابعة متلاحقة .
ومصطلح الانسلاخ جاء فى قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ) ( يس 37 ) فالله تعالى يسلخ النهار من الليل فيحل الظلام . والنهار ينسلخ بالتتابع ومرة واحدة ،ولا تبقى أجزاء من النهار تأتى بعد الظلام إذن كيف يكون رجب من الأشهرالحرم ؟!! ، وكيف يكون شوال وذى القعدة منها ؟؟!!...
الحج خلال تلك الأشهر الحرم المعلومات للعرب هو ما كانت عليه ملة ابراهيم عليه السلام ، وهو الذى بوّأ الله تعالى له مكان البيت ، فأعاد بناءه مع ابنه اسماعيل ، وهو الذى أعلن الدعوة الى الحج. ( البقرة 125 ـ الحج 26 ـ )
ثم قام العرب فى الجاهلية بتحريف مناسك الحج والنسىء في أشهره الحرم فنزل القرآن الكريم يصحح ويوضح وييسر .
وبعد نزول القرآن الكريم فان الشيطان لم يقدم استقالته ، ولذلك عاد التحريف فى الأديان الأرضية للمسلمين متشعبا فى فريضة الحج وفى الأشهر الحرم. ولهذا نكتب هذا المقال .
6 ـ فما الذى جعل الحج ينحصر خلال العشرة أيام الأولى من شهر ذى الحجة ؟
الصراعات السياسة والحربية هى السبب، فعلى هامشها نشأت الأديان الأرضية للمسلمين، وأهتمت تلك الأديان الأرضية باقامة الاحتفالات و المواسم الدينية لتجتذب الأتباع. فللدين السنى أعياده ، وكذلك للدين الشيعى و الدين الصوفى ، ولكل دين الموالد أو الأعياد المقدسة التى تقام على أضرحة أئمته أو ذكراهم ، و بالتالى بدأ الحج الى أضرحة الأولياء و الأئمة. ومع اختلافهم فى تلك الأعياد و الموالد و تقديس البشر و الحجر فقد اتفقوا على إقامة عيدين مرتبطين بعبادتين اسلاميتين ، وهما عيد الفطر بعد انتهاء صوم رمضان وعيد الأضحى بعد انتهاء الحج الذى حصروه فى العشرة ايام الأولى من شهر ذى الحجة.
وكان ذلك كله على حساب الكعبة و الحج والشهر الحرم.
* فقد أنشأت أديان المسلمين الأرضية كعبات تحج اليها تنافس الحج للكعبة . فابتدع الدين السنى الحج الى ما أسموه ( المسجد النبوى ) فى المدينة والمسجد الأقصى فى القدس ، ومنعوا الحج الى غيرذلك . ومع أن الجميع فى الأديان الأرضية قد اتفقوا على تقديس ما يسمى بقبر النبى محمد وجعل زيارته من أساس الحج عندهم إلا أن الشيعو الصوفية أضافوا كعبات خاصة بهم ـ أى أضرحة وقبور مقدسة ـ يشدون اليها الرحال تحديا لمقولة ( لا تشد الرحال إلا الى ..)
فالشيعة لهم مدن كاملة مقدسة من كربلاء الى النجف ـ وحاليا (قم). أما التصوف فقد انتشرت به الأضرحة كالنبات الشيطانى لتغطى معظم مدن المسلمين ، بل وزحفت الى المساجد القديمة المنشأة قبل ظهور التصوف مثل مسجد الفسطاط فى مصر. واعتاد الناس الحج الى تلك الأضرحة ، وكان يقال أن من زار الضريح الفلانى كذا مرة فكأنما حج للكعبة. و يتم في هذا الحج تقريبا نفس مناسك الحج للبيت الحرام ، والتفاصيل فى كتابنا ( السيد البدوى بين الحقيقة و الخرافة) وسننشره على موقع أهل القرآن قريبا ـ إن شاء الله تعالى.
ولأن شهور العام لا تتسع لتأدية مناسك الحج لكل هذه الكعبات كان لا بد من حصر الحج الاسلامى للكعبة فى أيام بدلا من شهور. ولهذا جرى الاكتفاء بالحج خلال موسم الافتتاح فقط ، اى خلال ( الحج الأكبر )وتناسوا إباحة الحج طيلة الشهر الحرم ، بل تناسوا الأشهر الحرم أساسا بسبب الاقتتال المستمر بين المسلمين والذى لم يتوقف منذ العصر الأموى وحتى الان.
وهناك سبب آخر..
بالحروب الأهلية بين المسلمين انتقلت حركة الأحداث إلى عواصم جديدة فى الكوفة ثم دمشق ثم بغداد والفسطاط والقاهرة ، وبالتدريج أقفرت الجزيرة العربية منذ القرن الثالث وتم تهميشها فتحولت الى الحياة الجاهلية، وبدأت الغارات على قوافل الحجاج مما استلزم أن يتجمع الحجاج فى مسيرة واحدة فى وقت واحد ويقوم على حمايتهم جيش يقوده أمير للحج. وبذلك كانت وفود الحجيج من كل مكان تأتى فى شكل حملات عسكرية لتحمى الحجاج من غارات البدو ، خصوصا بعد أن إنتشرت المذاهب الشيعية المتطرفة بين قبائل العرب ، فصاروا عماد القرامطة وقبلها حركة الزنج. ومعلوم ما فعله القرامطة بالحجاج وبيت الله الحرام ، وقفزت غارات القرامطة إلى عناوين التاريخ لإرتباطها بحركة سياسية ، أما الغارات العادية للقبائل فقد كانت من الأنشطة العادية التى قبعت بين سطور التاريخ .ولحماية قوافل الحجاج كان لا بد من تجميع الوفود القادمة للحج لتكون فى موسم الإفتتاح فقط . واستمرهذا كل عام على مدار القرون فأصبح أهم الثوابت التى وجدنا عليها آباءنا.!!.
ويضاف إلى ذلك أن الخلفاء و السلاطين حرصوا على إستغلال موسم الحج للدعاية السياسية فى عصر لم يكن الإتصال فيه بين الولايات ميسورا، وصار الحج من الأدوات السياسية التى تستلزم حشد الجماهير فى وقت محدد ، وكان حرص الناس شديدا على رؤية مواكب الخلفاء والسلاطين وقت تجمعهم فى موسم الحج ـ الذى هو فى الأصل مجرد ( بداية الموسم ) أو ( الحج الأكبر ). وبذلك ترسب فى الشعور أن الحج هو فى تلك الأيام القليلة فى بداية شهر ذى الحجة فقط . ونسى المسلمون قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ) ويحتاجون الان الى من يقنعهم بأن الحج فعلا أشهر معلومات. وتلك هى جناية السياسة وأديان المسلمين الأرضية على شعيرة الحج الاسلامية والأشهر الحرم .
تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الثالث: علماء الإسلاميات الآخرون
تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الثاني: ر.ب. سرجنت - 5
تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الثاني: ر.ب. سرجنت - 4
تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الثاني: ر.ب. سرجنت - 3
دعوة للتبرع
الدعوة بالقرآن فقط: هل من المعق ول إن النبى عليه السلا م فى كل...
سؤالان : السؤا ل الأول : ما هو الفرق بين ( جبار ) و (...
ابليس والجن والملائك: فى كتاب ربي توصلت الي ان الله يدلنا علي بعض...
شاكر وشكور: سؤالا ن : 1 ـ هل الله يشكر عباده ؟؟؟ 2 ـ هل ( شاكر...
لا أعلم ..!: داير البحث الذي تكلمت فيه عن عدم جواز نطق اسم...
more
هذا البحث أو المقال يؤيد ما جاء في مقال للدكتور أحمد صبحي بعنوان الحج أشهر معلومات ، ويتطرق فيه إلى الحديث عن أسباب تغيير أشهر الحج من لأربعة أشهر إلى عشرة أيام وأن وراء التغيير عامل اقتصادي فقد قرات هذا الكلام في مقال الأستاذ محمود مراد في هذا الجزء : " كذلك فإن أوساط اليهود في المدينة كانت بدورها تتابع تطور الأحداث بقلق: هذا الرجل الذي يدعي أنه نبي والذي يحاول بقرآنه أن يقوِّض الدعائم الاجتماعية- الدينية للنظام القبلي الذي مرت عليه آلاف السنين في المدينة، والذي جاء بالثورة إلى عالمهم، ومنظر المسجد وهو يُبنى، والموجات المتلاحقة من الزائرين الأجانب التي تتوالى على المدينة، وقلب الموازين الديموغرافية لطوائف البلد وتوزيع الأدوار في المجال الاقتصادي بينهم وبين غيرهم من الأهالي، وإقبال هؤلاء المتزايد على الإسلام، ومنافسة التجار المهاجرين لليهود باجتذابهم للزبائن المسلمين المحليين والأجانب .. كل هذا جعل الخصومة الدينية بين اليهود والمسلمين تقترن، منذ السنة الأولى للهجرة، بتنافس تجاري قوي.
ومكة، من جانبها، كانت تتوجس من هذا التطور. لقد كانت تشعر بأنه يهدد مصالحها باعتبارها العاصمة الدينية والتجارية لجزيرة العرب بأكملها. وكانت منافسة المجتمع الإسلامي لها في المدينة خطراً على مستقبلها. إن جزءاً غير قليل من زبائنها التقليديين الذين كانوا يفدون إليها للحج والتجارة انصرفوا عنها إلى محمد. والأدهى من ذلك أن بعض أبنائها من المسلمين كانوا يذهبون إلى المدينة وينفقون فيها من مالهم. أي فضيحة لمكانة مكة، وأي خسارة لتجارتها!" انتهى النقل وهي نفس الأسباب التي ذكرها الدكتور أحمد صبحي في مقاله الحج أشهر معلومات في هذا الجزء :
وتيسرا على القارىء سنجعل الموضوع فى سؤال وجواب.
1 ــ يقول رب العزة: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ) (البقرة /197 ) فما معنى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ )؟
يعنى أن موسم الحج الذى يمكن ان تؤدى خلاله فريضة الحج هو أشهر معلومات معروفات للعرب وقت نزول القرآن الكريم. أى هناك أشهر معلومة للحج يعلمها العرب ومن أدى فريضة الحج فى هذه الأشهر فعليه أن يلتزم بواجبات الحج والأحرام عند بيت الله .
2 : وكيف تكون تلك الأشهر معلومات للعرب وقت نزول القرآن ثم يحدث تناسيها والاختلاف فيها كما جاء فى كلام الفقهاء والمذاهب.؟
كانت تلك الأشهر معلومات للعرب لأنها هى نفس الأشهر الحرم التى كانوا يلتزمون فيها باداء فريضة الحج ، والتى كانوا يلتزمون فيها بعدم الاقتتال ، ثم إذا أحلوا القتال فيها أو فى بعضها أعلنوا ذلك فى محافلهم و كان منها سوق عكاظ. وهذا هو النسىء ، الذىجعله رب العزة زيادة فى الكفر. قال تعالى (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ ...َ ) ( التوبة 37 ).ومع أن النسىء كان زيادة فى الكفر أو كفرا متطرفا إلا إنه كان يعرف الأشهر الحرم مبدئيا ويعترف بحرمتها ، ويلتزم بذلك غالبا ، ويستحل بعضها أحيانا ـ ولكن يعلن ذلك.
ولكن المسلمين فى معظم تاريخهم لم يعترفوا بالأشهر الحرم ، ولم يحدث بعد قيام الدولة الأموية أن توقف القتال بين المسلمين احتراما للأشهر الحرم ، ثم تناسوها تماما ، وعندما تذكرها الفقهاء فى العصر العباسى قاموا بتحريفها،وأضافوا اليها ما ليس منها وألغوا منها ما هو أصل فيها. وامتد نفس التحريف و التخريف الى البيت الحرام بعد الشهر الحرام. وهكذا يأتى وصف الله تعالى للأشهر الحرم بأنها ( أشهر معلومات ) صفعة للدين السنى الذى جعل تلك الأشهر (مجهولات ) بعد أن كانت ( معلومات )