قراءة في مقال خطبة الجمعة رؤية تصحيحية
قراءة في مقال خطبة الجمعة رؤية تصحيحية
المؤلف سلمان بن فهد العودة والمقال يدور كما في التمهيد حول تحقيق أقصى استفادة من الخطب في يوم الجمعة للحاضرين للخطب وفى هذا قال العودة :
"نشتكي كثيراً من سيطرة الآخرين على الإعلام ، وهذا صحيح ، بَيْدَ أنه ليس كلَّ الحقيقة ؛ لأن هذه السيطرة هي أحد أخطائنا الاستراتيجية العَصِيَّةِ على العلاج. أما الشِّقُ الآخرُ من الحقيقة فهو أن الميدان الذي نملكه واسع أيضاً ، ولكنا أخفقنا في استثماره لأسباب كثيرة .
فنحن -أحياناً- نشعر بأنه لا منافسَ لنا ، فنتحرك ببطء شديد ، وأحيانا نشعر بأن الدائرة تضيق علينا؛ فنهرب إلى معادلة شديدة الاستحالة ، وهي: إن ما نملكه لا قيمة له ، والشيء القيم لا نستطيعه .
وبين هذا وذاك يخلد المرء إلى التبعيّة والتقليد والمحاكاة ، ويضم إلى ورد الصباح : ليس في الإمكان أبدع مما كان .
لقد تحسن الأمر كثيراً ، فلقد كان الخطباء يرددون خطب ابن نباتة المصري حتى وقت قريب "
الرجل هنا يتكلم عن ان الخطابة منذ قرون وهى تدور في إطار التقليد كما في قراءة أو حفظ الخطيب لخطب كتاب ابن نباتة وغيره وللأسف فإن تلك الخطب لم تكن خطب تعليمية وإنما خطب تصنع لبيان مقدرات الكتاب على المحسنات البيانية ومن ثم عملت تلك الخطب على تكريس الجهل بالدين عند الناس
قبل الدخول في الموضوع يجب القول :
أنه لا وجود لخطب الجمعة في كتاب الله وإنما الموجود هو الصلاة يوم اى نهار الجماعة وهى الصلاة الوحيدة التى يجب صلاتها جماعيا كما قال تعالى :
"يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون"
أنه في إطار الروايات لم تنقل أى رواية خطبة كاملة للنبى(ص) لا في يوم الجمعة ولا في غيره وأقصى حد ذكرته الروايات من خطب يوم الجمعة كان مقدمة الخطبة فقط دون موضوعها
وهو كلام يظهر أن من وضعوا الروايات تعمدوا ذكر وجود خطبتين في يوم الجمعة فقط ومع هذا لم تذكر رواية واحدة خطبة منها في أيا من كتب الروايات عند السنة أو الشيعة او الاباضية او غيرهم
والعجيب أننا لو قلنا أن الخطب كانت فيما بعد الهجرة فالمفروض أن الرسول(ص) عاش حسب الروايات في المدينة عشر أو احد عشر سنة وهو ما يعنى وجود من 540 إلى 600 خطبة تقريبا ومع هذا المحصلة من كتب الروايات صفر
إذا الخطب خارج الصلاة بدليل أن الروايات الموجودة تذكر الخطبتين ثم تذكر الصلاة وهو ما يعنى أن لا علاقة بين الاثنين
ومن ثم فالخطب تكون خارج المسجد لأن المساجد بنيت للصلاة وهى ذكر اسم وهو وحى الله كما قال تعالى :
" في بيوت اذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه"
وتحدث العودة عن أن الدين هو من جمع الناس لسماع الخطب ومن ثم يجب تعليمهم الدين كما يجب فقال :
"والحق أن سندنا الأقوى هنا هو الدين .
نعم . الدين الذي ساق هذه الملايين إلى ساحة الخطبة طوعاً واختياراً .
والدين الذي استنصتهم ، وكاشفهم أن من مس الحصى فقد لغا ، ومن لغا فلا جمعة له .
والدين الذي هو اللغة المشتركة بيننا وبينهم ، فبسمه نتحدث وبسمه يستمعون
فإذا أحسنا التعامل مع قضاياه وحقائقه أمسكنا بالزمام ، وإلا فسيكون الضعف من حيث كانت القوة ."
وتحدث العودة عن مضمون الخطب وهى موضوعات الحديث وأن الموضوع يجب أن يكون كاملا متكاملا من كل النواحى فقال :
"2- المضمون :
وهذا يقود إلى جوهر الموضوع .
فحجر الزاوية هو حسن اختيار موضوع الحديث ، وطول التفكير فيه ، ليكون قادراً على المواءمة بين مطالب الشرع ، وحاجات الواقع ، وتطلعات المستقبل .
إن التوفيق في اختيار الموضوع بحد ذاته ، نجاح حتى لو حدث نقص في تغطيته .
والاتكاء على مُحْكمات الشرع ومُجْملاته أليق وأوفق ، فالحديث عن الله وكمالاته ، ونعمه وأعطياته ، والقرآن وفتوحاته ، والرسول وكراماته ، ثم الإيمان وأركانه ، والإسلام وأعلامه ، والإحسان وبيانه ..
وتأييد ذلك ببديع القول، ولطيف الإشارة ، ومساق المثل ، وأعجوبة القصة ، وبليغ الشعر، ومكتشف العلم الحديث ، وعبرة التاريخ .
مراعىً في ذلك المقصود الأسمى في تحريك القلوب ، وتصفية العقول ، وضبط السيرة .. دون إيغال في جدليات لا تناسب المقام ، أو تذهب ببهجة الكلام . أما تفصيلات الأحكام فلها حيزها المحدود ، فلا تستأثر بالأمر ، ولا يخرج الحديث إلى تشقيق مفرط ، أو تشهير محبط ، أو محاكمة بين الأقران ، أو تهديد بلاهب النيران .
اللهم إلا إذا جاء الحديث عن قطعيات ومحكمات ، من واجبات أو محرمات ؛ فهناك يكون الاقتداء بمنهج القرآن في الوعد والوعيد .
وأيُّ تَثْريبٍ على خطيب يأمر بالصلاة والزكاة ، أو ببر الوالدين وصلة الأرحام ، أو بالإحسان إلى الجيران ، أن يشفع حديثه بوعد صدق للعاملين ، وجنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للمتقين ؟!
أم أيُّ تثريبٍ على خطيبٍ ينهى عن الشرك وأسبابه ، أو العقوق ، أو بخس الحقوق ، أو فواحش الأخلاق ، أو محكمات المنهيات في الشريعة أن يَزَعَ النفوس بوعيد ترجف له القلوب ، وتصطك له الأسماع ؟
ولعل هذا وذاك خير من عزل الوعد والوعيد عن أسبابها ، وإفرادهما إفراداً يرسل النفوس مع رجاء ، أو يقطعها من خوف .
أما مواطن الاختلاف، وتعارك الأسلاف ، فحقيق بمن مرّ عليها أن يمر مرور الكرام ، عارضاً لكل أحد حجته ، ملتمساً عذره ، غير مهدّدٍ ولا متوعد.
على أن الأمر كله في ذلك موصول بكل جديد، ومستفيدٌ من عبر الزمان وأحواله وتقلباته ، ومن شهادة الواقع ومعاناته ، ومن فتوح العلم ومنجزاته .
ثم إن حاجات الواقع أوسع من ذلك وأفسح .
فقضايا الاجتماع ، والعلاقات الاجتماعية بمداراتها المختلفة وتشعباتها ومشكلاتها- حقيقة بالنظر الإصلاحي العميق .
ومثلها قضايا الاقتصاد وتطوراته وشؤونه وميادينه .. والفقر والبطالة وآثارها ... ومعيار طلب الدنيا وطلب والآخرة .
وهكذا الشأن في مسائل الإعلام ووسائله ، وخيره وشره ، وحلوه ومره
ثم أمور السياسة: مداراتها، واتجاهاتها، وخطئها وصوابها ، ثم منجزات العلم في كل الميادين ، من طب ، وصناعة ، وفلك ، وتربية ، وإدارة ، وحاسب ، واتصال ...
وهذه البنود شديدة اللصوق بحياة الناس الأسرية والفكرية ، ولذا فهم شديدو التعلق بطرقها ، متى كان الطارق حاذقاً ، والمحلّ موافقاً والحال مواتيا .
يظن البعض أن خوض السياسة هو وحده الذي يكسب الخطيب تألقه ، ويحشد حوله الناس .
والصواب أن الموضوع الحي ، والتناول السديد ، ورشاقة الأسلوب ، وجودة الإلقاء ، وحسن الانتقال .. هي ضمانات الإبداع ، ومحققات الالتماع ، وجالبات الاستماع .
وكم من واعظٍ بضاعته التبشير والتخويف ، تحتشد حوله ألوف بعد ألوف !
وكم من فقيهٍ متحدث في الحلال والحرام .. والناس حوله فئام إثر فئام !
وكم من مفسّر .. ومفكّر .. ومنظّر .. وما شأن برامج الإذاعة والتلفزة عنا ببعيد !
أيُّ معنى لخطيب يتحدث في الزنا والفاحشة، ولا يعرّج على الإيدز وإحصائياته المذهلة ، ونظائره من الأمراض الجنسية ! وأيُّ معنى لخطيب يتكلم في النكاح، والطلاق، ولا يعرّج على أثر الإعلام والمسلسلات الرومانسية، والروايات الغرامية ، ولا يستشهد بالإحصاءات والأرقام ، ويذكر كل ذلك بلسان العارف الخبير المطّلع ، لا بلسان الناقل المتلقف المتخطّف !
وأيُّ معنى لخطيب يتحدث عن الإعلام ، ثم يجمل الحديث عن الإنترنت ووسائل الاتصال باعتبارها رجساً من عمل الشيطان ، أو شراً محضاً ينبغي محاربته ونبذه !
إن ثقافة الخطيب الشخصية ذات أثر بعيد في نجاحه ، ويفترض أن ما يلقيه المتحدث في موضوعه لا يتجاوز 10% مما قرأه حول الموضوع.
و حين تتناول هذا الموضوع، أو ذاك، فتذكرْ أن في مستمعيك من يفوقك - ولو في موضوع خاص - فجاهد نفسك في الدقة العلمية ، وإصابة المرمى ، وإن أعوزك الأمر فلُذْ بتعميم العبارة ، وتوسيع الإشارة ، وحاذر من حكاية الأوهام ، بحجة أنك لست في باب الحلال والحرام ، فإنك تخسر بذلك كل يومٍ فئةً تدري أن ما تحكيه ليس بصواب، فتنجفل إلى الباب !
و أَقْمِنْ بالخطيب - والحديث يجر بعضُه بعضاً - ألا يصغي بأُذُنِهِ لخبر محتمل ، أو رواية مترددة ، أو ظن أو تخمين ، حتى يعلم علم اليقين !
وما أحراه أن ينأى بنفسه عن الحديث عن الأشخاص، والأعيان تصريحاً أو تلميحاً !
وما أجدره أن يجانب لغة السب والتقريع والتوبيخ ، ورديء القول ، وشنيع المقال ؛ فالعفة من الإيمان ، والبذاءة في النار .
وليكن في وارد البال أنه كلما كان الموضوع أكثر تحديداً - في هذا الباب - وأكثر دقة ، وأبعد عن التعميم كان ذلك أدعى لسهولة الإعداد ، وأيسر لتحقيق المراد ، وأقرب إلى الفهم ، وأوضح في الحكم .
ومن تناول الموضوع بعموميته حام حوله ، ولم يُصِبْ كَبِدَهُ .
ولأن هذه المسائل مترابطة بسنة الحياة ، فليس بِبِدْعٍ من القول أن تتناول الخطبة الواحدة عدداً منها من جوانب شتى .
إذ لا يمكن فصل موضوع الزواج عن باب الاقتصاد ، ولا عن باب الإعلام ، ولا عن مبتكرات العلم الحديث ، فضلاً عن الوعد والوعيد ، والقرآن والحديث .
أما عن تطلعات المستقبل فالقاعدة فيها النظر إلى مستقبل الإنسانية: علماً، وفكراً، وسياسة، واقتصاداً ، إذ المسلمون جزء من هذا العالم لا يملكون عَزْلَ أنفسهم عنه بحال ، فهم به متأثرون كثيراً ، ومؤثرون قليلاً ، بل نادراً ، والله المستعان .
ولكن استراتيجيات الدعوة، وخططها وطموحات أهلها مربوطة بهذا الأفق الواسع الكبير ، ولا ينجح في الفِلاحة من لا يعرف طبيعة الأرض.
ثم هناك ، بعد هذا وذاك ، مستقبل الإسلام والمسلمين ، والدعوة والدعاة، وقدرتهم على إدارة الحياة، وتوجيهها وفق شريعة الحق والعدل
وهذه المناحي الثلاثة تحتاج من الخطيب الحاذق لَمَسَاتٍ واعيةً ، ونَفَثَاتٍ هاديةٍ ، وتأصيلاً بديعاً ، وترسيماً رفيعاً ، يصل الأمس باليوم ، واليوم بالغد ، ويستشرف أفق المستقبل الواعد ، ما أعيت الحيلة فيه في الحالِ الحالّ ، من غير هروبٍ ، ولا مجازفة ، ولا تخدير .
مع محاذرة التوقعات المحدّدة ، والتخوفات المردّدة ، والآمال الكِذاب ، والأحلام العِذاب .
ولقد أصبح المستقبل، ودراساته علماً قائماً بذاته ، له مدارسه ومراكزه ومؤسساته ، وله متخصصوه، وكتّابه ومؤلفاته ، وهو كالنتيجة للمقدمة ، والثمرة للسبب ، والأثر للمؤثر ، وإن كان الظن يصدق ويكذب .
وأَعْلَمُ ما في اليومِ والأَمْسِ قبله *** ولكنَّني عن علمِ ما في غدٍ عَمِي
هذه وَقَفَاتٌ سريعةٌ غيرُ مفقَّطةٍ ولا مُنَقَّطَةٍ حول مضمون الخطبة وموضوعها وفحواها ومعناها .
اللغة والأسلوب وطريقة التعبير ، سواءٌ أكانت لفظية منطوقة ، أم كتابية مسطرة، هي وعاءٌ للحقائق والمعلومات، والأفكار التي تحملها ."
وما قاله العودة هو كلام عام لا يقدم ولا يؤخر لأنه يترك للخطباء أن يتكلموا كما يريدون وبعضهم يتخذها وظيفة من أجل المال وليس بديه إلا القليل من العلم وهو في النهاية إن تركت الموضوعات للخطباء فسوف يركز كل منهم على جوانب معينة ويترك بقية الجوانب
ومن ثم وأنا أتحدث هنا ليس عن مجتمعاتنا الحالية التى لا تحكم بحكم الله وإنما أتحدث عن الخطباء في دولة العدل
الخطب في السنة يجب أن تشمل كل موضوعات الدين بلا استثناء لأن الغرض هو تعليم الناس أحكام الدين كما كان النبى(ص) يعلم الفقهاء كى يذهبوا ليعلموا أهليهم أى أقوامهم وفى هذا قال تعالى :
"وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون"
إذا الخطب تكون مرتبة فى موضوعات عامة وتكون مكتوبة بالتفصيل وما على الخطيب إلا أن يقرئها أو يقدم معناها بألفاظ يفهمها الناس فمثلا تكون الموضوعات مرتبة كالتالى :
الذات الإلهية – الرسل – الملائكة – الكتب السماوية – الاقتصاد – الزواج – الطلاق – أداب الطريق – الجهاد - أداب الجيرة – آداب التعلم – آحكام الصلاة – أحكام الزكاة – أحكام الصوم- أحكام الحج – تنظيم البلاد – اختيار أهل المناصب .....
أنا أتكلم هنا ليس عن54 جمعة ولكن عن خطبة يومية تقدم للناس ومن ثم يمكن للاقتصاد أن يكون فى شهر كل يوم تفصيل فى جزء منه بحيث تنتهى السنة وقد تناول الخطيب كل موضوعات الدين الممكنة وأما الموضوعات الطارئة فلا يجب أن تعطل تلك الخطة وإنما يتناولها الخطيب فى خطبة ثانية فى نفس اليوم
وتحدث العودة عن أسلوب الخطيب حيث قال :
"ودون شك فإن المضمون الجميل ، حقه أن يُقَدَّم في قالب جميل يليق به ، ولذلك قال بعض المفكرين : إن الطريقة التي تقدم بها الفكرة هي جزء من الفكرة ذاتها وهذا صحيح .
ولعل جزءاً منه يتبين في مثل صفة الرسول- صلى الله عليه وسلم- حال الخطبة ، ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب احمَرّت عيناه ، وعلا صوتُهُ ، واشتد غضبُهُ حتى كأنّه منذرُ جيش ، يقول: صبّحكم ومسّاكم ، ويقول : ( بُعِثْتُ أنا والساعةَ كهاتين ، ويَقْرِنُ بين إصبعيه: السبابةِ والوُسطى ، ويقول : أما بعد ؛ فإن خيَر الحديثِ كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد . وشرُّ الأمور محدثاتُها , وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ ، ثم يقول : أنا أولى بكل مؤمنٍ من نفسه .من ترك مالاً فلأهله ، ومن ترك ديْناً أو ضياعاً فإليَّ وعليَّ ) .
فحين كان صلى الله عليه وسلم يتكلم عن أمر التخويف والتحذير ؛ كان هذا يبدو على قسمات وجهه ، ونبرات صوته ، من غير تكلف ،ولا تعمّل
وحين انتقل إلى تقريب الساعة وبيانها استخدم صلى الله عليه وسلم ، صيغة عملية ملفتة ، وهي الجمع بين إصبعيه ، حتى يضم إلى الدِّلالة اللفظية إيضاحاً عملياً مشهوداً يستقر في الذهن . وحين تدرّج إلى ذكر بعض النتائج والفوائد جاءت على صيغة فَقَراتٍ مفصولة موجزة ، يأخذ بعضها بِزِمامِ بعض ، وتنطلق إلى أذن السامع كأنها حبَّاتُ عِقْد نظيم .
وحين ختم بقوله ( أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ... الخ ) كان من الواضح أن اللهجة قد هدأت وأن الدورةَ الطبيعيةَ للحديث قد بلغتْ نهايتَها
ولذلك قال النووي تعليقاً على هذا الحديث ( 6/156) " يُسْتَدَلُّ به على أنه يُستحبُّ للخطيب أن يُفَخِّم أمرَ الُخطبةِ ، ويرفعَ صوتَهُ ، ويَجْزُلَ كلامُهُ ، ويكونَ مطابقاً للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب ،أو ترهيب، ولعل اشتداد غضبه كان عند إنذاره أمراً عظيماً ، وتحذيره خَطْبًا جسيمًا .. " "
والحديث الذى استدل به العودة باطل لم يقله النبى(ص) فالساعة ليست قريبة كما زعم الحديث لأننا بعد ألف ,اربعمائة وأكثر من التاريخ المعروف لم تقم القيامة التى لا يعرف موعدها نبى ولا غيره كما قال تعالى :
"يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربى لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت فى السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة"
وأما حكاية تحمير العينين والغضب فكلام يتناقض مع حديث أخر هو لا تغضب فليس مطلوبا من الخطيب أن يتصنع المظاهر وإنما عليه أن يفهم الناس المطلوب
واستخدم العودة تعبير السحر البيانى فقال :
"إن تعبير " السحر " الوارد في حديث جابر بن سمرة في مسلم تلخيص دقيق لمهمة " البيان " ، فهو يَسْبي العقولَ ، ويأخذُ بالألبابِ ، ويُطْرِبُ الآذانَ ، ويُحَرِّكُ المشاعرَ ، ويُبَدِّلُ القناعاتِ ، ويصنَعُ العجائبَ .
ولذا فإن الحس الأدبي المرهف ، والذوق الرفيع من أسباب النجاح والتوفيق في الخطاب ، خطبةً كان ، أو مقالةً ، أو شيئاً آخر .
ورُبَّ أسلوبٍ راقٍ كان مرافعةً ناجحة عن قضية من قضايا المُبْطِلين . ورُبَّ أسلوبٍ ضعيفٍ متهالكٍ كان جِنايةً على فِكْرَةٍ عظيمةٍ نبيلةٍ .
والذي يحدث -أحيانًا- أنّ مَنْ يتشبعُ بنظرٍ صحيح يُخيَّل إليه أن صواب الحجج العقلية والنقلية التي يملكها يُعفيه من إخراجها في القالب الأدبي الشاعري الآسر .
والحقُّ أنَّ عليه أنْ يدرك أنَّ جودةَ العرضِ ، وحسنَ الصياغةِ ، وملائمةَ الخطابِ اللفظي يُضْفِي على نَصَاعَةِ الحجة مزيداً من القوة والإقناع والتأثير .
ثم إن سَعَةَ الأُفُقِ ، كما تكون في شمولية الفكرة ، وتناسُبِها مع قِطاعٍ عريضٍ من الناس ، تكون -أيضًا- في شمولية الأُسلوبِ ، وخروجِهِ عن الإطار الخاص ."
وسحر البيان يقصد به تقديم الأدلة وأخذ الناس بالتدريج للفهم والاقتناع ولا يقصد به المحسنات اللفظية
وتحدث عن عدم تحدق الخطيب باللغة الدراجة فقال :
"إن الخطيب الذي يستحضر أنه يخاطب الأمة ممثلة في هذه المجموعة المُصِيخَةِ له ، يبني جسوراً قوية عابرة إلى تقارب الأمة بعضِهها مع بعض ، بشرائحها وفئاتها وشعوبها .
والذي يختزل هذه الفئة ويستلها ثم يخاطبها خطاباً خصوصياً مستديماً .. قد ينساق - من حيث يدري أو لا يدري - إلى نقيض ذلك ، فيعمّق الفوارق بين فئات الأمة .
ولو أن الفوارق كانت تميزاً لفئة بمزيد فهم ، أو علمٍ ، أو عملٍ .. أو مَزِيَّةٍ شرعيةٍ ، فإن الأمرَ- حينئذ- صائبٌ لا عَتْب فيه ، فكل فئة تنقل من حيث هي، إلى ما هو أرقى وأنقى وأبقى .
أما حين تكون تلك الفوارق مناطقية أو إقليمية أو مصطنعةً فترسيخها ترسيخ للفرقة بين المؤمنين .
واللغة جزء من ذلك ، فالاتكاء على لهجة خاصةٍ ، والحفاوة بمصطلحاتها ، ومفرداتها ، وأمثالها ، وتراكماتها .. يحول دون شمولية المعالجة ، وسَعَةِ الطرح ، وامتداد التواصل .
واللغة الفصحى السهلة ، البعيدة عن التقعر والإغراب ، هي القالب اللائق بالخطبة التي يسمعها جمهور عامٌ ، فلا يترقى الخطيب إلى لغة المعاجم والقواميس ، التي تحجب الفكرة عن سامعه ، ولا ينحط إلى لغة السوق المبتذلة التي تُزْهِدُ الناسَ فيما لديه ، أو تَصْرِفُهم عنه ، ولا يمنع هذا وذاك من الإحماض بين الفيْنة والأخرى بلفتةٍٍ عابرةٍ مفهومة تربط الفلاّح بالخطبة ، وتشدّه إلى معناها ، أو أخرى لذي اختصاصٍ تبهَرُهُ وتُزَكِّي فهمَهُ ."
ولغة الخطب وهى لغة الدعوة لابد أن تكون اللغة الدراجة التى يفهمها الناس وليست لغة الكتب التى هى اصطلاحات وتعريفات اخترعها الفقهاء وابعدوا بها الناس عن دين الله ولذلك قال تعالى :
"وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم"
وتحدث عن تكرار الخطب فقال :
ولأن الخطبة عادةٌ تتكرر ، وشريعةٌ تنتظم ، ودأْبٌ يدوم ، فإنه يجمل بالخطيب أن يقتدي بهدي القرآن العظيم في تصريف الآيات ، وتنويع العِبَر، واستشراف الإبداع ، وأن يُعطِيَ لِخُطبته عُصارةَ جُهْده ، وخُلاصةَ كَدِّه .
فالوقت الكافي الذي يصرفه في إعداد مادتها ، وصياغتها ، ومراجعتها ، وتقليب النظر فيها ، سيجعل منها مادةً دَسِمَةً غنية ثريةً ، وسيشعر المستمع - لا محالة - أنه محل الاحترام والتقدير ، حين استفرغ المتحدث جُهْدَهُ لأجله ، فقدَّم له هذه المادة المنتقاة المرتبة ، إنها ليست سُلالَةً من كتاب ، ولا ارتجالاً مُرْتَبِكًا من غيرتَأَهُّلٍ ، ولا تسديدَ فراغٍ ، ولا عِبْئًا يتطلع صاحبه إلى الخلاص منه .
فذلك الخطيب الحاذق .. اختار محامِدَهُ التي استهل بها حديثه بعناية ظاهرة ، ونوّع فيها ، وناسَبَ بينها وبين موضوع خُطبته ، واستبعد منها كل وَحْشِيٍّ في اللفظ أو في المعنى ، وحلاّها بدُرٍّ نظيم ، من قبَسَاتِ الهدي الكريم ، ولم يُطِلْ فَيُمِلَّ ، ولم يقصّرْ فيُخِلَّ ، ولم يكرر تكراراً يبعث على السآمة ، ولم يُغْرِب إغراباً يجرُّ إلى الملامة .
وربما ركن بين الفيْنة والفيْنة إلى الاستفتاح بخُطبة الحاجة ، أو خُطبة النِّكاح - كما سماها بعض المصنفين والشراح - دون التزامٍ صارم بها . فلقد وردت بها السنة في حديث جابر في مسلم ، وفي سواه من الأحاديث ، بيد أن هذا لا يعني أن ثمَّةَ التزاماً صارماً لا يتخلف بل إنّ ألفاظها ذاتها تختلف بين رواية وأخرى ، وقارن مثلاً حديث جابر المنوه عنه سابقاً ، بحديث ساقه مسلم إلى جواره عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قصته ضماد .
وبعض أهل العلم قصرها على مجلس عَقْد النكاح ، ولكن هذا ما لا يسعفه الدليل .
وقد جاء في صحيح السنة صيغ مختلفة لدعاء الاستفتاح في الصلاة ، وهو مما يتلوه المرء في سرّه ، فيكون أشدّ عليه إقبالاً ، وأكثر استحضاراً ، فما بالك فيمن يسمعه غيره ؟
فلتكن فقراتٍ صالحةً معتدلة منوعة ، ومن دون التزام صارمٍ بنوع منها يستلّ من المستمِع المتوِّثب روحَ التطلع والتوقع ، ليمنحه عِوَضاً عنه الإخلاد والاسترسال وراء هواجس النفس وشواغلها . ولتكنِ الخطبةُ كلُّها قصداً ، لا تهويلَ ولا تطويلَ ، ولا ابتسارَ ولا اختصارَ ، ولكنْ قصدٌ عدلٌ ، كما كانت خطبة محمد -صلى الله عليه وسلم- قصداً ، وصلاته قصداً ، كما في حديث جابر بن سمرة عند مسلم وغيره .
وليتخير من جوامع الدعاء المأثور ما يليق بالحال والمقََام والموضوع ، دون اعتداءٍ ولا إفراط ، فإن الله لا يحب المعتدين ، ويتلوه بتخشُّع وتضَرُّع، وحضورِ قلب وابتهال ، فهي ساعة إجابةٍ يُرجى أن تفتح لدعوته فيها أبوابُ السماء .
وليتجنبِ السجعَ المتكلَّفَ في دعائه وخطبته ؛ فإنه مذموم ، إلا ما جاء منه عفواً دون عناء ، وفي الحديث المتفق عليه عن متكلِّفِ السجعِ أنه من إخوان الكهان ."
والحقيقة أنه ليس مطلوبا في الدين التكرار خاصة في المقدمات من الحمد والصلاة وإنما المطلوب هو تكرار المعانى كل سنة إلا في الحالات الطارئة وما قاله العودة عن اعطاء الخطباء الحرية في الخطب هو ما أدى بنا إلى الخلاف والاختلاف المذموم ومن ثم في دولة العدل الخطب موحدة لأن المعلم الذى علم الدين كان واحدا وهو النبى الخاتم(ص) ولم يكن الرسول(ص) ليقول كلاما متناقضا كما هو في الروايات
المفترض في الخطب تعليم أحكام الدين كما في كتاب الله اليقينى وليس من الروايات الظنية التى أدت إلى تفرق الأمة إلى فرق وشيع
حرية الخطيب هى تقديم المعنى في ألفاظ لها نفس المعنى وليس شرطا أن تكون الألفاظ المكتوبة
وتحدث عن استبعاد الشعر من الخطب فقال :
"ولا أعرف على التحديد سبباً وجيهاً لتجنب الخطباء الشعرَ جملةً وتفصيلًا .
نعم . لا يصلح أن تتحول الخطبة إلى أمسية شعرية ، ولا أن يكون الغالب عليها الشعر ، لكن بيت أو بيتان تسوقهما المناسبة ، فيهما من التنويع والجاذبية الكثير ، ولقد كان صلى الله عليه وسلم يستزيد من الشريد بن سويد كما في صحيح مسلم ، ويقول له : هل معك من شعر أميةَ بنِ أبي الصَّلْتِ شيءٌ؟ قال : فأنشدته مائة قافية ( يعني مائة بيت أو مائة قصيدة ) والتوسط في هذا وغيره مطلوب وكلُّ شيءٍ في إبَّانِهِ حسنٌ ، وإنَّ منَ الشعرِ لحكمةًّ ."
وما استدل به العودة هنا لا يصلح للخطب لأنه لم يكن في مجلس خطابة وإنما كان في مجلس عادى بين اثنين
اجمالي القراءات
1393