ابن خلدون في مقدمته : العلاقة بين السلطة والثروة
آحمد صبحي منصور
Ýí
2015-08-19
مقدمة
فى النظم الاستبدادية القائمة على التسلط والقهر يأتى ضابط الشرطة ـ شابا حديث التخرج ــ الى نقطة الشرطة أو ( المركز ) لا يملك سوى نفوذه وسلطته مع ملابسه الميرى ومرتبه ، وخلال عدة أشهر يصبح ثريا، يسعى اليه الأثرياء من التجار ورجال الأعمال يقدمون له الأموال والخدمات . وهذا حال شاب فى مقتبل العمر معه بعض النفوذ ، فكيف بمن هم أعلى منه ؟ وكيف بالمستبد الأكبر الحاكم الفردى ( مصدر السلطة ) و ( منبع النفوذ ؟ ) . هذا ما سبق الى تقريره العلامة عبد الرحمن بن خلدون فى ( المقدمة ).
1 ـ ففي مقدمة ابن خلدون فصل صغير الحجم بعنوان " فصل في الجاه مفيد للمال" وفى تعبيره عن السلطة يستخدم مصطلح ( الجاه ) .
وقد سبق في هذا الفصل إلي تقرير العلاقة بين السلطة والثروة ، وكيف أن صاحب الجاه/ السلطة ـ يستفيد بنفوذه في صنع ثروته.
وقد بدأ ابن خلدون بملاحظة تقرر أن الذي يجمع بين المال والجاه أكثر ثروة من ذلك الذي يفتقر إلي الجاه والنفوذ ، ويري أن صاحب النفوذ يتقرب إليه الناس المحتاجون إلي جاهه ، ويقدمون له الأموال والخدمات ، ويكتفي ذاتيا بجميع حاجاته الضرورية وكمالياته بدون أن يدفع مقابلا ماديا لما يؤخذ ، والناس يستفيدون في المقابل من نفوذه وجاهه وسلطته ، وهو لا يكتفي بأن يعيش بلا مقابل ومجانا ويوفر نفقاته ، بل يضيف إلي ذلك استخدام نفوذه في أعمال تدر عليه دخلا إضافيا ، ويستخدم نفوذه في رواج تلك الأعمال وتزداد مكاسبه في أسرع وقت .
2 ــ وعن صاحب المال المحروم من الجاه والنفوذ يقول ابن خلدون :إن فاقد الجاه تماما لا تكون ثروته إلا بمقدار ماله وعلي نسبة سعيه وعمله . وذلك ـ فى رأيه ــ حال أكثرية التجار ، والأقلية من التجار يجمعون بين الثروة والجاه ، لذلك تتعاظم ثرواتهم . ويستدل علي أن الثروة تتبع الجاه والنفوذ بحال الفقهاء والعلماء والمشهورين بالصلاح ، يبدأ أحدهم فقيرا فإذا ذاع صيته وأصبح له أتباع علا بهم نفوذه تدفقت عليه الثروات ، يقول ابن خلدون " ومما يشهد لذلك أنا نجد كثيرا من الفقهاء وأهل الدين والعبادة إذا اشتهر حُسن الظن بهم واعتقد الجمهور معاملة الله في إرفادهم ـ أي إعطائهم ـ أخلص الناس في إعانتهم علي أحوال دنياهم والاعتمال في مصالحهم ـ أي قضاء مصالحهم ـ وأسرعت إليهم الثروة وأصبحوا مياسير من غير مال مقتني إلا ما يحصل لهم من قيم الأعمال التي وقعت المعونة بها من الناس لهم " .
3 ــ ويقول ابن خلدون إنه رأي كثيرا من هذه الحالات بين الفقهاء والعلماء في الأمصار والمدن وفي البدو، ورأي الناس يسعون إليهم ويعملون عندهم في الفلاحة وفي التجارة
بدون مقابل ، بينما يجلس أولئك العلماء والفقهاء في مكانهم دون عمل أو جهد فينمو مالهم ويعظم كسبهم من غير سعي أو تعب .
4 ــ وفى فصل تال عن العلاقة بين الجاه والثروة يفلسف ابن خلدون أثر الجاه ( النفوذ ) السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الدول والحكومات ، ويصل ذلك الفصل بما قبله حين يقول أنه سبق أن أوضح أن الكسب يأتي بالعمل وعلي قدر العمل وأن الجاه ( السلطة والنفوذ ) يفيد في نمو المال وزيادته ، ثم يتحدث عن درجات الجاه فيقول " ثم إن الجاه متوزع في الناس ومترتب فيهم طبقة بعد طبقة ".
5 ــ ومع هذه النظرة السلبية لاستخدام السلطة والنفوذ / الجاه فى تحصيل وزيادة الثروة إلّا أنّ ابن خلدون يوضح حاجة المجتمع الإنساني إلي وجود جاه ونفوذ، لأن النوع الإنساني لا يتم إلا بالتعاون بين أفراده ، وذلك التعاون لا يتأتى إلا بفرضه عن طريق قوة عليا يخضع لها أفراد المجتمع ، وتلك القوة العليا تكون من أصحاب الجاه والنفوذ .
6 ــ علي أن ابن خلدون يعترف بأن هذا الجاه لا يخلو من وجود ظلم ، وابن خلدون يضع تعريف للجاه أو السلطة بأنه القدرة الحاملة للبشر علي التصرف فيمن تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالإذن والمنع والتسلط بالقهر ليحملهم علي دفع مضارهم وجلب منافعهم في العدل لأحكام الشرائع والسياسة وعلي أغراضه فيما سوي ذلك ..
7 ــ وتحدث ابن خلدون عن درجات الجاه وكيف أن الطبقة السفلي من أهل الجاه تستفيد من الطبقة التي تعلوها ، وعلي قدر الجاه يكون المكسب الاقتصادي، فإذا كان الجاه محدودا كان الكسب الناشيء عنه محدودا، وإذا انعدم الجاه كانت الثروة علي قدر العمل وكان التعب علي قدر الكسب ، ولذلك يصير الفلاحون وأصحاب الحرف والصنائع عرضة للفقر لأنهم لا جاه لهم ، ولأن مكسبهم متوقف علي عرقهم ولأنهم عرضة أكثر من غيرهم للظلم وتسلط أصحاب الجاه .
8 ــ ويرى ابن خلدون أن صاحب الجاه يختال بجاهه علي طالبي رضاه ، وأولئك يكونون دائما من المنافقين الذين يريدون تملق صاحب الجاه ، وأنهم بتملقهم ونفاقهم وخضوعهم لصاحب الجاه ينالون حظوة عنده ، ويقتبسون شيئا من جاهه ، يستأسدون به علي من هم دونهم في المكانة. وفي نفس الوقت فإن أصحاب الكرامة والترفع والشمم والعزة لا يحصلون من الجاه علي طائل ، لأنهم لا يجيدون التملق والنفاق ولا يحبون ذلك ، ولهذا فهم محرومون من الجاه ، وبالتالي نراهم محرومين من أثار الجاه الاقتصادية ، فيقتصرون في التكسب علي كد يمينهم وعرقهم وبالتالي يكون الفقر مصيرهم .
9 ـ ولا يبدو أن ابن خلدون يتعاطف مع أولئك الناس الذين يرتضون بالفقر تمسكا بعزة النفس ، مع اعترافه بأن أولئك الناس الذين يتصفون بالعزة هم المتفوقون بالعلمي أو الأدب ، بما يجعل العالم الأديب معتزا بنفسه يربأ بها عن تملق من يراهم أقل منه علما ، وإن كانوا أكثر منه جاها وقوة ونفوذا . يقول ابن خلدون :" واعلم أن هذا الكبر والترفع من الأخلاق المذمومة إنما يحكم من توهم الكمال وأن الناس يحتاجون إلي بضاعته من علم أو صناعة العالم المتبحر في علمه أو الكاتب المجيد في كتاباته أو الشاعر البليغ في شعره. وكل محسن في صناعته يتوهم أن الناس محتاجون لما بيده ، فيحدث له ترفع عليهم بذلك ".
10 ــ وكان ينبغي علي ابن خلدون أن يقول إنهم يترفعون عن تملق أصحاب الجاه علي وجه الخصوص ليصل هذا الكلام بما سبقه ، فقد استدرك ابن خلدون ذلك فقال عن أولئك العلماء وغيرهم المعتزين بكرامتهم " وتجد هؤلاء الأصناف كلهم مترفعين ولا يخضعون لصاحب الجاه ولا يتملقون من هو أعلي منهم ويستصغرون من سواهم لاعتقادهم الفضل علي الناس فيستنكف أحدهم عن الخضوع ولو كان لصاحب الجاه ".
هنا أيضا كان ينبغي علي ابن خلدون أن يجد لهم عذرا ليس فقط في أحقيتهم في التكريم لتفوقهم في العلم والأدب والصناعة ولكن أيضا لأنهم محرومون من ذلك الحق في التكريم والمكانة السامية، والتى احتلها من لا يستحق ، وهم المنافقون والمتملقون الذين لا موهبة لهم إلا النفاق والخضوع . ومن الطبيعي ألا ينتظر منهم ابن خلدون أن ينافقوا السلطان الذي حرمهم حقهم أو أتباعه المنافقين المفسدين .
11 ــ وما قاله ابن خلدون عن علاقة السلطة بالثروة يتجلى فى عصرنا مثل ما تجلى فى عصره وما سبق عصره من عصور . وقراءة مقدمة ابن خلدون توضح أن عبقريته فى ( مقدمته ) جعلته يسبق عصره ( المملوكى ) ويستخلص من التاريخ علما كاملا فى ( مقدمة ابن خلدون ) أسماه ( علم العمران ) وهو المعروف لدينا الآن بعلم ( الاجتماع ).
وتسمية ( علم العمران ) ( الخلدونية ) أفضل من تسمية ( علم الاجتماع ) ، لأن الاجتماع يكون فى البشر وفى الحيوانات بل وفى الحشرات ، فكلها كما قال رب العزة ( أمم أمثالكم ): (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ) (38) الانعام )، ولكن المجتمع البشرى أو ( الاجتماع البشرى) ـ وجده هو الذى يؤسس عمرانا ماديا معنويا وحضاريا .
12 ـ وفى ( مقدمة ابن خلدون ) الكثير مما نستفيد منه لواقعنا الراهن بعد ثمانية قرون من موت ابن خلدون . ولكن يحول بيننا وبين فهم مقدمة ابن خلدون والاستفادة منها أُسلوب ابن خلدون المعقد ومصطلحاته الغامضة ، لذا كان مهما جدا إعادة صياغة ( مقدمة ابن خلدون ) بلسان عصرى مفهوم ، يقدم المعنى بطريقة قريبة جدا من (لغة ) ابن خلدون ، هذا مع دراسة لها ؛ تحليلية أصولية تاريخية . وهذا ما فعلناه فى كتابنا ( مقدمة ابن خلدون : دراسة تحليلية ) وقد سبق نشره فى مصر عام 1998 ، ونعيد نشره هنا على مقالات مضافا اليه أبحاثا جديدة لم تُنشر من قبل .
وموعدنا مع هذا الكتاب بعد أن ننتهى من كتاب ( التصوف ) الذى أوشكنا على الانتهاء منه .
والله جل وعلا هو المستعان .
اجمالي القراءات
15809