غالب غنيم Ýí 2014-10-10
بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد والشكر لله رب العالمين
( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) الزمر - 36
مقدمة :
هذه سلسلة من المقالات، التي أود من خلالها محاولة فهم الإسلام – دين الله القيم بشكل حنيف قريب الى المراد الإلهي الذي نبتغيه في بحثنا عن الحق، من منطلق عالميته واتساعه لنواميس الكون وسننه والتغيرات التاريخية في المجتمعات منذ نزوله حتى اليوم.
أعلم بأن هذا الموضوع قد تم الكتابة فيه كتبا بل وربما مجلدات، وأعلم بأن هناك كثيرا من المفاهيم التي تدور حول مدلول مفردة النسيء، فلقد قرأت كثيرا من البحوث في هذه المفردة التي جعلوا منها موضوعا قائما بذاته، بالرغم من أنني هنا سأتخذ موقفا مغايرا تماما لكل ما تم طرحه مما قرأته، وسأقوم بتعليل هذا الطرح المغاير كما فقهته أنا من كتاب الله تعالى العظيم فقط.
فحين ننظر لكل ما تم طرحه قديما في قضية – أو مفردة النسيء كما أحب أنا أن أسميها، نجد أن كل من قام بطرحها ومحاولة تفصيلها قد اتكأ على التراث بشكل أو آخر، فدائما ما نجدهم يحاولون شرحها حسب فهمهم الذي هو في الأصل ليس خالصا لله تعالى، وسبب عدم خلاصه أنهم يتكؤون على معلومات مخزّنة فيهم من التراث الذي استقوه من قبل، ولم أقرأ بعد، محاولة واحدة للتعرض لهذه المفردة بشكل خالص لله تعالى، أي بدون أي إتكاء على التراث أو الرأي المسبق.
وهنا أنا لا اتهم أحدا، معاذ الله، بل أحاول تصنيف ما تم طرحه مما اطلعتُ عليه أنا، ولربما تم طرح هذا المفهوم من قبل آخرين بدون أي إتكاء، فمن الطبيعي أنني لا علم لي بكل ما في الأرض من كتابات وطروحات، ولكن أغلب ما قرأته، كان لا بدّ أن يرجع الى التراث، وهذا ما اطّلعت عليه، وليس كل العلم.
فما الجديد هنا؟ الجديد أنني سأحاول فهم مفردة النسيء بعيدا عن اي تراث وراي مسبق، بل من القرءان الكريم بشكل مطلق، و سافترض أنها مفردة مثل غيرها من المفردات مثل مفردة جهاد، أو سُنّة أو قتال أو اقتتال.
______________
قضية المفردة :
المفردات التي وردت في النسيء في القرءان الكريم محدودة، والشكل الذي نحاول هنا فقهه هو مفردة ( ٱلنَّسِىٓءُ) التي وردت في قوله تعالى :
( إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْرًۭا فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلْأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌۭ ۚ ذَ ٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا۟ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَـٰتِلُوا۟ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةًۭ كَمَا يُقَـٰتِلُونَكُمْ كَآفَّةًۭ ۚ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا ٱلنَّسِىٓءُ زِيَادَةٌۭ فِى ٱلْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ يُحِلُّونَهُۥ عَامًۭا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامًۭا لِّيُوَاطِـُٔوا۟ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّوا۟ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوٓءُ أَعْمَـٰلِهِمْ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ )– التوبه - 36:37
ومن المساق، نرى بوضوح ارتباط النسيء بعدة ما حرم الله تعالى! وهنا الكثيرون عادوا الى التراث الذي افترض افتراضات عدة، منها ان النسيء هو زيادة شهر أو نقصان شهر أو أيام أو عملية الكبس للأشهر والأيام، الى غير ذلك، مما لم ينزل الله تعالى به من سلطان ، وهذا ما سنقوم بإثباته وتبيينه من القرءان الكريم بإذن الله تعالى.
ولكي نحدد حيثيات القضية، علينا أن نفكك الآية الى أجزاء، ونسأل أسئلة كثيره، ثم نقوم بجمعها بناءا على إجابات القرءان لهذه الأسئلة، وليس بناءا على ما تم روايته لنا في التراث من روايات متعددة، لا سلطان لها في القرءان!
السؤال الأول : لم قال تعالى أن النسيء زيادة في الكفر؟ وكيف نفقه تفصيل الزيادة في الكفر؟ وما هي الزيادة في الكفر؟
السؤال الثاني : ما الهدف من النسيء؟ هل له هدف واحد أم عدة أهداف؟ لم يتم استخدامه؟ وهل مسموح استخدامه أم لا؟
السؤال الثالث : ما علاقة النسيء بالأشهر الحرم؟ ومنه : لم تم التحدث عنه بالمفرد إن كان له علاقة بالأشهر الحرم؟ ولم لم يقل أنه مجموعة الأشهر الحرم التي هي في المساق؟ لم قال يحرمونه ولم يقل يحرمونها ؟
______________
زيادة في الكفر :
إن كان النسيء زيادة في الكفر، فيجب علينا أن نفقه، كيف يكون زيادة في الكفر من القرءان الكريم، الذي لا بد أنه فصل لنا قضية الزيادة في الكفر من عدمها، وهذا سنجده في قوله تعالى :
( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلْإِسْلَـٰمِ دِينًۭا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ٱلْءَاخِرَةِ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ * كَيْفَ يَهْدِى ٱللَّهُ قَوْمًۭا كَفَرُوا۟ بَعْدَ إِيمَـٰنِهِمْ وَشَهِدُوٓا۟ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقٌّۭ وَجَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَـٰتُ ۚ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ * أُو۟لَـٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ ٱللَّهِ وَٱلْمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَـٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ * إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُوا۟ مِنۢ بَعْدِ ذَ ٰلِكَ وَأَصْلَحُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌ * إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ بَعْدَ إِيمَـٰنِهِمْ ثُمَّ ٱزْدَادُوا۟ كُفْرًۭا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ * إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَمَاتُوا۟ وَهُمْ كُفَّارٌۭ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلْأَرْضِ ذَهَبًۭا وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِۦٓ ۗ أُو۟لَـٰٓئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۭ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِينَ ) آل عمران – 85:91
وفي قوله تعالى :
( يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ ءَامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلَّذِى نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلًۢا بَعِيدًا * إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ثُمَّ كَفَرُوا۟ ثُمَّ ءَامَنُوا۟ ثُمَّ كَفَرُوا۟ ثُمَّ ٱزْدَادُوا۟ كُفْرًۭا لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًۢا * بَشِّرِ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ۚ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًۭا) النساء – 136:138
فلم احضرت هاتين الآيتين من دون غيرها؟ فالآيات التي تتحدث عن الزاد كثيرة في القرءان الكريم، ولم ترد لفظة "زيادة" الا مرتين، وكلاهما لم تدلا على تحديد القدر من الزيادة، بل تم اطلاقها بدون تحديد لها، مثل الآية التي نحن بصددها، ولكن الزيادة ارتبطت بالكفر في ثلاث آيات، وهي هذه التي بين يدينا الآن، آية الموضوع وآيتي آل عمران والنساء، ولهذا أتيت بهن، لأنه حسب ظني، أتَـيَـتا لتفصلا الزيادة في الكفر في هذه الآية، التي اختلف عليها الكثير بالرغم من بساطتها، وهذا ما سنراه في نهاية البحث!
مما لا بد أن نلاحظه، أن كلا الايتين، هنا ارتبطتا بقضية العلم بالله تعالى، بل وكتبه ورسله وشهدوا أن الرسول حق، أي أن كلا هاتين لآيتين، تم اخبارنا فيهما بان من سيتم عليه التوصيف بالزيادة في الكفر، قد عَلِمَ أن الله حق، وبلغته الرسالة، بل وآمن بها لوقت ما!
في آية آل عمران، نرى بكل وضوح، أنه تم التمهيد لمن تم الحكم عليهم بكونهم ازدادوا كفرا، بالتوضيح أنهم كفروا من بعد إيمانهم، وشهدوا أن الرسول حق، وجائتهم البينات، ولم يتوبوا من بعد كفرهم ولم يصلحوا، ومنه ، هم ازدادوا كفرا، أي تخطوا الحد الذي يمكنهم التوبة فيه، ولم يتوبوا، من بعد علم، فهم كما فرعون، جائته تسع آيات بينات، ولم يصدر منه سوى الجحد، وحين بدأ يغرق، أراد التوبة، فكانت غير مقبولة منه، لأن التوبة تتطلب عدم العودة للشيء، والإصلاح، وليس كلاما فقط.
نفس الشيء نجده في آية النساء، بل هي أكثر وضوحا وتفصيلا لقضية الإزدياد في الكفر، فالخطاب هنا، للذين امنوا، وليس للناس، أي هم بدأوا عملية الإيمان، والدخول في الإيمان، ويتم التنويه لهم بأن يزدادوا إيمانا، ثم يتم التهديد لفئة تتأرجح منهم، وهم عادة المنافقين، فالذين أمنوا ثم كفروا ثم أمنوا ثم ماذا بعد كل هذا التأرجح؟ ازدادوا كفرا ! أي لا ولن يؤمنوا من بعد ذلك، لأنهم جحدوا بالحق من بعد أن تبين لهم، هؤلاء بالطبع لن يغفر الله لهم.
اذا ازدياد الشيء – والكفر خاصة هنا، متعلق بكثرته المفرطة التي لن تنتهي لسبب ما!
ومنه، آية الموضوع، (إِنَّمَا ٱلنَّسِىٓءُ زِيَادَةٌۭ فِى ٱلْكُفْرِ)، فلم هو زيادة؟ بناءا على ما رأينا أعلاه، يقوم به فئة من المنافقين الذين يعلمون أن عدة الشهور هي اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، فهم يعلمون بتلك المعلومة، وإلا كان من الحشو أن يتصف عملهم هذا بكونه زيادة في الكفر، فإن اتصف عملهم هذا بكونه زيادة في الكفر، فذلك لكونهم يفعلون فعلا لا يجب أن يفعلونه في الأصل، فإن فعلوه، فهم بفعلهم هذا ازدادوا كفرا، فكان وصف عملية النسيء بكونها بحد ذاتها " زيادة في الكفر" لأن من يقوم بها من بعد ما علم أن هناك أربع أشهر حرم هو من الجاحدين لا بد.
ومنه، يمكننا بكل بساطه، بناءا على فهمنا للزيادة في الكفر أن نقول، أن من يقوم بالنسيء ازداد كفرا لأنه يقوم بعمليه زيادة في الكفر!
فهذه جملة كاملة، تم بعد ذلك تفصيلها والتعليق عليها لكي تتضح، ولا يمكننا أن نقول أنها غير كاملة، لنعطي للجملة مفهوم غير الذي تحمله، وسنرى أدناه كيف يتم البناء بعد التفكيك هذا.
______________
ما الهدف من النسيء :
سوف اقوم حتى هذه اللحظة بالكتابة مفترضا أننا لم نحدد بعد ماهية النسيء، أي سأقوم بكتابة فهمي، على شكل تجريدي، ثم سنعود لاحقا أدناه بفقه مفردة النسيء بعد كل هذه التوطئات، فما الهدف من النسيء؟ والذي أظن أنه عملية وليس فعلا فقط؟
الله تعالى يقول أن الهدف من النسيء شيئان :
1. الهدف الأول وهو الأقل درجة، هو رغبة الذين كفروا وازدادوا كفرا بأن يُضلوا الآخرين !
( يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ )، أي يقوموا بعملهم اليومي المعتاد، وهو إضلال الناس، وهذا هو عمل الذين ازدادوا كفرا اليومي المعتاد، كما بينّا أعلاه، بكونهم وصلوا الى درجة الجحود، فأصبح عندهم الكفر من الأمور المعتادة، وبالطبع هنا نركز على الكفر السلوكي، فالأمر متعلق كله بالأشهر الحرم، التي لا قتال فيها ويجب أن يشعر الناس بالأمان فيها، فهم هنا يزدادون كفرا لإضلال الناس عنها. فكيف يضلونهم ؟ الجواب في قوله تعالى ( يُحِلُّونَهُۥ عَامًۭا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامًۭا ). أي أنهم يضلون الناس ومن حولهم بأن يحلونه عاما ويحرمونه عاما!
هنا علينا التوقف كثيرا والابتعاد عن أي فكر مسبق! فلم يقل الله تعالى أي مفردة عن زيادة أشهر أو نقصان أشهر، أو أيام أو سنين أو غير ذلك، بل تكلم عن التحليل والتحريم للشهر الحرام، العدّة، فلم نفتري عليه الكذب بأن نقحم ما لا يجب ان نقحمه في ثنايا الآيات؟
يحلونه عاما - أي في ذلك العام لا يكون محرما بل حلالا كما بقية الشهور، ويحرمونه عاما، أي يكون في ذلك العام حرام كما هو يجب أن يكون!
وهذا بيّن تماما في الجزء الآخر أو الهدف الأكبر من فعل عملية النسيء، والتي سنتعرض لها أدناه.
2. الهدف الثاني وهو الأعم والأكثر تعدّيا على الله تعالى، ( لِّيُوَاطِـُٔوا۟ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ )،وهو سبب ازدياد كفرهم الفعليّ، وهو الافتراء على الله الكذب وتعدّي حدوده، بأن يواطؤوا عدّة ما حرم الله.
فالوطء بمدلوله المادي هو دخول الأرض والبقاء فيها ( الأحزاب- 27) – ( التوبه – 120) - أو الوقوف فيها ( المزمل – 6)، وبمدلولها المعنوي هي التعدي على خصوصية الشيء ( الفتح – 25) فكيف تطأ المؤمنين والمؤمنات ؟ وهي هنا في الآية الموضوع، حيث أن الأشهر الحرم هي من خصوصية الخالق الذي وضعها للأنام منذ خلق السموت والأرض، فلا يجب التعدي على هذه الخصوصية، وهي عدّة ما حرم الله تعالى، بهدف جليّ واضح وهو ( فَيُحِلُّوا۟ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ ۚ )، وهل من بعد إحلال ما حرم الله من كفر؟
في القرءان كله، نرى كثير من الآيات التي تهددنا بأن لا نتعدى حدود الله ولا نعتدي عليها ولا نحلل ما حرم الله حتى بما تصف ألسنتنا الكذب! فما أكثر ما تصفه ألسنة البشر من أشياء من حولهم؟ فلو طرحنا أي قضية صغيره على ألف من البشر، وهي أن يصف لنا دابة ما، أو فعل ما، لوجدنا من التحليلات والأَفهام بعدد هذا الألف تقريبا، وهذا ما لا يريد الله تعالى أن يجعله قانونا من عنده، أو أمرٌ منه، فقام بتحديد ما حرمه ونسخه في القرءان لكي لا نتعدى عليه، وعلى ما حرمه، بما تصفه ألسنتنا، وهو الخبير بعباده!
وأغلب وعود وأماني الشيطان هي في تحليل المحرم وتحريم المحلل، وكم من آية في القرءان تحذرنا من الوقوع في ذلك لقوم يعقلون!
ومن هنا وبكل وضوح نرى أن أكبر هدف هو التعدي على حرمات الله تعالى، وهو الهدف السامي الذي توارثه شياطين الإنس عن أبيهم إبليس.
ومن البديهي أن استخدام النسيء هو لغاية الإضلال والتعدي، ومنه، فهو ليس أمر مسموح به ابدا، بل مذموم ذما كبيرا الى درجة كونه من صفات الذين ازدادوا كفرا بقيامهم به.
______________
ما هو النسيء وما علاقته بالأشهر الحرم ؟
بداية علينا التمييز بين شيئين، عدّة الشيء، والشيء ذاته، فالشهور عدتها اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، فلم تحدث الله تعالى عن هذه الأشهر بكونها مفردا، حين قال يحلونه ويحرمونه؟ نلاحظ أن عملية النسيء الهدف منها مواطئة عدّة ما حرم الله، وليس مواطئة ما حرم الله أو مواطئة "بعض" الأشهر الحرم! وهنا لا بد لنا من فهم الشهر الحرام!
الشهر الحرام في القرءان الكريم جاء معبرا عن عدّة الأربع أشهر الحرم:
الشهر الحرام ليس شهرا من الإثني عشر شهرا بل هو عدّة هذه الأربع أشهر الحرم، التي هي من الشهور الاجماليه، ولهذا وبالذات هنا، كان الحديث عن الشهر الحرام بالذات، على أنه عدّة الأشهر الحرم، فكان الحديث عن مواطئة الشهر الحرام، أي العِدّة ذاتها، فكان الكلام عن فرد وليس جمع!
ورد الشهر الحرام في صيغة العدّة في عدة مواضع منها قوله تعالى :
( يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍۢ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌۭ فِيهِ كَبِيرٌۭ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌۢ بِهِۦ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِۦ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ ۚ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ ٱسْتَطَـٰعُوا۟ ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌۭ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ ۖ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ )البقرة - 217
فالمعلوم لدينا من سورة التوبة أن الأشهر الحرم هي أشهر الحج، وهي أربعة أشهر متتابعة متتالية تنسلخ عن بعضها البعض انسلاخا بتتابع وبدون تقطّع، وهي كانت مهلة الذين كفروا من المعتدين من المشركين، والمهلة لا يتم اعطاؤها بتقطّع بل بتتابع مستمر، فهي في المحصلة، أربعة أشهر محرم القتال فيها الا على من اعتدى بظلم، وتبدأ بالحج الكبر، وكل هذه الأشهر الحرم، عبّر الله تعالى عن عِدّتها بالشهر الحرام، أي سمى عِدّتها بالشهر الحرام، ولنحصي عدّة الشهر الحرام، نقوم بعد أربعة أشهر من عدة الشهور، والتي هي اثنا عشر شهرا، ولن أخوض هنا في الشهر والشهور، ولكن الشهر الحرام هو ليس من الأشهر بل هو عِدّة، وما يجب علينا هنا التركيز عليه حتى لا نتشعب في البحث، هو أن مفهوم " الشهر الحرام " لا يُطلق على شهر مما نعرفه بل على عدّة الأربع أشهر الحرم.
وهذا بيّن من الآية أعلاه، ومن آية النسيء التي تتحدث عن مواطئة عدّة ما حرم الله، وليس مواطئة الأشهر الحرم، وهذا أمر مهم جدا وللغاية، فلو قال الله تعالى عن الأشهر وليس العدّة لكان هنالك ثغرة للذين حرفوا الدين بجعل الأشهر الحرم متفرقة وليس متتابعه!
ولكن الله تعالى أحكم آياته، فتحدث عن عدّة الأشهر الحرام، وهي الشهر الحرام، لكي لا يدع مجالا لمن يعلم بهم ممن سيأتون من بعد، ويحرفون كل التقويم، فأحكم الحديث عن مواطئتهم لعدة ما حرم الله، أي الشهر الحرام، الذي هو يمثل الأشهر الحرم ملتصقة مجتمعة وليس متفرقة.
كذلك من هذه الايات نرى بكل وضوح أنها تشير الى الأشهر الحرم بنعتها بعِدّتها الذي هو الشهر الحرام :
( يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تُحِلُّوا۟ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلَا ٱلْهَدْىَ وَلَا ٱلْقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًۭا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَ ٰنًۭا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُوا۟ ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا۟ ۘ وَتَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلْإِثْمِ وَٱلْعُدْوَ ٰنِ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ) المائدة - 2
( جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَـٰمًۭا لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْىَ وَٱلْقَلَـٰٓئِدَ ۚ ذَ ٰلِكَ لِتَعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ )
وبربط هذه الآيات كلها التي تتحدث عن الشهر الحرام، مع آية النسيء، في قوله تعالى (لِّيُوَاطِـُٔوا۟ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ)، نرى بكل وضوح علاقة الأشهر الحرم الأربع المذكورة في الآية التي تسبقها، بالشهر الحرام من كونه عِدّة هذه الأشهر!
______________
ما هو النسيء؟
مفردة النسيء جائت بعدة صور، أي جذر الكلمة، وسنبحث عن الآية المفتاح كالعادة لهذه المفردة، ولكن وبشكل عام، مفردة النساء أيضا لها علاقة بالنسيء، فالنساء ليس جنس من البشر، الجنس هو " الذكر والأنثى" ، وهذا نراه بكل وضوح في القرءان الكريم الذي لا ترادف فيه، فما هو النساء ؟ أو ما هي مفردة النساء؟ وهل مفردة الرجال هي النقيض لها ؟ بالفعل لا، فالرجال أيضا ليس جنسا من الخلق بل صفات يتصف بها الإنسان ليصبح رجلا كما مفردة النساء بالضبط.
بالطبع هنا انا لا اتحدث بالمطلق، فلكل مفردة مساقها ومدلولها المادي أو المعنوي، ولكن في الأغلب، حين نقول نساء، نحن نتكلم عن مجموعة صفات، يتصف بها فئة من الخلق، وهي في الأغلب الإناث، وليس مطلقا الحكم، فلكل موقع مكانته، وكذلك الرجال.
وبما أن مفردة النساء أمر قد يطول فيه الجدل والبحث، فلا بأس لو تخطيتها، باحثا عن مفردة أخرى لا بدّ أنها تفصّل مفردة النسيء!
حيث سنجدها في مفردة أخرى تفصل النسيء، بل هي توصّفه وترسمه لنا على أنه عملية – فعل يتم القيام بها فتكون نسيئا، حيث قال تعالى :
( فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُۥ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا۟ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُوا۟ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ ) سبأ - 14
فأين العلاقة هنا؟ حسب ظني، هنا أجمل وصف لعملية النسيء، وهنا سيتبين لنا أنها عملية، أي فعل نقوم به لهدف ما، سيتضح لنا إن فقهنا هذه الآية التي تتحدث عن سليمان، وعن لحظة موت سليمان، بينما كانت الجن يعملون بين يديه، ولا يتوقفون عن العمل، لظنهم بأنه ليس ميتا بعد، إذن، كل الأمر في " تأخير علمهم بموت سليمان " ! فكيف تمّ ذلك ؟
هناك ما يسمّى منسأته! وتم تسميتها بمنسأته لأنها السبب في عدم علم الجن بموته، فلو علموا بموته ما لبثوا في العذاب المهين، والذي اخر علمهم بموته هو هذه المنسأة، التي حافظت على هيئة سليمان، كما يبدو من النص، جالسا، حتى أكلتها دابة الأرض، فلما أكلتها دابة الأرض خرّ سليمان على الأرض، وهذا أيضا دليل آخر على أن الخرور حركة، لمن اعتبر واتقى، المهم، هو أن خرور سليمان واقعا على الأرض، كان علامة موته، فعلمت الجن حينذاك بموته.
إذن المنسأة هي التي أخّرت علم الجن بموته، ولهذا تم تسميتها منسأة، بغض النظر عن ماهيتها، هل هي عصا يتوكأ عليها أثناء جلوسه أو غير ذلك، المهم، أنها بقيت، ولحكمة الله تعالى، لكي يفصّل لنا مفردة النسيء، في آية البحث، بقيت حتى أكلتها دابة الأرض.
ومنه، ولا أرى هنا مكانا لمجادل إلا بسلطان يأتي به من القرءان الكريم، بكون النسيء، هو التأخير للشيء، فالنسيء هو عملية يتم القيام بها، ولهذا شددت في البداية على كونه عملية وليس فقط أمر صغير، هو عملية تأخير الأشهر الحرم في عام ما، فتكون ليست حُرُما، وفي عام آخر تكون حرما، ومنه، النسيء هو عملية تحليل الأشهر الحرم فقط. بدليل نهاية الآية التي تقول " فيحلوا ما حرم الله" وليس العكس، فالأشهر الحرم أساسا محرمة، ومنه، من البديهي أن تحريمها هو الأمر الطبيعي الذي يجب ان يكون!
أي أن النسيء هو عملية إضلال للناس بالتلاعب بحرمة الأشهر الحرم بتحليلها حين الرغبة لكي يقوموا بما هو محرم القيام به في هذه الشهر وهو القتال والصيد وشعائر الله !
وعملية تحليلها هي ذاتها عملية العمل بهذه الشهر الحرم الى عام آخر.
ومن هنا نعود لللآيات أعلاه، وسنجد بكل وضوح انها آيات بسيطة جدا محكمة لا يجوز لنا أن نضيف إليها ما لم ينزل الله تعالى به من سلطان بأن نتكيء على التراث، فنقول أن النسيء هو إضافة أو ازالة شهر أو أيام أو غير ذلك مما لم ينزل الله تعالى به من سلطان!
فعملية النسيء هي لأجل القفز عن تحريم الأشهر هذا العام مثلا والعودة اليها حُرُما العام القادم، فيتم تأخير حُرُمتها. بلغة بسيطه، نقول، أن الأشهر الحرم هذه الثلاث أعوام تكون في العام الثالث فقط، فنقفز عن عامين، نحلها فيه، ونعتدي ونجارب ونقترف ما حرم الله فيها. فالإنسان الطبيعي لن يجنح للحرب بل للسلم، ولكن من في قلبه مرض، سيتخدم كل الوسائل ليفسد في الأرض.
______________
خلاصه :
( إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْرًۭا فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلْأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌۭ ۚ ذَ ٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا۟ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَـٰتِلُوا۟ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةًۭ كَمَا يُقَـٰتِلُونَكُمْ كَآفَّةًۭ ۚ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا ٱلنَّسِىٓءُ زِيَادَةٌۭ فِى ٱلْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ يُحِلُّونَهُۥ عَامًۭا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامًۭا لِّيُوَاطِـُٔوا۟ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّوا۟ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوٓءُ أَعْمَـٰلِهِمْ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ )– التوبه - 36:37
حين خلق الله تعالى السموات والأرض، وضع بطبيعة الحال سننه في الكون، ومن هذه السنن وجود اثنا عشر برجا، شيدها في السماء، هي أصل التقويم الكوني للبشر، ومن هذه الشهور حرّم منها أربعة، ووضع في تحريمه الشرائع في كل الملل، وبطبيعة الحال، في كل ملة كان هناك من يعبث في هذه الأشهر الحرم، ويحاول تحريفها وكتمها وتبديلها بل ومحوها عن الوجود إن أمكن، وفي القرءان الكريم، نسخ الله هذا القانون في الكتاب كي لا يضيع كما حدث في السابق، وهدد من يقوم يتحليل هذه الأشهر بكونه من الذين ازدادوا كفرا.
فانما النسيء زيادة في الكفر، للذين يقومون به من الكافرين، ليضلوا به الناس من حولهم ،فيحلونه حين يرغبون في الإعتداء والحروب، ليعتدوا على حرمات الله تعالى وحدوده، بتحليلهم ما حرم الله تعالى، وما الذي زيَن لهم سوء أعمالهم الا الشيطان، والله لا يهدي كل معتد أثيم.
إنتهى.
والله المستعان
ملاحظة: لا حقوق في الطبع والنشر لهذه الدراسة.
مراجع :
* المرجع الرئيسي الأساسي الحق – كتاب الله تعالى – القرآن الكريم
في البحث عن الإسلام – في البحث عن النبي – قوم النبيّ لم يأتهم نذير من قبل النبيّ – البحث الثالث -3
في البحث عن الإسلام – في البحث عن النبي – اصل قوم النبيّ – البحث الثاني - 2
في البحث عن الإسلام – في البحث عن النبي – اصل قوم النبيّ – البحث الثاني - 2
في البحث عن الإسلام – في البحث عن النبي – مقدمة في فهم واقعنا بين التاريخ والتأريخ – البحث – 1
في البحث عن الإسلام – مفهوم الأرحام بين التراث والقرءان – ما هي صلة الرّحِم – الجزء الرابع
دعوة للتبرع
هذا كلام مرفوض : اصبح النص القرآ ني عند عامة الناس في وقتنا...
حرب اوكرانيا الآن : هل لهذه الحرب المشت علة بين أوكرا نيا ...
يأجوج ومأجوج: الي السيد الفاض ل د.احم منصور اولا مبروك...
قاعة البحث (2): الآن أقوم بانها ء جزء بسيط من البحث المكل ف ...
عورة الجارية : هل حقا عورة الجار ية هي ما بين السرة...
more