آحمد صبحي منصور Ýí 2019-10-19
رابعاً: المعلومة التاريخية في كتب المناقب بين الصدق والكذب :
من ف2 : كتب المناقب الصوفية ، من ج1 من كتاب ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية ) :
1 ـ مؤرخ الحياة الدينية له موقفان أمام الواقع الديني الذي يرصده ويؤرخ له , فهو أولاً: يسجل الواقع التاريخي كما هو ، كشأن ( الكاميرا) التي تصور ما هو كائن ، ثم هو ثانياً : يعلق على الواقع والفجوة التي بينه وبين ما ينبغي أن يكون ، محتكما الى القرآن الكريم الذى يجب على المؤمنين الإهتداء به فى حياتهم الدينية .
2 ـ ذلك لأن للحياة الدينية دائماً وجهين : الأول نصي مثالي موجود في القرآن الكريم ينبغي للناس السير عليه وإتباعه ، والثاني واقعي يتباعد بدرجات متفاوتة عن ذلك الأصل المثالي بحكم الهوى وإتباع الشيطان والصراع المستمر في النفس البشرية بين الخير والشر ، والشيطان يزين للإنسان أنه يحسن صنعاً باتخاذه الأولياء وتقديسهم والاعتقاد في كراماتهم وتصريفهم في ملك الله . ولأن الإنسان يرى أن ما يفعله هو الحق والصدق ولا غبار عليه ، لذا لا يتحرج من تسجيل اعتقاداته الفعلية وطقوسه العملية في كتب تصور حياته الدينية بصدق ، وهى في نفس الوقت تتناقض كلياً مع التعاليم النصية التي جاءت في القرآن الكريم في أمور العقائد بالذات .
3 ـ من هنا فالمعلومة التاريخية الواردة في كتب المناقب ينظر إليها من زاويتين : الأولى: أنها تعبر بصدق عن الواقع الديني في الاعتقادات والطقوس والحياة العقلية , الثانية : أن معنى صدقها في التعبير عن الواقع وما هو كائن لا يمنع المؤرخ من التنبيه على تناقضها مع القرآن الكريم وما ينبغي أن تكون عليه حياة المسلم الدينية .
4 ـ فالغرض الأسمى من بحث الحياة الدينية ليس لمجرد تسجيلها ورصدها وإنما لتوضيح الفجوة الموجودة بين الواقع والمفروض , بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون . وتزيد مسؤولية المؤرخ للحياة الدينية للمسلمين مع وجود القرآن الكريم ، وهو كتاب الله المقدس الذي ضمن الله حفظه ، والذي ينبغي أن يكون حكماً في الحياة الدينية للمسلمين إلى أن تقوم الساعة . يقول تعالى عن اتخاذ الناس لأولياء من دون الله مع أن الله تعالى هو الولي الذي يحيى أولئك الموتى (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ..الشورى9) ثم يعقب ربنا بأن الحكم في الأمور العقيدية مثل الأولياء إنما مرجعه لله وحده فيقول تعالى (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي ..الشورى10).
5 ـ وتصدق كتب المناقب في تعبيرها عن الواقع الديني الذي كتبت فيه ، لأن الناس دائماً في أي عصر يسجلون ما يرونه معبراً عن حياتهم واعتقاداتهم، ولو كان هناك شخص واحد يعتقد اعتقاداً معيناً يخالف إجماع الناس في عصره وأوتي القدرة على الكتابة لسجله ، إلا أن إجماع العصر على مخالفته سيجعله موضع اضطهاد ، وقد رأينا أن إجماع العصر المملوكي على تقديس الأولياء والتبرك والتوسل بهم أسفر عن كتابة مؤلفات المناقب في الأولياء تعبر عن عقيدة العصر فيهم ، ثم أوقع الناس الاضطهاد والأذى بمن يخالف ذلك الاعتقاد في الأولياء كما حدث لابن تيمية ومدرسته في القرن الثامن وبرهان الدين والبقاعى في القرن التاسع .
6 ــ ولأن العصر يصدق الأولياء في كل ما يدعونه أتيح للأولياء أن يقولوا ما يشاءون، وكلما تضخمت دعاويهم إزداد اعتقاد الناس فيهم، ووُجد من محققي الصوفية من يدافع عنهم ، كما رأينا الشعراني وهو يدافع عن ادعاءات إبراهيم الدسوقي ، بل ربما نجد للآن في عصرنا من يتقبل كلام الدسوقي بقبول حسن ويجد في نفسه الجرأة للدفاع عنه ومحاولة تأويل كلامه ، وإلا ما أعاد الناس طبع ( الجوهرة ) مرة بعد مرة ،ولما أخرجت المطابع طبعات مختلفة من الطبقات الكبرى للشعراني وغيرها من كتب الصوفية وكلها تمجيد في الأولياء وتعداد لصفاتهم الإلهية .
7 ـ إلا أن الصحوة الدينية والعقلية في عصرنا جعلت ذوق عصرنا مختلفاً عن ذوق العصر المملوكي ، وذلك في الأغلب طبعاً ، فلا يزال بيننا من يعيش بعقلية العصر المملوكي واعتقاداته ، والمهم أن تلك الصحوة الدينية التي نعيشها تجعل البعض لا يتصور أن يصدر مثل ذلك الكلام عن الدسوقي أو غيره من الأولياء، فقد عاش على أن أولياء الصوفية صالحون متمسكون بالإسلام وتكونت في عقليته تزكيتهم بكل ما هو محمود من الصفات والخصال ، ولم يجد حاجة للتحقق العلمي مما يألفه ويعتقده صواباً ، وإذا فوجئ بكلام الدسوقي أو غيره من الصوفية قاسه على اعتقاده في الدسوقي وأنكر أن يصدر منه مثل هذا القول ، وشكّك في المصادر لأن ذوق عصره يأبى أن يصدر عن إنسان مسلم هذا الإدعاء ، وهو يقيس عصره على العصر المملوكي ويتجاهل أن لكل عصر عقائده وكتاباته التي تعبر عن تلك العقائد ، وإذا كان العصر المملوكي يسمح للدسوقي وأمثاله بمثل ذلك الكلام بل ويضطهد من ينكر عليهم ويعترض على أقوالهم فإن عصرنا يعاقب أي صوفي – مهما بلغت مكانته – إذا تجرأ وادعى بعض ما يدعيه الدسوقي .
موقف المؤرخ من كتب المناقب :
1 ـ المؤرخ مطالب بأن يعيش العصر الذي يكتب عنه، يعيش – اعتقاداته وعقلياته وتفكيره حتى يستطيع أن يتفهم النصوص المكتوبة ويتربى لديه إحساس بذوق العصر ليترجم عنه لعصرنا.
2 ـ إلا أن مؤرخ الحياة الدينية بالذات عليه مسؤولية أكبر ، عليه أولاً أن يدرس جذور الحياة الدينية للعصر الذي يبحثه , ذلك أن المعتقدات الدينية التي تسيطر على عصر ما وتتحكم فيه لا تبدأ من فراغ وإنما لها جذور ممتدة قبل العصر. بدأت برواد قلائل ثم انتشرت ثم تحكمت وسيطرت. فمثلاً ، ظاهرة التصوف التي سيطرت على الحياة الدينية في مصر المملوكية كان رائدها الأول مضطهداً قبل العصر المملوكي بأربعة قرون ، فأول من تحدث في التصوف في مصر ( ذو النون المصري ) وقد اتهم بالزندقة واعتقل وأرسل إلى بغداد وكاد أن يقتل , ثم انتشرت عقيدة التصوف بعده حتى سيطرت وتحكمت واضطهدت من يعترض على التصوف .
3 ـ وهكذا يبدأ المؤرخ ببحث الجذور الأولى للعقيدة الدينية قبل أن تسيطر وتتحكم، وعادة ما تكون جذور العقائد الدينية في عصر اضطهاد تحاول أن تحمى نفسها بالرموز والنفاق والتقية والتخفي والتستر – وذلك ما كان متبعاً في سيرة الرواد الصوفية الأوائل. ثم إذا أتيح لها التحكم والسيطرة أظهرت المكنون علانية وبوضوح ، وإذا شئت فقارن بين أقوال الصوفية الأوائل المبهمة في تأليه الصوفي والأقوال الصريحة للدسوقي حين كان عصره يصدق أقاويله .
4 ـ ثم يتسلح المؤرخ بفهم واع لكتاب الله ، على أن يجعل القرآن الكريم حكماً على كل شيء باعتباره المنزه عن التحريف والتزييف ، ثم يدرس الفلسفات الدينية التي كانت سائدة قبل وأثناء العصر ليتفهم عقلية العصر وتدينه ويتمكن من الحكم عليها بالقرآن ، وبعدها يتجه لقراءة كتب المناقب يقارن ما فيها بالجذور الأولى للعقيدة الدينية والأفكار الفلسفية التي صدرت عنها ، ثم يعرضها على كتاب الله ليبين الفجوة بينهما ، وليرى مدى التطابق بين ما جاءت به كتب المناقب وبين ما أورده القرآن الكريم في حديثه عن اعتقادات المشركين التي تنطبق على كل زمان ومكان قبل نزول الوحي وبعده. وبذلك يستطيع المؤرخ أن يصور الحياة الدينية كما هي ثم يحكم عليها ويعطيها التقييم الذي هو ثمرة البحث التاريخي والفائدة المرجوة منه .
5 ـ وكتب المناقب ليست كلاماً في العقائد فقط فلم تؤلف إلا في عصر سادته عقيدة التصوف وجسده الناس في السلوك والتصرفات من زيارة للأضرحة والتوسل بها وعكوف عليها وتكوين طرق صوفية بشيخ ومريدين. أي أن العقائد النظرية تحولت إلى سلوك عملي تمثل في تصرفات الناس وفى كتاباتهم التي تصور تلك التصرفات، وتلك الكتابات هي مؤلفات المناقب. من هنا فكتب المناقب سجل عام للعقائد والطقوس والعقليات والحياة الاجتماعية والعلمية ، وذلك شيء طبيعي باعتبار أن العقيدة الدينية إذا سيطرت على عصر ما وجهته وجهة معينة تخدم العقيدة وتعبر عنها، وعليه يتضاءل الفارق أحياناً بين أسلوب المناقب في تقديس الولي وبين أسلوب بعض المؤرخين في وصف السلطان والخضوع إليه ، بل يخفت الفارق بين تزكية كاتب المناقب لشيخه وبين تزكية المؤرخ لذلك الشيخ في الحوليات التاريخية ، فالجميع شركاء في العقيدة .
6 ـ وغنى عن البيان أن المؤرخ للحياة الدينية يستعمل عقله ويكون متبعاً لما جاء به القرآن الكريم ، أي يقيم ما أقامه القرآن ويهدم ما هدمه. وتدبر القرآن – وهو فرض على كل مسلم – معناه عملية عقلية يتعقل بها المسلم الآية ويأخذ منها المعنى ــ وهو واضح بين لمن أخلص في طلب المعرفة وتجرد من الهوى والأحكام السابقة ، وبنفس العقل المفتوح يبحث المؤرخ ما جاء في المناقب من واقع عقلية إسلامية تؤمن بأن الله لا يشرك في حكمه أبداً وأن الرسل وهم خير البشرية وأصحاب رسالة من لدن الله لا يملكون في ملك الله شيئاً ولا جاه لهم عند الله وليس لهم من الأمر شيء ويعلنون أن الغيب لله وحده والتصريف كله لله وحده لا شريك له في ملكه. وعلى هذا الأساس العقيدي ينظر إلى ما جاء في كتب المناقب ويعاملها على أساس أنها تصدق في وصف عقائد الناس في العصر الذي كتبت فيه , وأنها مع ذلك خرافات وأساطير في نظر القرآن وهو الحق المطلق الذي ينبغي أن يطاع .
7 ــ أما إذا سلّم الباحث بما في المناقب وآمن بما فيها من كرامات وخرافات فلا يمكن أن يكون باحثاً طالما أهمل عقله وسيطر عليه هواه واعتقاده في الأولياء وتصريفهم المزعوم في ملك الله , وليتذكر الباحث أن القرآن الكريم احتكم للعقل البشرى المنزه عن الهوى والغرض ووصف المشركين بأنهم عبيد لهواهم وبأنهم لا يعقلون ولا يبصرون ولا يفقهون , يقول تعالى (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ؟ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً.. الفرقان 43 ، 44).
8 ـ وبالقرآن الكريم وبالعقل المفتوح المستنير يتعامل الباحث مع كتابات المناقب مثلما يتعامل مع أي نص تاريخي ، لا يهتم إلا بالوصول للحق الذي يرضى الله تعالى ، وكفى بالله نصيراً.
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5111 |
اجمالي القراءات | : | 56,689,020 |
تعليقات له | : | 5,445 |
تعليقات عليه | : | 14,818 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
دعوة للتبرع
دواء المضطرّ: عندي مشكلة في ( الكلى ) بسبب وجود ( حصو / تصغير حصى...
إعلان زواج: اريد الزوا ج من بنت ملتزم ه منتقب ه تحفظ شئ...
سؤالان : السؤا ل الأول : ما معنى أخذ الكتا ب بقوة فى ( ...
كان الله معك : انا مسلم قرآني عربي تعرضت لضغوط ات كبيرة في...
قردة خاسئين: قال الله تعالى : {قل هل أنبئك م بشر من ذلك...
more