ف2 : كتب المناقب الصوفية من ج1 ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية ):
أولاً : تعريف بكتب المناقب وأهميتها

آحمد صبحي منصور Ýí 2019-10-09


أولاً : تعريف بكتب المناقب وأهميتها

من ف2 : كتب المناقب الصوفية من ج1 ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )

 مقدمة

1 ـ كتب المناقب الصوفية هي المصدر الأساس لمن يريد التعرف على واقع التدين عند المسلمين في العصرين المملوكي والعثماني , وهى مع أهميتها الشديدة في دراسة الأحوال الدينية إلا أنها لم تحظ بالاهتمام الكافي ، ربما لأن قارئها يستشعر الفزع الشديد مما يملؤها من خرافات وتأليه للأولياء على نحو لا يستسيغه ذوق عصرنا اليوم، وإن كانت معبرة عن العصور التي كتبت فيها بدليل أنها كانت السمة السائدة في تأليفات العصرين المملوكي والعثماني في التراجم والتأريخ للأشخاص المشهورين من الصوفية والفقهاء .

المزيد مثل هذا المقال :

2 ـ وعلى كل فإهمالنا لكتب المناقب وعدم الالتفات لأهميتها العلمية مع تعبيرها عن الأحوال الدينية للعصور التي كتبت فيها إنما يعبر في الواقع عن تجاهلنا لدراسة تاريخ المسلمين الديني الواقعي , فكتب المناقب إنما تعبر بصدق شديد عن العقائد الدينية للعصور التي كتبت فيها وتتناقض كلياً مع إخلاص الدين لرب العالمين الذي ينبغي أن يكون عليه اعتقاد المسلمين . 

3 ـ وكتب المناقب تعنى تلك الكتب والمؤلفات التي كتبت في فضائل أشخاص الصوفية تحكى عن مناقبهم وكراماتهم وتقديس الناس لهم وما يعتقدونه في جدوى التوسل بهم وبقبورهم , وكان التصوف هو الدين الفعلي في العصرين المملوكي والعثماني , نقول عنه ( دين ) ولا نقول ( مذهب ) , ذلك أن للتصوف عقيدته الخاصة القائمة على تقديس الأولياء أحياءاً وأمواتاً والتبرك بهم وتقديم النذور إليهم والحلف بهم والاعتقاد في جاههم عند الله في الدنيا والآخرة , وتلك كلها أمور عقيدية بحتة تخالف إخلاص الدين لرب العالمين ، الذي يقال فيه للرسول عليه السلام (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ..آل عمران128) (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ الزمر19) ( مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ ..الأنعام52 ) ويؤمر الرسول فيه أن يعترف بأنه لا يملك لنفسه أو لغيره نفعاً ولا ضراً (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ..الأعراف188) ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ ..يونس49 ) (قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ الأنعام15، الزمر13).

التناقض بين كتب المناقب وعقيدة ( لا إله إلا الله ) :

1 ـ ويمكن أن نوجز الأساس الذي تقوم عليه كتب المناقب في كلمة واحدة هي التزكية بمعنى المدح وتعداد الفضائل.

2 ـ وتدور تزكية الصوفية لأنفسهم ولأوليائهم حول محورين : التزكية بالصلاح والتقوى والتزكية بالولاية والكرامة والصفات الإلهية التي تبتعد فيها شخصية الصوفي عن خصائص البشرية وتقترب من الصفات الإلهية التي أختص الله بها تعالى نفسه من علم بالغيب وتصريف في الكون وعلم إلهي لدنى وغير ذلك . وما يستتبع ذلك من حقوق يطالبون بها الناس كأن يتوسل الناس بهم ويتقربون إليهم بالنذور ويتبركون بهم أحياءاً وأمواتاً وينتظرون توجيهاتهم السامية اللدنية في الفعل والترك وغير ذلك , مما كان يفعله الناس في العصور السابقة ولا يزالون يفعلونه ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً .

3 ـ والتزكية بمعنى الولاية والصفات الإلهية تتناقض بوضوح مع إخلاص الدين لرب العالمين ، فالله تعالى وحده هو الولي الذي ينبغي أن يتوجه إليه الناس بالتوسل والتقديس , والله تعالى متحكم في الكون بمفرده ولا يشرك في حكمه أحداً (مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً.. الكهف26), والله تعالى لا يعطى علم الغيب إلا لبعض من يجتبيهم من الرسل كنوع من الإعجاز , يقول تعالى للصحابة (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ..آل عمران179) ثم إن الله تعالى قريب من عباده وليس بمحتاج إلى واسطة (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ..البقرة186 ) بل هو أقرب إليهم مما يتصورون (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ..ق16) بل له تعالى تمام التحكم على كل مخلوقاته (مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ..هود56 )،( أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ..الرعد33).

4 ـ والتزكية بمعنى وصف النفس أو الغير بالصلاح والتقوى مرفوضة في نظر الإسلام. فالرسول عليه السلام مع أن الله وصفه بالخلق العظيم (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ..القلم4) إلا أن الله تعالى نهاه عن أن يزكى نفسه على الأنبياء فقال له (قُلْ: مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ..الأحقاف9).  فتزكية النفس أو تزكية الغير بالصلاح والتقوى والجنة مرفوضة تماماً . ويقول تعالى ( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ).

5 ـ وهكذا فالصوفية – في كتب المناقب ــ حين اعتبروا أنفسهم أولياء لله وصفوة خلقه من دون العالمين قد وقعوا في خطيئة تزكية النفس على الله تعالى , وهم بذلك تلامذة لليهود الذين زكوا أنفسهم فاستحقوا نقمة الله عليهم إذ يقول تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً، انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً.. النساء 49: 50) . وأشبهوا اليهود حين ادعوا أنهم – وحدهم – أولياء الله من دون البشر جميعاً فكان جزاؤهم أن قال الله تعالى لهم : (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ..الجمعة6) [1]

 بداية كتابات المناقب:

1 ـ هناك عوامل مساعده تأثرت بها بداية كتابات المناقب تتجمع في التلازم بين علمي التاريخ والحديث, فكتابات المناقب فرع مجهول من مصادر التاريخ ، ولابد أن يتأثر بما يتأثر به علم التاريخ . وقد نشا علم التاريخ في الحضارة الإسلامية فرعا من السنة اهتم بالمغازي أو سيرة الرسول عليه السلام ومغازيه ، ثم انفصلت المغازي والسيرة وأضيف لهما تاريخ الخلافة  والفتوحات   ، ومع ذلك الانفصال عن الحديث والسنة فقد ظل علم التاريخ يحمل بصمات من علم الحديث مثل طريقة العنعنة وفحص الروايات، وساعد على ازدياد الارتباط بين منهج المحدثين ومنهج المؤرخين الأوائل أن الحركة العلمية لم تعرف التخصص بعد وكان أكثرية المؤرخين من علماء الحديث والتفسير .

2 ـ إذن كان علم الحديث مؤثراً في علم التاريخ , وابرز مظاهر التأثر تتجلى في طريقة المحدثين في فحص الرواة والحكم عليهم فيما يعرف بقانون الجرح والتعديل، أي البحث عن حال الرواة في السلاسل وإعطاء كل راو حكماً بالصدق أو بالكذب، ومفاضلة السلاسل وأصحها عن كل صحابي يروى عن الرسول عليه السلام .وترتب على ذلك أن كتب علماء الحديث في تاريخ الرواة كما فعل البخاري (ت256) وله كتاب (التاريخ الكبير) وهو مصنف جمع فيه نحو أربعين ألف ترجمه لرجل وأمراة من رواة الحديث مرتبه على حروف المعجم وتبدأ بالمحمدين , وله (التاريخ الأوسط) وهو مرتب على السنين و(التاريخ الصغير) و(التاريخ في معرفة رواة الحديث) .

3 ـ ولكن ما صلة ذالك بكتابة المناقب؟

إن بحث حال الراوي من الصدق أو الكذب معناه وصفه بالصلاح أو بعدمه , انه بحث عن مناقبه الحسنة أو السيئة فإن كان صالحا فهو صادق وان اتهم في دينه أو شخصه فهو مجروح لا يؤخذ عنه . من هنا كان الارتباط وثيقا  بين بداية علمي المصطلح وكتابات المناقب , ولا أدل على ذلك الارتباط من أن البدايات الأولى لكتابات المناقب كانت تنحو نحو علم المصطلح في التفاضل وعقد المقارنات بين المناقب الحسنه والمساوئ ، ويبدو ذالك واضحا عند الجاحظ (ت255) وهو معاصر للبخاري , فللجاحظ رسائل تحمل سمات التفاضل والموازنات بين المناقب مثل رسائله في بني أميه والعباسية وتفضيل بني هاشم وفى مناقب الترك وعامة جند الخلافة وفى فضل السود وفى مفاخر الجواري وفى الحجاب وذمه , في مدح التجارة وذم عمل السلطان , في العرب والعجم , والعرب والموالى .. الخ . لقد كان الجاحظ واسع الثقافة والاطلاع وقد استخدم علمه مع درايته بالجدل في عقد المقارنات مما باعد بينه وبين كتابات المناقب بالمعنى الذي ترسخ فيما بعد , وربما وضحت بداية المناقب أكثر لدى سعد بن عبد الله الأشعري (ت 299) وهو شيعي له مشاركه في علم التاريخ وعلم الرواة والمصطلح , وقد مزج بينهما في كتابين ( كتاب مناقب رواة الحديث )و(كتاب مثالب رواة الحديث) .

4 ـ ثم انتهى ارتباط المناقب بالمفاضلة والموازنة في القرن الرابع الهجري حيث صار لوصف الإنسان بالصلاح هيبته ومكانته , وفى هذا العصر كان مجون الحكام وتنافسهم وصراعاتهم في عصر تحكم الغلمان في خلفاء بني العباس، مما أدى إلى اكتساب مفهوم ( الصلاح) عند الناس معنى جديداً هو الزهد في الدنيا التي تكالب عليها الظلمة وأعوانهم ومن هم على دينهم , وارتبط الصلاح بالزهاد للذين حازوا على إعجاب العامة لأن أولئك الزهاد في نظرهم زهدوا في الدنيا التي يتقاتل عليها غيرهم من الحكام وأعوانهم , وصار الزهاد ملوك الآخرة في مقابل الحكام ملوك الدنيا , وبدأت كتابات المناقب تدبج في فضائل الزهاد كما فعل ابن سهل البلخي ت 332 في كتابه ( العتاق والنساك ) وابن الإعرابي العنزي ت341 في كتاب ( طبقات النساك ) والمرزباني ت378 في كتابه ( الزهد والزهاد ) .

5 ـ لقد تولدت حركة الزهد منذ القرن الثاني للهجرة في الشام متأثرة بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية من جور الحكام وظلمهم وترفهم وسوء توزيع الثروة , وهى نفس العوامل التي أنبتت حركة الرهبنة في العصر الروماني وليست هناك فوارق حقيقية بين حركتي النسك من رهبنة أو زهد في العصرين الروماني والإسلامي . أما الفوارق الحقيقة فهي بين الزهد والتصوف , فقد ارتبط التصوف بالقول في العقائد والشطحات المتأثرة بالفلسفات الاتحادية التي كانت منتشرة قبل الفتح الإسلامي في المدارس الفلسفية في الرها وإنطاكية وجندياسبور وحران والإسكندرية من غنوصية وأفلاطونية حديثة ورواقية وغيرها , وقد خمدت هذه المدارس الفلسفية مؤقتاً عند الفتح  ، ثم عادت لنشاطها بعد أن أتاحت الدولة العباسية لها الحرية منذ عصر المأمون وكان الجدال بين المسلمين والنصارى , ثم تعلم المسلمون منها الفلسفة ثم تأثروا بها – وهم أبناء المنطقة فكان سهلاً عليهم أن يسلكوا سنن آبائهم وأجدادهم، وهكذا ظهرت المبادئ القديمة في ثوب جديد اتخذ اسم التصوف . وكانت الغنوصية – مثلاً – تبحث في المعرفة الإلهية وتسمى الذي يصل إليها (عارفاً ) فاحتفظ التصوف بنفس اللفظ وأصبح الولي الصوفي يسمى ( عارفاً ) ويصل للمعرفة اللدنية بنفس الأسلوب الذي ادعته الغنوصية من قبل .

6 ــ لقد ظهر التصوف في القرن الثالث الهجري حركة محدودة تتهم الدولة العباسية أصحابها بالزندقة حتى أن الاضطهاد والتكفير يغلف تاريخ رواد التصوف الأوائل ، وكان الجاحظ أول من أورد اسم التصوف في التراث في كتابه ( البيان والتبيين ) في القرن الثالث الهجري , إلا أن التصوف أتيح له الانتشار حين ارتبط الصوفية بالزهاد , والزهاد يتمتعون بحب الناس وإعجابهم , هذا مع اصطناع الصوفية لمبدأ التقية أو النفاق ، وهو مبدأ اكتسبوه من الشيعة ، وكان الجنيد ابرز العاملين به . وتأسست مدارس حول مشاهير الصوفية نشرت التصوف . ثم شهد القرن الرابع بداية كتابة المناقب في رجال التصوف وأقدم من كتب في مناقب الصوفية كان النسوي ت 396 في كتابه ( طبقات الصوفية ) .

7 ـ ثم تتابعت الكتابة في مناقب الصوفية تحمل طابع الطبقات حيناً وسمة الحكايات أحياناً وأهمهم في القرن الخامس : السلمي ت412 في ( طبقات الصوفية ) وابن جهضم ت 414 وله ( بهجة الأسرار ولوامع الأنوار في حكايات الصالحين والأخيار والصوفية الحكماء الأبرار ) وأبو منصور العارف ت418 له ( طبقات النساك ) ثم جاء أبو نعيم الأصفهاني ت 430 فوضع كتاب ( حلية الأولياء ) أشهر الكتب في تاريخ الصوفية وربط بينهم وبين الصحابة والخلفاء والتابعين باعتبار أن الصوفية أولياء شأنهم شأن الصحابة والتابعين . ثم كتب القشيري ت465 رسالته ( الرسالة القشيرية ) في الإنكار على صوفية عصره وتمجيد الصوفية الأوائل في القرن الثالث الهجري , وقد بدأ رسالته باتهام صوفية عصره بكل نقيصة خلقية ودينية وأعلن أنه كتب رسالته خصيصاً ليبين المنهج الحق في التصوف ثم زكى الصوفية السابقين بما استطاع من فضائل وعرض لجانب من سيرتهم وأقوالهم[2] . والمدقق فيما قاله عنهم يجد أنه لا فارق بينهم وبين الصوفية في عصر القشيري.  وقد حوت الرسالة القشيري أربعة وخمسين باباً وثلاثة فصول ووضح اعتماده على السلمي في طبقات الصوفية .

8 ــ لقد شهد القرن الخامس الهجري تقرير التصوف كمبدأ , وانحصر الإنكار على التصوف في الإنكار على أشخاص الصوفية مع التسليم بالتصوف نفسه كمبدأ معترف به وتبرير شطحات الصوفية الأوائل وتأويلها والكتابة في مناقبهم , وقد كان الإنكار قبل القرن الخامس الهجري منصبّاً على رجال التصوف جميعاً ومبدأ التصوف نفسه ، إلا أن ظهور أعلام التصوف في القرن الخامس وسيطرتهم على الحياة الدينية العقلية جعلهم يرسون مبدأ التصوف، وقد قاموا بدافع من الحرص على دين التصوف بالهجوم على أوباش الصوفية في عصرهم   ليسحبوا البساط من تحت أقدام خصومهم الفقهاء , وأشهر الصوفية في القرن الخامس الذين ارسوا دين التصوف ولا يزالون محل اعتبار : القشيري والغزالي ت 505 وقد عرف أولئك بالصوفية المعتدلين أو السنيين , وحقيقة الأمر مما يظهر من دراسة كتبهم إنه لا فارق بينه وبين المتطرفين إلا في أن المتطرفين كالحلاج وأبى يزيد البسطامي كانوا أكثر صراحة وجرأة , أما أولئك فقد وضعوا عقائدهم بين السطور[3]وهاجموا معاصريهم من الصوفية دفاعاً عن مبدأ التصوف .

9 ــ والغزالي بالذات كان أخطر شخصية صوفية أثرت في مجرى الإنكار على التصوف بحيث تقرر التصوف بعده طريقاً للتدين , وذلك لأن الغزالي في عهده تزعم الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة المتأثرين بالأفلاطونية الحديثة ، وقد استخدم حصيلته من الفقه والكلام والجدال في إرساء التصوف , ولم يكن في عصره من يدانيه من الفقهاء – وهم الخصوم التقليديون للتصوف – فكانت النتيجة أن سلم له وللتصوف الفقهاء اللاحقون ، بل وتابعوه في إقفال باب الاجتهاد , مما أدى إلى المزيد من تدهور الفقهاء علمياً وعقلياً في العصور اللاحقة وجعل الفقه حتى اليوم يدور في إطار المذاهب الأربعة .

10 ــ ويهمنا في ناحية المناقب أن عصر ما بعد الغزالي تأثر به ، فأصبح الفقهاء ــ وهم السائرون على التصوف ــ يقلدون الصوفية في كتابة مناقب لأعلام المذاهب الأربعة ، بل ويكتبون في مناقب الرواد الأوائل للتصوف . ونرى ذلك واضحاً في القرن السادس الهجري فيما فعله ابن الجوزي ت597الذى أنكر على الصوفية في كتابه ( تلبيس إبليس ) وسنعرض له , إلا أنه اختصر حلية الأولياء لأبى نعيم الأصفهاني في كتاب سماه ( صفوة الصفوة ) في أربعة أجزاء , وكتب ابن الجوزي في مناقب الزهاد فكتب كتابين في مناقب عمر بن عبد العزيز ووضع كتاباً في مناقب الحسن البصري ، ثم اعتنى بابن حنبل شيخ الفقهاء والحنابلة ـــ وابن الجوزي منهم ــ  فكتب ( مناقب الإمام أحمد بن حنبل ) على النمط الصوفي – مع هجومه على المتصوفة في تلبيس إبليس – فنراه لا يكتفي بتزكيته بالعلم والتقوى – بل يزايد على الصوفية فيفرد أبوابا في الكتاب عن لقاء أحمد بن حنبل بالخضر والياس وثناء الأولياء عليه وتبركهم به وحبه للفقر والفقراء – والفقر والفقراء من شعارات التصوف وألقابه – ثم يذكر كراماته واستجابة الله لدعائه ويذكر المحن التي حاقت بمن آذاه في فتنة القول بخلق القرآن  ,  ثم يتحدث عن موته ومن تأثر من الجن بموته والمنامات التي رؤيت له بعد موته والمنامات التي رآها في حياته ومنها رؤيا يدعون أنه رأى الله سبحانه وتعالى فيها !!! وذلك أفك مفترى ,ثم يتحدث ابن الجوزي عن فضيلة زيارة قبره والمجاورة عنده وشفاعته فيمن دفن إلى جواره .. وصاغ ذلك بالمنامات التي يرويها بالعنعنة والسند[4]على طريقة المحدثين.

11 ـ ويتضح مما سبق أن فقهاء ما بعد عصر الغزالي تأثروا بالتصوف حتى في نمط كتابة المناقب وإن أنكروا على الصوفية في شطحاتهم ومناماتهم وافتراءاتهم , إلا أنهم – الفقهاء – سلموا بتلك المظاهر الصوفية والصقوها بأئمة المذاهب الأربعة , هذا مع أن إنكار ابن حنبل على الصوفية معروف ومقرر[5], واحتقار الشافعي للصوفية ذكره ابن الجوزي نفسه في تلبيس إبليس   [6], أما مالك وأبو حنيفة فلم يكن في عهدهما تصوف بعد , ومع ذلك فإن مناقب كثيرة كتبت في سيرة أئمة الفقه الأربعة وكان ابن الجوزي أسبق من كتب في هذا المجال .

12 ــ وفى القرن السادس – عصر ابن الجوزي- كتبت في مناقب الصوفية الشيء الكثير، منها ما كتبه ابن خميس الكعبي سنة 552 ( طبقات الأولياء )  و  ( مناقب الأبرار ) وهما مخطوطان , و ألف مجد الدين بن الأثير ( شقيق عز الدين بن الأثير ) كتاب ( المختار في مناقب الأخيار ) وهو مخطوط . وتوفى مجد الدين سنة 606 .ثم تطورت كتب المناقب في العصر المملوكي ( 648-923هجرية) .



[1]
أنظر كتاب (السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة) للمؤلف ص 209: 210

[2] الرسالة القشيرية  3: 5

[3] على سبيل المثال راجع إحياء علوم الدين مجرد أمثلة في الجزء الرابع : 22، 227: 228،254، 366 ‘299، 305، 308، 326، 370، 104، 276، 277 المطبعة العثمانية .وفي الجزء الثاني : 247 :248 ، 236، 212 ،213،وغير ذلك كثير .

[4] مناقب أحمد بن حنبل لأبن الجوزي نشر بيروت

[5] المرجع السابق 185 ،186 .

[6]تلبيس إبليس 309 ، 359 مطبعة المنيرة .

 

اجمالي القراءات 8056

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5111
اجمالي القراءات : 56,691,238
تعليقات له : 5,445
تعليقات عليه : 14,818
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي