(التأليه والاستبداد بين فرعون موسى والفراعنة المحمديين )

آحمد صبحي منصور Ýí 2018-02-16


(التأليه والاستبداد بين فرعون موسى والفراعنة المحمديين )

1 ـ الأهمية القصوى فى قصة فرعون هو تلك الصلة والوثيقة بين الاستبداد السياسى والتأليه الدينى . الأصل أن الحاكم ( يعلو برأسه ) على الناس ، مع إن الله جل وعلا خلق البشر متساوين ، وأن ( العلو ) هو للخالق جل وعلا وحده ( سبحانه وتعالى ) . ولذا تكرر وصف فرعون بالعلو فى الأرض ، وجاء فى بداية سورة القصص أن فرعون ( علا فى الأرض  ) وجاء فى أواخرها أن المتقين المستحقين للجنة يوم الدين هم الذين ( لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا) . وفيه إرتباط العلو فى الأرض بالفساد فيها ، وفرعون موصوف بالفساد . ولأن إستبداده وصل به به الى زعم التأليه فقد أصبح يرى ان ما يفعله من فساد هو سبيل الرشاد . وهنا يمتزج الاستبداد بالتأليه وبالفساد .

 الاستبداد السياسى استمر بعد فرعون ، ولا يزال سوءة مرفوعة الرأس فى بلاد المحمديين . كل دولة عربية تعلوها سوأة المستبد فيها عارا عليها . ولكن لا يجرؤ  مستبد منهم ان يعلن الوهيته كما فعل فرعن موسى . فعلها الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله ودفع حياته ثمنا لذلك . بقية المستبدين من أبى بكر وعمر وعثمان والأمويين إقتربوا بطرق شتى من زعم الألوهية ، وأبرز تلك الطرق مقالتهم بالجبرية أى إن أفعالهم جبرية تجرى بالقضاء الالهى ومن يعترض عليها يعترض على قضاء الله جل وعلا وقدره الذى لا مفرّ منه .

كان الاستبداد الفرعونى فى عصر موسى ذا وجه واحد ، دولة دينية كهنوتية ، الفرعون المستبد هو نفسه الكهنوت. فى دول الخلافة والسلاطين ـ وحتى الآن ، تجذرت الدولة المستبدة التى تستعين بكهنوت يخدمها ، وظهرت أيضا الدولة الدينية ، مثل الخلافة الفاطمية ، يكون الخليفة هو السلطة الدينية والسلطة السياسية . وورث عصرنا هذا وذاك : فهناك نظم عسكرية إستبدادية (علمانية فى قلبها ) ولكن تستعين بكهنوت دينى تركبه وتركب به الشعب . ثم هناك الدولة الدينية فى إيران . ويحدث إقتراب أحيانا مع الاختلاف فى الدين الأرضى ، ومثلا فإن ولاية الفقيه فى الدين الشيعى ودولته الدينية تقترب كثيرا من مقولات الحاكمية فى الوهابية المعاصرة.

2 ـ فرعون موسى أراح نفسه من هذا كله ، و ( أخدها من قصيرها كما يقول المصريون ) وأعلى أنه ربهم الأعلى وما يعلم لهم من إله غيره . تطرّف فرعون موسى فى تأليه نفسه بزعم الربوبوبية العليا وأنه ما إله لهم غيره ، ومنح فرعون هذه المكانة للملأ التابع له حتى لقد قال لهم موسى : ( وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) الدخان ). لم يفعل هذا المستبدون المحمديون .

3 ـ ولكن مستبدى عصرنا البائس تفوقوا أحيانا على فرعون موسى فى الاستبداد . ونعطى مثلا : هذا الحوار بين فرعون وموسى الذى جاء فى سورة الشعراء ( 18 : 31 )، وهو حوار لا يمكن لمستبد معاصر أن يسمح به مع أى معارض . المستبد فى عصرنا البائس يسلط كلاب حراسته على خصومه السياسيين ، وليس هناك حوار إلا مع أدوات التعذيب ، والقائمين عليه من الجنود والمخبرين.

4 ـ نستعرض هذا الحوار بين موسى وفرعون :

موسى : ( إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)) موسى يقدم نفسه بأنه رسول رب العالمين ، ويوجز رسالته : أن يسمح فرعون له بأن يرسل معه بنى اسرائيل .

فرعون : ( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ (19) ) . فرعون يذكّر موسى أنه الذى ربّاه وليدا ولبث فى قصره حتى شبّ. ثم إن فرعون يتهم موسى بكفران النعمة حين قتل المصرى .

موسى : ( فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)) . موسى يعترف بما فعل ويعترف أنه كان من الضالين حين فعل ، وانه فرّ من فرعون خوفا ، وبعدها جاءته الرسالة وأصبح من المرسلين . ثم يرد موسى هجوم فرعون بهجوم مضاد : هل تمتنُّ علىّ بأن جعلت بنى اسرائيل عبيدا لك ؟

فرعون : ( وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)) . فرعون يرد بهجوم آخر يسأل فيه موسى عن رب العالمين الذى بعثه رسولا ، وفرعون يعلم أن إجابة موسى ستثير غضب الملأ الفرعونى .

موسى : (  رَبُّ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ (24)). جاءت إجابة موسى صريحة مستقيمة لا يستطيعون إنكارها ـ إن كانوا موقنين ، فرب العالمين ليس فقط إله مصر بل رب السماوات والأرض وما بينهما .

فرعون : (َ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25)) . وجدها فرعون فرصة لييستطلع رأى الملأ من حوله ، فسألهم ساخرا ـ وهو يعلم مقدما موقفهم . وبالطبع سيسارعون الى تأييد فرعون لو أمرهم بقتل موسى و هارون . ولعل فرعون كان يقصد إرهاب موسى . فهل إرتعب موسى من الملأ ؟

موسى : ( قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ (26)). موسى وجّه خطابه جريئا الى الملأ متحديا بأن رب العالمين هو ربهم ورب أسلافهم .

فرعون: ( إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)) فرعون ـ بالطريقة المصريةــ يتندر على موسى .

موسى : ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)) موسى يرد بمنتهى الجدية يتهمهم ضمنيا بعدم التعقل .

فرعون :(  لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ (29)). هنا فقط وصل فرعون الى التهديد الصريح . سيسجن موسى إن إتخذ إلاها غيره . لم يهدد موسى بالقتل ، بل بالسجن . ومصر أقدم دولة عميقة فى العالم ، ومن ملامحها ( السجن ) الذى يفتح أبوابه لمن يعارض الفرعون ، إن لم يكن مصيره القتل الفورى .  

موسى : ( أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)) موسى يدير دفة الحديث جاذبا الإنتباه الى موضوع جديد .

فرعون :(  فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (31)). ويلتقط فرعون الطُّعم ويجدها فرصة للتحدى .

وتأتى الفرصة لموسى فيستعرض لهم الآيتين : (  فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلإٍ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) الشعراء ) .

5 ـ الدولة المصرية العميقة التى كانت طوع فرعون موسى ، ولكن لم يستخدمها فى (إستجواب موسى ) . إستخدمها فرعون فى التنكيل ببنى اسرائيل وفى التجسس عليهم ، لكنه كان يستشير الملأ ـ الذى ينطق له بما يريد ، وكان هناك مؤمن آل فرعون الذى يعارضه .

6 ـ من اسف أن فرعون هو إمام المستبدين من حيث الزمن ، ولكنه أقل إستبدادا من المستبد العربى فى العصر الراهن .

الخاتمة :

1 ـ قصة موسى وفرعون لا تزال تعطى المزيد لمن أراد التدبر بعمق . وكذا قصص بنى إسرائيل .

2 ـ ولقد جاءت أسئلة عن بنى إسرائيل والأرض المقدسة الى كتبها الله جل وعلا لهم ، وعن بنى اسرائيل بعد موسى ، وهل مصطلح بنى اسرئيل فى القرآن الكريم ينطبق على دولة اسرائيل الحالية . هذه أسئلة ضخمة تحتاج الى كتاب مستقل . أرجو أن أجد الوقت والجهد لأقوم به .

والله جل وعلا هو المستعان .

أحمد صبحى منصور

فرجينيا ـ الولايات المتحدة

16 فبراير 2018

اجمالي القراءات 7212

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (1)
1   تعليق بواسطة   سعيد علي     في   السبت ١٧ - فبراير - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[88019]

الاستبداد زرعه فرعون موسى و حصده الكثيرون لا سيما في الشرق الأوسط !


في مؤتمر ميونخ للأمن و الذي عُقد يوم 16 - 2 - 2018 قال أمير دولة قطر : ( آن الأوان لتحقيق الأمان الشامل لمنطقة الشرق الأوسط.. وأن ننسى الماضي ونركز على الاحتياجات الإنسانية وأسس حكم القانون .. وتحقيق الحد الأدنى من الأمن الذي يسمح بتحقيق السلام ) .



لو عملت حكومات الشرق الأوسط و أعتبرت بقصه موسى عليه السلام مع المستبد الأول فرعون لأصبحت مثالا للعدل و إقامة القسط و نموذجا للأمن الذي يسمح بتحقيق السلام .



إن نتائج الإستبداد يتمثل في البؤس الذي تعيشه شعوب الشرق الأوسط بمستويات مختلفة و يبقى الفرعون حاضراً و بإستبداده شامخا !!



ما أروع قصص القران العظيم و الواقع السياسي و الإقتصادي و الإجتماعي .. فهل من متعظ !!



أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5111
اجمالي القراءات : 56,687,121
تعليقات له : 5,445
تعليقات عليه : 14,818
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي