آحمد صبحي منصور Ýí 2012-08-26
كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى):دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .
الباب الأول :طوائف المجتمع المصري في ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى
الفصل الثامن : جهل وحقارة الفقهاء القائمين بتطبيق الشريعة السنية فى عصر قايتباى
المستوى العلمي لعلماء الدين في عصر قايتباى:
1 ـ لو قام علماء الدين والقضاة بواجبهم نحو الإسلام والمسلمين لما كان هناك ظلم بهذا الشكل، ولما اضطر بعضهم إلى تأليف حكاية الحصاة التى تمشى، وما اضطر صاحبنا إلى إدعاء الجنون ومواجهة السلطان بالحقيقة. ولكننا إذا طالبناهم بهذا نكون قد ظلمناهم وكلفناهم مالا يطيقون. إذ يعنى هذا أننا نعتبرهم علماء حقيقيين ومفكرين ارتبطت حياتهم بالعلم وعلى أساس مكانتهم العلمية أختيروا لشغل تلك المناصب، ولأنهم علماء للإسلام يقدرون العلم حق قدره ويعرفون مسئوليتهم كان لابد أن يقولوا كلمة الحق. ولكنّ هذا كله يدخل في نطاق التمني ولا علاقة له بالواقع التاريخي لأكثرية العلماء في العصر المملوكي على وجه العموم، وللعلماء في عصر قايتباى خصوصاً. لابد أن يكونوا علماء أولاً. علماء بحق.. وذلك لم يكن متوفراً. لقد كان النوابغ منهم هو من يتمتع بلقب( الحافظ ) ،أى الذى يحفظ فى ذاكرته ما كتبه السابقون، ويستظهره في الذاكرة دون تجديد أو اجتهاد.هذا ما كان عليه أكثرهم حذقاً وأوسعم شهرة. فمقياس التفوق في ذلك العصر كان مقدار ما يحفظه صاحبنا، ومقدار ما يستحضره من حصيلة حفظه وما يستعرضه للتباهى به بين الناس وفي المجالس.ونأخذ مثلين من أهم علماء ذلك الوقت.
2 ـ يقول ابن الصيرفي في ترجمة الشيخ نجم الدين العجلونى (ت876 ):( كان رحمه الله عالماً بارعاً محققاً ، عين أعيان الشافعية بدمشق بل والقاهرة، نشأ تحت كنف والده ، فحفظ كتاب الله وجوّده بالروايات، وحفظ كتباً كثيرة في الفقه وغيره، وقدم به والده إلى مصر سنة خمسين تخميناً وسمع على عدة مشايخ.. كان آية من آيات الله، وعدة محفوظاته للكتب اثنان وعشرون كتاباً يحفظها مثل الفاتحة، وصّنف التصانيف الفائقة منها: تصحيح المنهاج، ومنها التاج على المنهاج ومنها تحرير المنهاج إلى غير ذلك من العربية وغيرها، وكان قد اشتهر بدمشق وصار عالماً وفقيهاً، ومدار أمورها عليه وله صحبة تامة بالسلطان.. والأمراء وأهل الدولة.). ويقول ابن الصيرفي أن موت ذلك الشيخ قد كان أمراً شاقاً على نفسه ويعلل السبب فيقول: ( وشقّ علىّ موته من وجوه رحمة الله، فإنه كان مفنناً متضلعاً بالعلوم ). ومن كلام ابن الصيرفي نتعرف على المقياس العلمى لكبار الشيوخ في العصر.فذلك الرجل كان (عالماً بارعاَ محققاً عين أعيان الشافعية.. مفنناً متضلعاً بالعلوم".) . لماذا ؟ لأنه ( حفظ كتباً كثيرة في الفقه وغيره" ولأنه كان أية من أيات الله، وعدة محفوظاته للكتب اثنان وعشرون كتاباً يحفظها مثل الفاتحة".).فالمقياس العلمي هنا هو حفظ الكتب. وقد يقال : ولكن صاحبنا كان يؤلف الكتب أيضاً.!! ما لنا نغمط الرجل حقه.؟!!.( أوكى ) ...حقك علينا يا شيخ عجلونى.. فأنت مؤلف ولست مجرد حافظ لكتاب الغير.فلقد ألف الشيخ العجلونى (تصحيح المنهاج ، والتاج على المنهاج ، وتحرير المنهاج.) . أى أنه قام بشرح وتلخيص وتحرير(كتاب المنهاج) في الفقه الشافعي، وكتب في ذلك ثلاثة كتب. أى دار بالتأليف حول كتاب واحد بشرحه مرة ويلخصه أخرى ويكرر ويعيد ويزيد.!!. عبقرية في التأليف والابتكار والاجتهاد.. ولو عاش في عصر أرسطو لمات منه أرسطو حسداً .!!
3 ـ ويقول ابن الصيرفي في ترجمة الشيخ سراج الدين العبادي ت877 : ( شيخ الشافعية مطلقاً بالديار المصرية في الفقه، كان أعجوبة زمانه في الحفظ والسرد والتقرير، يسرد من صدره كأنما يقرأ من كتاب، وقرأ عليه غالب فقهاء الشافعية وأعيانهم، ويستحضر الوقائع الموافقة لكل مجلس يحضر فيه عند سلطان أو وزير أو أمير أو فقيه أو فقير.). هنا شيخ الشافعية بمصر على الإطلاق. لماذا؟ لأنه كان أعجوبة زمانه في الحفظ والسرد،، يسرد من صدره كأنما يقرأ من كتاب، ولذلك قرأ وتعلم على يديه غالبية فقهاء عصره ، واستثمر موهبته في الحفظ فكان يستعرضها في كل مجلس يحضره عند السلطان والأمراء والوزراء والفقهاء (والفقراء) أى الصوفية، وبالطبع كانوا يحسدونه على هذا التفوق العلمى.مسكين أرسطو.. لم يكن أعجوبة زمانه في الحفظ والسرد.!!
طرق وصول جهلة العلماء للمناصب في عصر قايتباى :
الصلة بالمماليك:
1 ـ كان حفظ المتون والكتب في الذاكرة هو المقياس العلمى في ذلك العصر، ويستطيع الفلاح المصري إذا قرأ وعرف كيف يحفظ الكتب أن يصل إلى أرفع مكانة في سلك العلماء والقضاة، وقد حدث ذلك كثيراً، ولكن لم يكن النبوغ في الحفظ هو الوسيلة الوحيدة للوصول للمناصب. صحيح أنه أهم طريق للشهرة ولمجالسة السلطان والأمراء كما كان يفعل العجلونى والعبادي، ولكن كانت للآخرين طرق أخرى في الوصول إلى المناصب الكبري بين العلماء والقضاء.. وهذه الطرق الأخرى كانت أبعد ما تكون عن العلم.. ولكنها كانت تستر عورة الفقر في الحفظ وعورة التخلف العلمي والعقلى أيضاً. كانت خدمة المماليك وتوثيق الصلة بهم أهم تلك المؤهلات، ومتى كان أحدهم وثيق الصلة بهذا الأمير أو ذاك انفتحت له كل الأبواب في سلك العلماء، حتى لو لم يكن يعرف (الألف من كوز الدرة) حسبما يقول المثل الشعبي.
2 ـ وكان من المتعارف عليه أن يوجد شقاق ونزاع بين الصوفية والفقهاء، إذا كان الفقهاء على قدر معقول من العلم والابتكار يجعلهم يخرجون عن إطار التقليد والحفظ والبلادة العقلية، أما إذا كان الفقهاء يتنافسون في حفظ المتون واستظهارها، لذا كانت غاية هذا الصنف من الفقهاء الجهلة أن يكون ضمن مريدى التصوف، وهكذا كانت حالة الشيخ سراج الدين العبادي ( شيخ الفقهاء الشافعية على الإطلاق والذى كان أعجوبة زمانه في الحفظ والسرد، والذى كان يحضر مجالس الفقراء، أى الصوفية، ليستعرض موهبته في الحفظ امامهم ، كما يستعرضها في مجالس الوزراء والأمراء، لقد وصفه ابن الصيرفي بأنه( كان معتقداً في الفقراء والصالحين ) أى يعتقد فى ولايتهم وفى كراماتهم والخرافات التى تقال عليهم . وقد كات التصوف السّنى هو الدين الأرضى المتحكم فى العصر ، وكان الأولياء الصوفية هم آلهة العصر أحياءا وأمواتا. ولذلك كافأ الصوفية ذلك الفقيه الشافعى العبّادى فأشاعوا عنه أنه كان يجتمع "بالخضر عليه السلام" ، وحين مات دفنوه بتربة الصوفية.
3 ــ وبرعاية المماليك كانت للتصوف سطوته في ذلك العصر، وعن طريقة وصل كثير من مدعى العلم الذين لم تكن لهم مقدرة الشيخ سراج الدين العبادى في الحفظ. وكان أشهرهم في هذا المجال الشيخ كمال الدين العقيلي 873 الذى وصل بالتصوف إلى نفوذ عظيم . يقول عن نفوذه مؤرخنا ابن الصيرفي: ( حصل له بالديار المصرية عزّ وقبول زائد من أعيان ملوكها ، لاسيما جانم الأشرفي أخ السلطان الأشرف برسباى فإنه كان عنده في أوج العظمة والكمال ويرجع إليه ويصغى لقوله، وصار كلما أمره بشيء لا يخالفه، وخدمه بالجوارى الحسان والأموال الكثيرة ). أى أعطاه ذلك الأمير المملوكى الأموال والجوارى الحسان ،بل كان ذلك الأمير المملوكى يسمع ويطيع لهذا الشيخ . وسبب هذا النفوذ أن الشيخ كما الدين العقيلي كان يدعى الولاية الصوفية وعلم الغيب، وقد استغل ذلك الزعم الكاذب في تحقيق طموحه، فتلاعب بعقل الأمير جانم الأشرفي وبشّره بأنه سيلى السلطنة بعد أخيه السلطان برسباى، وابتهج الأمير بهذه البشرى وأغدق على الشيخ ما استطاع، يقول ابن الصيرفي : ( وكان بشرَّة بأنه يصير الأمير إليه أن يتسلطن، فلما خلص من السجن وولى نيابة حلب ازداد حبه له جداً وخدمة الخدمة التامة )، واستغل الشيخ كمال الدين شهرته هذه في تدعيم نفوذه لدى باقي الأمراء وأعوان السلطان، وكلهم يطمح في الصعود لأعلى وينتظر البشري، يقول عنه ابن الصيرفي : ( وكان قد اجتمع على حبه الخدام الأكابر ببيت السلطان )ـ أى كبار الأمراء المماليك فى القصر السلطانى الطامحين للسلطنة ، وكان العصر وقتها يؤمن بكرامات الصوفية ويعتقد فيهم ولا يعترض على مزاعمهم مهما بلغ كذبها .ويشير ابن الصيرفي إلى سبب نفوذه وعلو شأنه بين المماليك بأنه أذاع أنه يجتمع بأقطاب الصوفية فصدّقه ( الأتراك ) أى المماليك ، يقول إبن الصيرفى : ( وكان رحمه الله يذكر أنه يجتمع بالقطب الغوث وغيره من الأبدال فصار له اسم وسمعة عند الأتراك".). والقطب الغوث والأبدال من الأسماء والألقاب التى جعلها الصوفية في مملكتهم الوهمية التى يزعمون أنها تتصرف في أمور الدنيا.
ونرجع إلى الشيخ كمال الدين العقيلي ونتعرف على مقدار علمه بعد أن عرفنا مهارته في التحايل والنصب، يقول عنه ابن الصيرفي : ( وكان يري نفسه كبيراً ) أى صدّ نفسه فيما يزعمه عن نفسه . ( ويصف نفسه بعلوم زائدة لا يعرفها قط،) أى يزعم العلم اللدنى ، وعلومه الوهمية . ( وكان له اعتقاد كثير عظيم جداً في الصلحاء والفقراء ويعظمهم ويزورهم) أى كان وثيق الصلة بكبار الأولياء الصوفية المشهورين فى عصره ويزورهم ويعظّمهم معتقدا فى ولايتهم وكراماته ، وكان يفعل ذلك ليستغلّله فى طموحه ، يقول ابن الصيرفى : ( فلهذا طار صيته واشتهر ذكره..) ثم يقول إبن الصيرفى عن صلته بهذا الفقيه الأفّاق الجاهل : ( وكان بيننا وبينه صحبة أكيدة ومجالسة ومذاكرات . عفا الله عنه )..أى من خلال معرفة ابن الصيرفي به وصفه بالاعتقاد فى الأولياء الصوفية وأنه يزعم ( العلم اللدنى ) أو علوم لم يعرفها، وإنه أسّس شهرته ونفوذه على أساس التحايل بالتصوف.
4 ـ وعلى طريق الشيخ كمال الدين العقيلي سار آخرون..انتهزوا انشغال المماليك بثورة شاه سوار في العراق وتقربوا للمماليك بالمنامات التى تبشر بقرب القضاء عليه، وهى بشري إن تحققت صعد صاحبنا إلى عنان المناصب وإن لم تتحقق أصبحت فألاً حسناً للسلطان، وفي كلّ خير، وهو سيربح في الحالتين.وفي أوائل شهر جمادى الثانية 876 أخبر بعضهم الأتابك أزبك قائد الجيش المملوكي أن شاه سوار مقبوض عليه في هذه الأشهر وأنه انهزم، ووصلت هذه البشرى إلى السلطان فأخبر بها كاتم سره فأرّخها، أى دونها بتاريخها وانتظروا تحقيقها.. وراج أمر هذه البشري ولكن لم تتحقق، يقول ابن الصيرفي : ( ولم يصح شيء مما قالوه العوام من القبض على شاه سوار لكنه ـــ أى السلطان ــــ تفائل. ويمكن ذلك قريباً ببركة نبينا ).!!
الوصول بالرشاوى:
1 ــ وبعضهم وصل إلى المناصب بالطريق العملى، أى بالرشاوى والهدايا وتوثيق الصلة "وتفتيح المخ" وأشهرهم قاضى القضاة المالكى ابن حريز ت 873 الذى كان قاضياً بمنفلوط بالصعيد ولكن اشتغل بالزراعات واستئجار الأراضي من ديوان الدولة المفرد، ومن إيراده كان على حد قول مؤرخنا "يخدم السلطان وأمراءه ووزراه بالأموال الجمة والخيول العظيمة" وبذلك وصل إلى منصب قاضى القضاه المالكية، وبعد وصوله إلى منصبه الجديد اتسع نفوذه في الصعيد وتشبه بالمماليك في المظهر والمخبر.
2 ـ إلا أن الشيخ نور الدين البرقي 875 هو المثل الكلاسيكي لهذه النوعية من العلماء الحقيرة الذين يتعلقون بذيل السلطة ليصلوا بأى طريق. يقول ابن الصيرفي عن مستواه العلمى "كان علمه بالفقيري" أى كان فقيراً في العلم، ويقول "وعلماء مذهبه يعرفون بذلك منه، غير أنه معظّم عندهم لأجل الدنيا" أى كانوا يعرفون جهله ولكنهم يعظمونه بسبب صلته بأرباب النفوذ في الدولة. كان خادما لأمير مملوكى وموضع ثقته ، فكان ذلك الأمير يأتمنه على أموال صدقاه ليوزعها ذلك الشيخ على المحتاجين ، بل أودع ذلك الأمير عند ذلك الشيخ أموالا خبأها عنده تحسبا للزمن وتقلباته ، فاكتسب ذلك الشيخ ( الجاهل ) نفوذا بين أقرانه بسبب صلته بألمير يوسف ابن كاتب جكم . وفى هذا يقول ابن الصيرفي عن بداية نفوذه : ( كان صاحب صلة بيوسف ابن كاتب جكم ، وهو الذى صيره صاحب ثروة وأموال وتحف وكتب وغير ذلك، فإنه كان يدفع له كل نقده ألف دينار وأكثر وأقل ، ويأمره أن يتصدق فيها فيصرفها فيما يريد ، فحصّل الأموال والوظائف والكتب. وأودع عنده جملاً من الأموال على ما قيل ).ومن خلال تلك الأموال وتوزيعها بمعرفته حصل على الوظائف، يقول ابن الصيرفي : ( وكان له عند الحنفية- أى القضاة الأحناف- اسم وصيت سيما عند شيخنا أمين الدين الأقصراني، فإنه يبالغ في قضاء حوائجه وضروراته عند عظيم الدولة في عصره الصاحب جمال الدين يوسف ابن كاتب حكم" أى استغل علاقته بذلك الأمير المملوكي ليحوز نفوذاً عند قاضى القضاه الحنفي وشيوخ المذهب الحنفي. وكان يجمع مع الجهل سوء الخلق ، يقول ابن الصيرفي: ( وكان سيئ الأخلاق ، مصفرّاً نحيفاً ، شديد الغضب سريعه، ورشح لقضاء الحنفية- أى يكون قاضياً للقضاء الحنفي، فما قدّر الله ذلك .ولله الحمد .!! ). ويذكر ابن الصيرفي حادثة تؤكد سوء خلقه وتوضح نوعية أولئك العلماء الوصوليين الذى لا يتورعون عن التضحية بأصحاب الفضل عليهم إذا كان في ذلك مصلحة لهم. يقول ابن الصيرفي عنه أنّ قاضى القضاة ولى الدين السفطي هو الأصل في ترقية نور الدين البرقي وهو السبب الذى عرّفه بأكابر الدولة، وه صاحب الفضل عليه فى بدايته ، يقول موضحا : ( فإنه كان يرسله في تعلقاته وهو عنده لياقة في تأدية الرسائل وقضاء الحوائج والتواضع الزائد لأبناء الدنيا والتودد إليهم ويمشي معهم حسب مقاصدهم وأرائهم،) أى كان البرقى رقيق الحاشية متواضعا لأصحاب الجاه من المماليك حلو اللسان معهم ينافقهم ويوافقهم ويكسب مودتهم ، وفى عمله خادما لشيخه قاضى القضاة ولى الدين السفطى وفى تأديته لرسائله الى الأمراء المماليك تعرف البرقى بكبار المماليك واكتسب عطفهم ومدتهم ، وبعد صار له نفوذ واستغنى عن شيخه قاضى القضاة السفطى خان شيخه وأوقع به . يحكى ابن الصيرفى عما فعله البرقى بشيخه السفطى فى محنته : ( ومع ذلك آذاه غاية الأذى فإن الملك الظاهر جقمق رحمه الله لما غضب على السفطي وأخذ منه أمواله حلّفه أنه ما بقي يملك شيئاً ولا وديعة، وكان له تحت يد صاحب الترجمة (أى نور الدين البرقي) ودائع جمة، من جملتها عشرة آلاف دينار، وأخبر من أخبر السلطان بها فأرسل من أخذها منه وما وسع السفطي إلا الفرار ومات مقهوراً وضاعت عليه بقية ودائعه.). بدأ الشيخ نور الدين البرقي (عسكري مراسلة) للشيخ السفطي قاضى القضاة في سلطنة الظاهر جقمق، وعن طريق السفطي تعرف بالأكابر، وتودد إليهم بلياقته وتواضعه ومسايرته لما يقولون، هذا مع أنه كان مع غيرهم سيء الخلق . وكالعادة كان قضاة القضاة يختلسون الموال ، ويخبئونها عند من يثقون فيه ، وكذلك كان يفعل الأمراء وكبار الموظفين ، وعندما يعزل السلطان أحدهم يصادر أمواله ، ويحاول العثور على المخبّأ منها . وهذا ما حدث عندما غضب السلطان جقمق على قاضى القضاة السفطى فصادر أمواله الظاهرة ، وقام بتحليفه على أنه لم يخبىء شيا فحلف قاضى القضاة كذبا وزرا حسب الشائع فى شريعتهم السّنية . ولم يكن يدرى الشيخ السفطى أن خادمه الأمين وموضع سرّه وثقته سيخونه لذا أودع عنده بعض المال. وإنتهزها فرصة الشيخ البرقى ليتقرّب من السلطان فأفشى سرّ الودائع التى أودعها عنده شيخه السفطى ، وغدر بأستاذه وولى نعمته ، وبذلك ضاعت على السفطي الأموال التى خبأها للزمن، وتعين عليه أن يواجه انتقام السلطان، فاضطر للاختفاء والهرب في أيامه الأخيرة ومات مقهوراً يلعن الشيخ نور الدين البرقي قبل الأكل وبعده.. إذا كان لديه ما يأكله في أخريات عمره.
الاجتهاد في الحصول على المناصب:
1 ـ وكان أحدهم إذا مات وترك وظائف ومرتبات مختلفة تصارع على شغل تلك الوظائف والمرتبات أولئك العلماء المجتهدون في السعى لا في مدارسة العلم.. يقول ابن الصيرفي عن الشيخ برهان الدين الحلبي ت 875 أنه صار يسعى عند الأكابر فقرروا له الجوالى- أى المرتبات- ورتبوا له على الأوقاف الشافعية والحنفية، وكان باسمه تصوف- أى درس تصوف- بمدرسة جمال الدين وأخر بمدرسة بيبرس الجاشنكير وأخذ في التكلم على زاوية الشيخ نصر الله بخان الخليلي وغير ذلك، ورتب له في البخارى- أى في ميعاد البخارى- صرة بألفى درهم في كل سنة، وكان لا ينقطع عن التردد لبيوت الأكابر ويحسنون إليه.."
هذا الرجل الذى اجتهد في السعى لبيوت الأكابر حتى حصل على كل تلك الوظائف مات، وجاء آخرون يجتهدون في وراثة مناصبه، يقول ابن الصيرفي: ("وبعد موته خرّجوا وظائفه لعدة من الطلبة المجتهدين في السعي المترددين لبيوت الأكابر.).!!. من قال أن ذلك العصر خلا من الاجتهاد.؟؟..لقد (إجتهدوا في تحصيل المعاش)، ولم يكن لديهم وقت للاجتهاد في العلم الذى يأتى بوجع القلب .!!
وصار من ملامح الترجمة في تاريخ ابن الصيرفي أن يذكر مصير الوظائف بعد موت صاحبها لينالها ( المجتهدون ) فى السعى والتنافس على تلك المناصب التى تركها أصحابها بالموت أو بالعزل ، يقول عن الشيخ ابن التنسي ت 875 : ( وخرّجوا وظائفه لجماعة، فاستقر في تدريس الجمالية الخطيب الدرديري المالكي، وفي تدريس جامع ابن طولون قاضى القضاه سراج الدين إبن حريز المالكى، وأخذ مرتبه على الجوالى وصرته في البخارى عمر بن موسى اللقانى.. إلخ".).
2 ـ وبعضهم كان يدعي العفة والنزاهة فلا يتردد بنفسه على بيوت الأكابر، ولكن يبعث بمن يتوسط لديه عندهم، وتصير له منقبة ومفخرة، يقول ابن الصيرفي في حوادث الأربعاء 14 شوال 873 : ( طلب السلطان الشيخ كمال الدين أمام الكاملية وخلع عليه واستقر به في تدريس المدرسة المجاورة لضريح سيدنا الإمام الشافعي من غير سعى منه في ذلك بنفسه، غير أن العلائى بن خاص بك وجوهر المعينى الساقي وغيرهما تكلموا عند السلطان في ولاية الكمال فإنه من أعز أصحابها وجارهما ويترددون إليه ويتردد إليهما.). أى إن الشيخ كمال الدين لم يسع للوظيفة بنفسه ، مكتفيا بعلاقته بأمراء المماليك الذين توسطوا له عند السلطان فنال الوظيفة بلا سعى وبلا ( إجتهاد ).
3 ـ وبعضهم كان يشترى المنصب ويدفع الرشاوى للسلطان ومن دونه من الأمراء ليصل للمنصب، فإذا وصل عمل على أن يعوض ما دفع بالظم والسرقة (والبلص) أى الاختلاس والنهب.وقد كان البذل أو البرطلة شائعاً في العصر المملوكي في تولى المناصب الدينية والديوانية. في يوم الجمعة 12 جمادى الأولى 874 تولى تاج الدين بن الهيصم ناظراً في استيفاء الخاص بعد أن دفع ألف دينار ذهباً.وفي يوم الخميس 23 ذى الحجة 885 تولى ابن الخواجا منصب نقابة الأشراف بدمشق على عادته وكان الأشراف بدمشق قد اشتكوه للسلطان فطلبه وأحضره، من دمشق للقاهرة، واستقر في النهاية في وظيفته بعد أن دفع للسلطان ألف دينار.
4 ـ على أن الشيخ إبراهيم بن سعد الدين الحنفي ت 876 أوضح وأوضع ( من الوضاعة ) مثل على شراء المنصب، فهو من أسرة تخصصت فى منصب القضاة، وتوارثته ، فأبوه قاضى القضاة الحنفي، وأخوه كان قاضى القضاة الحنفي، وتولى أخوه منصب كاتب السر للسلطان خشقدم. وقد تقلّب إبراهيم هذا في المناصب الدينية والديوانية، من نظر الاسطبلات إلى نظر الجيش الى أن تولى القضاء تحت كنف أخيه حين كان قاضيا للقضاة . ثم طمع في تولى منصب كاتب السر الذى يتولاه أخوه الآخر، يقول عنه ابن الصيرفي : ( وكان قد تسبب في عزل أخيه وصعد للداودار والسلطان وأخبرهما أن أخاه عجز عن القضاء وأنه ذهل ووعد في كتابة السر بثمانية آلاف دينار فعجّل منها بخمسة وتأخر عليه ما بقي، فحصل لأخيه منه حصر زائد، فيقال أنه دعى عليه بالقهر فما مضى خمسة عشر يوماً حتى قهر".)، أى إنه زعم أن أخاه أصيب بالجنون والذهول وفقدان الذاكرة ، وعرض رشوة ليتولى مكان أخيه . فقهر أخاه .أخلاق أخر زمن.!!
وراثة المناصب:
1 ـ وحين مات ذلك الرجل الذى اغتصب منصب أخيه كان يحوز عدة مناصب. يقول ابن الصيرفي أنه بعد موته تكلموا مع السلطان قايتباى بالوصية على ولده محمود وأن لا يخرج عن ولده شيء من وظائفه، فسكت السلطان ولم يجب ، لأن السلطان بلغه عن ذلك الولد أن بضاعته من العلم مزجاة، على حد قول مؤرخنا- وأنه لا يصلح لمشيخه الخانقاه المؤيدية، ثم تولى المشيخة المذكورة الشيخ سيف الدين، وتولى الشيخ العنتابى مشيخة المدرسة مزداد، وورث محمود ابن الشيخ المتوفي بقية مناصبه ومرتباته بتوقيع السلطان ، ذلك أنهم كانوا يتوارثون المناصب كابراً عن كابر.)
2 ـ والشيخ نور الدين البرقي الحنفي الذى كان علمه بالفقيرى- على حد قول مؤرخنا- والذى حاز كثيراً من المناصب بنفوذه مات وخلف ولدين، يقول عنهما ابن الصيرفي "خلف ولدين.. ليس فيهما أهلية لشيء مما كان هو فيه ، مع إن علم صاحب الترجمة- أى نور الدين البرقي- بالفقيرى" ومع ذلك فقد توارث أبناه مناصبه وذلك برعاية المحتسب والشيخ أمين الدين الأقصراني وابن الجيعان والقاضى الشافعي، يقول ابن الصيرفي: ( وخرجت وظائفه باسم أولاده ، ووصّى عليهم المحتسب والشيخ أمين الدين الأقصرائى والعلمى ابن الجيعان والقاضى والشافعي ..).
3 ـ وكان توارث المناصب عادة سيئة في العصر المملوكي، يقول المقريزى "وكانوا يتوارثون هذه المرتبات إبناً عن أب ويرثها الأخر عن أخيه وابن العم عن ابن العم، بحيث أن كثيراً ممن مات وخرج شيء من مرتبه لأجنبي لما جاء قريبه وقدم قصته- أى شكواه- يذكر فيها أولويته بما كان لقريبه أعيد إليه ذلك المرتب ممن كان خرج باسمه".)
4 ـ والشيخ سراج الدين العبادي ت 877 تنازل في أواخر عمره عن مشيخه المدرسة الباسطية لولده الأصغر كمال الدين، وكتب مشيخة الظاهرية لولده الأكبر جلال الدين، أى تصرف في مناصبه كأنها ملك خاص له ، يولى عليه من يشاء، ويوصى به لمن يشاء من أولاده.
5 ـ وغدا استحقاق المنصب بالإرث أهم من حصول الغير عليه حتى لو كان أكثر علماً وفقهاً، فقد توفي الشيخ محمد إبن شيخ الكاملية الكبير وخلف أخوين أخذ احدهما درس الحديث بالمدرسة الكاملية على حد قول ابن الصيرفي (بالجاه لا بالحق) لأنه حرم الشيخ شمس الدين السخاوى من هذا النصب وهو أحق به باعتباره كان عالم عصره- بل قل أعلم عصره، في علم الحديث، ومع ذلك انتزعوا منه وظيفة الحديث بالمدرسة الكاملية لصالح أخ ابن شيخ الكاملية المتوفي، ولم يكن لذلك الأخ أى مؤهل علمى سوى قرابته لابن شيخ الكاملية.
6 ـ وكان الوارث للمنصب أحياناً شاباً جاهلاً ومع ذلك يحوز منصباً خطراً لا يصلح له، وقد تولى المقر الكاملي نظارة الجيش بعد موت أبيه الصاحب جمال الدين يوسف بن كاتب حكم، يقول ابن الصيرفي عن ذلك الابن ( وهو بلا لحية في وجهه وسنّه دون العشرين عاما )..!.وفي يوم السبت 3 محرم 873 تولى عبد الكريم بن أبى الفضل بن جلود وظيفة كتابة المماليك السلطانية ورثها عوضاً عن والده المتوفي، يقول عنه ابن الصيرفي: ("وهو يومئذ أمرد ) أى شاب مراهق ( لا نبات بعارضيه) أى لم تنبت له اللحية. وفي يوم الجمعة 7 ذى الحجة 876 ضرب الأنابكي أزبك قائد الجيش الشيخ يوسف السمين إبن أبى الفتح ناظر البيمارستان بسبب سيرته في إدارة البيمرستان،( فقد كان شاباً صغيراً بلا لحية وبلا أدب وحدثت منه وقائع استلزمت تأديبه وضربه.)..!
أخيرا
هذه هى طبيعة القائمين بتطبيق الشريعة السّنية ، وسيرتهم العلمية والوظيفية وطريقة وصولهم للمناصب.
ومن الطبيعى أن يتدهور باستمرار المستوى العلمي، وهذا ما حدث، فقد استمر التدهور العلمى إلى أن تحول إلى جمود ثم تأخر في العصر العثمانى، استيقظنا منه على ضجيج الحملة الفرنسية وبعضنا لا يزال في سبات تام حتى الآن.ومن الطبيعي أن تتأثر وظيفة القضاء بهذا التردى العلمى والسلوكى، فالقاضى الذى يصل لمنصبه بالرشوة أو بالتوارث أو بصلته بالظلمة لا يمكن أن ننتظر منه أن يحكم بالعدل. وهذا يضيف معلماً أخر من معالم الظلم الذى عانى منه أجدادنا في عصر المماليك.
ولن يختلف الحال كثيرا لو قام الاخوان المسلمون اليوم بتطبيق الشريعة السنية فى مصر .. ستجد نفس النماذج المنحطة جهلا وخلقا ، لأن الشريعة السنية لا تقوم إلّا بهذه النماذج المنحطّة من البشر . والدليل هو نظام القضاء فى الدولة السعودية .
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5111 |
اجمالي القراءات | : | 56,686,935 |
تعليقات له | : | 5,445 |
تعليقات عليه | : | 14,818 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
دعوة للتبرع
الابراج: لقد أرسلت أسال كثيرا عن الأبر اج ولكنً ى لم...
عبد الرحمن المقدم: السلا م عليكم زرحمة الله وبركا تة اود من...
أربعة أسئلة: السؤ ال الأول : بينم ا اتصفح الفيس بوك...
الإجابة لآخر مرة: هل يجوز الجما ع مع زوجتي ن معا في نفس المكا ن ...
آل عمران ( 75 : 78 ): أريد أن أفهم الايا ت التال ية من سورة آل...
more