الكفر السلوكى وملامحه فى قصة فرعون موسى :
مقدمة:
1 ـ فى تعليقه على مقالنا ( لا نفرق بين أحد من رسله ) قال الكاتب الاسلامى الاستاذ فوزى فراج : (تقول ان الكفر نوعان, كقر عقائدى وكفر سلوكى, وصنفت هؤلاء الذين يقولون ( وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ) بالكفر العقيدى, وبالطبع قلت انك لا تكفر احدا ولكن تكفرمعتقدات, وهو كلام جميل , ولكن هل هناك معتقدات فى فراغ يا دكتور أحمد, أليس المعتقد مرتبطا بمن يمارسة, وبالتالى لا نستطيع ان نقول اننا نكفر المعتقد فقط ولكن الممارس الذى هو أمامنا رجل طيب وإين حلال, ولكن ما يمارسة يعتبر كفرا عقيدى, هل هذا كلام واقعى!!
النقظة الثانية , هى هل هناك فى القرآن الذى هو المصدر الوحيد للتشريع أى شيئ او أى أيه او أى سورة تشير الى أن هناك نوعان من الكفر, عقائدى وسلوكى ).
2 ـ ولقد سبق فى مقال ( معنى الاسلام ومعنى الكفر ومعنى الطاغوت ) المنشور فى هذا الموقع التعرض لمعنى الكفر و أنه مرادف للشرك ، وأن الطاغوت هو أحط درجات الكفر والشرك.
وهنا نعيد بحث الموضوع من زاوية جديدة فى عدة مقالات تتناول دراسة عملية للسياق القرآنى لبعض الآيات التى ورد فيها موضوع الكفر و الشرك .. والايمان..
( الفتنة ) هى الفارق بين الكفر السلوكى والكفر العقيدى:
1 ـ هناك كافر بعقيدته يقدس البشر والحجر ولكنه لا يفرض عقيدته على الغير مؤمنا بحق كل انسان فى معتقده ، والى هذا الصنف ينتمى الصوفية المسلمون ، وينتمى معظم شعوب العالم المتحضرة التى تحترم حقوق الانسان.
وهناك من يفرض عقيدته على الاخرين بالاكراه فى الدين مستعملا القوة والقهر والارهاب ، وهذا هو الكافر بالسلوك ، ونحكم عليه بسلوكه ، ويتدرج كفره السلوكى حسب درجة اعتدائه وتسلطه على الاخرين. الوهابية السنية فى عصرنا أهم مثال لهذا الكفر السلوكى ، وقد اتسع ضحاياهم فى العالم كله ، وأكثر ضحاياهم من المسلمين داخل وخارج المملكة السعودية ، و القرآنيون فى مقدمة ضحاياهم .باختصار فالفتنة أوالاكراه فى الدين هى الفارق بين نوعى الكفر العقيدى والسلوكى.
2 ـ وأهم معانى (الفتنة) فى القرآن الكريم اثنان :
* فى التعامل مع الله جل وعلا تعنى الابتلاءوالاختبار (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)(الأنبياء 35) (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) (الحج 11 ) (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)(التغابن 15).
* وفى تعامل البشر فيما بينهم تعنى الاضطهاد فى الدين أو الاكراه فى الدين ، وهذا ما نهى الله جل وعلا النبى محمدا عنه فقال له بصيغة الاستنكار:(أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)( يونس 99 )، وجعلها رب العزة قاعدة أساسا فى الاسلام : (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) ( البقرة 256 ).
قصة فرعون موسى أبرز مثال للفتنة أو الكفر السلوكى
1 ـ معنى الاكراه فى الدين أوالفتنة جاء فى سياق تعامل فرعون مع بنى اسرائيل فى قصة موسى عليه السلام. ومعلوم ان فرعون هذا تطرف فى كفره العقيدى الى درجة إعلان الألوهية ، كما تطرف فى كفره السلوكى الى درجة قتل وتعذيب بنى اسرائيل ، وغيرهمم ممن يخرج عن طاعته ، كما فعل بالسحرة حين آمنوا.
وشأن كل طاغية كافر بسلوكه العدوانى فان فرعون منح نفسه حق التفتيش عن عقائد الناس ، ولذلك فقد حكم بصلب السحرة لأنهم آمنوا برسالة موسى قبل أن يأخذوا الإذن من (الفرعون ) واعتبر ذلك تآمرا على عرشه وسلطانه الذى يجب ان يصل الى خطرات النفوس :(قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ ؟) (الاعراف 123 ـ ).
2 ـ وبسبب هذا الاضطهاد تفرق معظم بنى اسرائيل عن موسى وهارون رعبا من الفرعون ، يقول جل وعلا: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ) هنا تأتى ( الفتنة ) بمعنى الاضطهاد والاكراه فى الدين فى قوله تعالى (عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ) .
3 ـ وفى المقابل فان موسى عليه السلام دعا قومه الى التوكل على الله جل وعلا فليس لهم غيره : ( وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) ( يونس 83 ـ 86). هنا أيضا تأتى الفتنة بمعنى الاكراه والاضطهاد فى الدين حيث دعا بنو اسرائيل الله جل وعلا أن لا يجعلهم (فتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) أى ضحية الاضطهاد . ويلاحظ أن وصف فرعون وآله جاء مرة بالكفر ومرة بالظلم (لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) فالظلم الذى يصل الى الاكراه فى الدين وقتل الابرياء وترويع الآمنين يكون كفرا سلوكيا .
من ملامح ( الفتنة ) أو الكفر السلوكى :
الطرد والمطاردة والاخراج والهجرة فى سبيل الله جل وعلا:
1ـ ويصل الاضطهاد الى درجة الطرد والاخراج ، فقد يعمد الكافرون المعتدون الى قهر المؤمنين المسالمين لإخراجهم من بيوتهم وبلدهم ، وقد يصل الاضطهاد بالمؤمنين الى درجة ترك بيوتهم للنجاة بانفسهم . وفى كل الأحوال يعانى المؤمنون من قهر يلجؤهم للهجرة تاركين ديارهم .
2 ـ وقد كانت رسالة موسى للفرعون أن يسمح له بان يغادر مصر ومعه بنو اسرائيل لتخليصهم من العذاب والاضطهاد :(الشعراء 17 ) ، ولكن التطرف فى الكفر السلوكى لدى فرعون جعله يطاردهم بغيا وهم يهربون فلقى حتفه غرقا: ( يونس 90 ـ ) ..
3 ـ ولم يعتبر بمصيره الطغاة الذين أتوا بعده ، ولقد جعل الله تعالى من فرعون وملئه أئمة لكل طاغية يأتى من بعدهم ،( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ( القصص :41).
ويلاحظ أن الله جل وعلا كرّر أن الكافرين الآتين بعد فرعون موسى قد ساروا على (سنة) فرعون: (الأنفال 52 ، 54 ) ( آل عمران 11 ) وأن فرعون نفسه قد أتبع سنة من سبقه من أساطين الكفر السلوكى ( غافر 31 )
2 ـ كررت قريش سنّة فرعون وهى تطارد النبى محمدا عليه السلام حتى يلجأ مع صاحبه الى الغار هربا من المطاردة ،وفى ظلمة الغار لم يكن له عليه السلام من نصير إلا الله جل وعلا(التوبة 40 ).
إخراج المؤمنين من بيوتهم
1 ـ العادة فى الكفر السلوكى أن يصل الاكراه فى الدين والاضطهاد الدينى الى إخراج المؤمنين من بيوتهم ، وهذا ما حدث فى قصص الأنبياء جميعا ، ولقد عبّر عنه رب العزة فى صورة حديث جماعى تكرر فى قصة كل نبى مع قومه المشركين الكافرين المعتدين ، إذ قال الكافرون المعتدون لرسلهم ـ مع اختلاف الزمان والمكان (لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) ( ابراهيم 13 ). أى هو تخيير (أو إجبار ) على العودة لما وجدوا عليه آباءهم أو الطرد من البلاد. وهكذا فعل المستكبرون الكفرة من أهل مدين مع النبى شعيب عليه السلام : (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) ( الأعراف 88 ). وهذا ما فعلته قريش بالنبى محمد ، إذ تآمروا على قتله أو إعتقاله وسجنه أو طرده : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ )( الأنفال 30 ) .
2 ـ وتكرر مع القرآنيين نفس الوضع . أوصل اضطهاد مبارك القرآنيين الى ترك بيوتهم خوف الملاحقة الأمنية .. يحدث هذا الآن ، وحدث معى من قبل ، إذ إضطرونى الى عدم الذهاب لبيتى فى بلدتى (أبوحريز ) بسبب قيامهم باعتقال وتعذيب أهلى كلما زرت بلدتى وقابلت أهلى...
المنع من الصلاة :
1 ـ وأشد ما يغيظ أصحاب الكفر السلوكى هو قيام المؤمنين بالصلاة ، ولذلك أوصل القهر الفرعونى بنى اسرائيل الى خوفهم من الصلاة العلنية ،فجاء الأمر الالهى بالصلاة سرا فى بيوتهم بعيدا عن أعين الفرعون ومخابراته:(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) ( يونس 87 ).
ونفس الحال تكرر مع خاتم النبيين إذ بمجرد أن بدأ دعوته قاموا بنهبه عن الصلاة فنزل فى أول سورة من القرآن (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى) ( العلق 9 : 10 ) الى أن يقول له ربه جل وعلا : (كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ )( العلق 19 ) . وبعد هجرة المسلمين من مكة بقى فيها بعض المؤمنين سرا، فمنعهم القهر القريشى من دخول المساجد ، ولقد اعتبر رب العزة ذلك من أفظع أنواع الظلم : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )( البقرة 114 ) .
2 ـ تكرر نفس الحال معنا خلال الثمانينيات ،إذ أخرجونا من كل مسجد أخطب فيه ويجتمع معى أهل القرآن، حتى لقد أخرجونا من مساجد بنيناها بأنفسنا ، وخوفا علي أهلى وأهل القرآن اضطررت لقطع الصلاة معهم فاضطروا للصلاة فى بيوتهم فقبضوا عليهم فى عامى 2000 ، 2001. والتفاصيل فى مقال ( التسامح الاسلامى بين مصر وأمريكا ) ، وهو منشور هنا.
وهذا الاضطهاد الذى يصل الى منع الصلاة غريب عن التدين المصرى ولكنه النفوذ السعودى الوهابى الذى جعل بامواله فراعنة مصر الصغار يضطهدون القرآنيين والشيعة ، ويكون المنع من الصلاة أحد ملامح هذا الاضطهاد. وفى موقعنا تفصيلات عن الدور المبكر للدولة السعودية الحالية فى منع الشيعة من صلاتهم فى مساجدهم ( كتاب جذور الارهاب فى العقيدة الوهابية) :
http://www.ahl-alquran.com/arabic/book_main.php?page_id=10
الْفِتْنَةُ أَشَدُّ وأَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ.
1 ـ يلفت النظر قوله جل وعلا يصف الفتنة فى الدين :(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) ( البقرة 191).( وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) ( البقرة 217).
كيف تكون الفتنة أشد وأكبر عند الله جل وعلا من القتل ، والعادة أن الناس يخشون القتل ؟
يمكن القول أن الله جل وعلا جعلها تفوق جريمة القتل لأن القتل قتل للجسد اما الارهاب والترويع والتخويف فهو قتل معنوى يقتل أجمل ما فى النفس البشرية إن لم تصمد و تستعن بالله جل وعلا. هذا صحيح ، ولكن الأصح هو ذلك الفارق بين الفتنة والقتل.
فكل نفس بشرية ذائقة الموت ، إما موتا عاديا وإما قتلا ، لكن ليس كل نفس بشرية تذوق ألم القهر والتعذيب بسبب اختيارها الدينى، الى درجة تتمنى فيها الراحة بالموت ، وهذا ما يشعر به كل مقهور ضحية للارهاب ..
وفى النهاية فالموت بالمرض هو لحظة يدخل بها المحتضر الى غيبوبة لا يحس فيها بأى ألم ، يعقبها الدخول فى البرزخ الذى لن يخرج منه إلا بالبعث يوم القيامة شأن الجميع.
ونفس الحال مع القتل ،بل إن القتل يعجل بالموت دون طول معاناة من المرض ، ويدخل به الضحية سريعا جدا الى غيبوبة يفارق بها الحياة.
أما الاضطهاد أو الفتنة فهى معاناة مستمرة بالخوف والرعب والقلق وانتظار المصائب وتوقع الشّر عند أى لفتة أوهمسة أو دق على الباب أو رنين التليفون..!!
بالقهر والرعب والفزع المستمر يتحول ضحية الفتنة الى تمنى الموت ليستريح طبقا للمثل المصرى القائل ( وقوع البلاء أيسر من انتظاره ).
2 ـ ضحية الفتنة نوعان فى الأساس :
* قد يزداد تمسكا بالحق والصبر و يزداد من الله جل وعلا قربا بالصلاة والاستغاثة به والاحتماء به من المعتدين الظالمين ، وبالتالى يبتعد عما يغضب الله جل وعلا لأنه ليس له نصير ولا معين سواه جل وعلا ، وبالتالى أيضا لا يفكر فى الاستسلام مفضلا عليه الموت مستعدا للحظة القتل والموت يرى فيها خلاصا له من شقاء هذه الدنيا .
* وفى المقابل فهناك من ضحايا الفتنة من يتعاظم عنده الشعور بالخوف الى أن يسحقه نفسيا بحيث يصبح كائنا مهزوزا لا فائدة منه. أى أن ضحايا الكفر السلوكى (الفتنة ) إما أن يكونوا سلبيين مسحوقين وإما أن يكونوا نشطين إيجابييين يستمرون فى الجهاد والتحدى ..
وقد جاء فى القرآن الكريم ملامح الحالتين.
نماذج لضحايا الفتنة (الكفر السلوكى) فى قصة موسى وفرعون.
فى قصة موسى وفرعون وبنى اسرائيل يتجلى القهر افظع ما يكون ، ويكون ضحايا القهر أكثر تنوعا ، حيث دفع ثمنه الجميع بدءا من فرعون نفسه ، مصداقا لقوله جل وعلا (اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا ) ( فاطر 43 ) ، وهى إحدى السنن الالهية التى عوقب بها معاقبة الطغاة و الظالمون ، ولكن قلما يستفيد منها اللاحقون.
(فرعون وآله ضحايا الخوف )
فرعون وآله دفعوا الثمن فى الدنيا وفى البرزخ ، وسيدفعون ثمنه فى الاخرة.
فالاضطهاد نشر الخوف فاصبح الخوف وباءا لم يسلم منه فرعون نفسه ، مع قوته وسيطرته على مقاليد الأمور فى مصر. وهذا يستلزم تحليلا :
1 ـ تميز عصر الرعامسة الذى ينتمى اليه فرعون موسى بسيطرة الفرعون على الثروة و السلطة و تأسيسه جيشا ذا حكومة مركزية يسيطر بهما على كل شىء. وهذه السيطرة المطلقة على الثروة و السلطة تجلت فيما حكاه القرآن الكريم عن فرعون وهو يخطب فى ملئه (أو الحزب الوطنى ) متندرا بموسى عليه السلام مفتخرا بأنه يملك مصر وما عليها : (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ ) ( الزخرف 51 ـ )
جيش فرعون (أو قواته المسلحة ) ارتبط بفرعون ، وهذا ما نفهمه من السياق القرآنى فى سورة القصص الذى يربط فرعون موسى بالجنود من بداية القصة الى نهايتها .
يقول تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) ( القصص 4:6 ) أى إن فرعون استبد فى الأرض وقام بتقسيم أهل مصر الى طوائف ، استضعف طائفة منهم قام بالتنكيل بهم ليخيف الباقين .
شأن كل مستبد طاغية فقد كان فرعون لا يرضى بأنصاف الحلول فيما يخص الولاء ، لذا ارتبط الولاء السياسى له بالاعتقاد فيه الاها ، ولذلك هدد موسى فى أول لقاء لهما بالسجن إن لم يؤمن به موسى الاها لا شريك له :(قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ )( الشعراء 29 ) من هنا نجد السبب فى اضطهاده لبنى اسرائيل ، إذ استراب الفرعون ببنى اسرائيل لأن ديانتهم المصرية لم تكن خالصة بسبب تراثهم القديم ، فهم أبناء يعقوب ( اسرائيل ) بن اسحاق بن ابراهيم عليهم السلام ، ومع تاثرهم بالدين المصرى إلا أن تدينهم كان يخلو من التقديس (الكامل) للفرعون مما يطعن فى ولائهم له ، لذا أخذ منهم حذره واستسهل التنكيل بهم ، فكان عقابه ان يجعل الله تعالى هلاكه على يد أولئك المستضعفين الذين سيرثون ملكه، وسيرى فرعون وآله ذلك بعد الموت حيث سيكونون فى نار البرزخ يتم عرضهم عليها غدوا وعشيا .
نلاحظ فى قوله تعالى (وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) اقتران فرعون بتابعه وخادمه هامان ، وجاء منسوبا لهما الجنود ، بمعنى أن فرعون كان هو (القائد الأعلى للقوات المسلحة) ، بينما كان (المشير ) هامان هو (القائد العام) لها.
من السخرية بفرعون أن يتولى هو تربية موسى ليكون موسى لهم فيما بعد عدوا وحزنا (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ )( القصص 8 ) ، وطبعا موعد الحزن لهم هو بعد الموت غرقا ، أى فى البرزخ حيث قال تعالى عن مصيرهم (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) ( غافر 45 ـ ) . ونعيد التذكير هنا بالطبيعة العسكرية لنظام الحكم الفرعونى حيث القائد الأعلى وبجانبه خادمه الأول القائد العام للجند (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ).
ولم تقتصر مهمة الجيش وقائده العام هامان على الأعمال الحربية فى إحكام سلطة الفرعون وقومه على الشعب المصرى المسكين ـ الذى لا صوت له ولا خبر فى القصة ـ بل تعدت الى الاشراف على الأعمال المدنية و المعمارية ، فقد أمر فرعون هامان ببناء صرح يستطيع من خلاله الفرعون أن يرى الله جل وعلا: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا )( غافر36 ـ ).
بهذا الجيش وصل فرعون الى حضيض الكفر عقيديا وسلوكيا ، ولقد أوجز الله تعالى ذلك فى ثلاث آيات فى نهاية قصة فرعون وموسى فى سورة القصص(38 : 40): (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) استكبر فرعون فى الأرض بجنوده ، وتبعه جنوده فى طغيانه الى أن غرقوا جميعا فى البحر ، ولا يزالون فى البرزخ تحت عذاب مقيم يستمر الى قيام الساعة. ومع أن الله جل وعلا يوجه النظر الى العبرة من عاقبة القوم الظالمين فى تلك القصة فان طغاة المسلمين فى الماضى والحاضر لا ينظرون ولا يعتبرون .
3 ـ هذا الجيش الجرّار لم يفلح فى تبديد خوف الفرعون ، وهذا الخوف فى نفس فرعون منعه من قتل موسى ، ومنعه من استمرار عادته القديمة فى ذبح أطفال بنى اسرائيل وسبى نسائهم أثناء وجود موسى رسولا ، فلقد سلط الله جل وعلا على فرعون وقومه كوارث لارغامه على تلبية طلب موسى بالسماح لبنى اسرائيل بالخروج من مصر ، وتنوعت هذه الكوارث من الطوفان والجراد والقمل والضفادع و الدم الى الرجز أى الدمامل (الأعراف 133 ـ )
إقترح الملأ على الفرعون استئناف التعذيب لبنى اسرائيل فى حضور موسى ردا على رسالته بينما أعلن الفرعون أمام مستشاريه إنه سيقتل موسى (فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ)( غافر 25 ـ ).
فرعون ( يخاف ) أن ينجح موسى فى تبديل الدين القائم على تقديس الفرعون فيحل الفساد . أى كأن فرعون هو حامى العدل وموسى هو رسول الفساد.!!..كلام الفرعون يحمل رؤيته المغلوطة وقلب الحقائق ، فهو يريد قتل موسى خوفا من أن يبدل دين المصريين القائم على تقديس الحاكم ، ذلك التقديس الذى أورث المصريين حتى اليوم ما نسميه بثقافة العبيد التى تلتمس العذر للفرعون مهما بلغ طغيانه ومهما بلغت وضاعته .
4 ـ وهناك علاقة طردية بين ظلم الحاكم المستبد وخوفه ، فكلما زاد ظلمه زاد خوفه وتكاثرت أشباح ضحاياه تؤرق ليله ونهاره وتتوعده بالانتقام . من هنا أدى الخوف بفرعون الى تطرف فى الاضطهاد حتى وصل الى التفتيش على خائنة الأعين وما تخفى الصدور، فكل تصرف لا يرغب فيه الفرعون يتم تأويله الى مؤامرة. ونعطى أمثلة :
* فلم تكن رسالة موسى له إلا مجرد أن يسمح له بهجرة بنى اسرائيل وخروجهم من مصر ، فاعتبر ذلك مؤامرة تهدد سلطانه فى الأرض : (قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) ( يونس 78 ).
* وعندما أراه موسى الدلائل على نبوته بالعصا التى تحولت الى ثعبان و اليد التى اصبحت بيضاء للناظرين جاء الرد الفورى من فرعون للملأ أن هدف موسى هو إخراجهم من أرضهم :(قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ )( الشعراء 34 ـ ).
* حتى إيمان السحرة المفاجىء كان رد الفرعون المرعوب عليه أنهم يتآمرون على (البلد ) لاخراج اهلها منها (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا ) وحكم عليهم أفظع حكم ( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) ( الأعراف 123 ـ ).
* وخوف فرعون من بنى اسرائيل جعله يضع حولهم الجواسيس تحصى عليهم أنفاسهم ، وعندما عرف بهروبهم بادر بارسال منشور الى جنده وفيالق جيشه بالاستعداد والحذر من هذه الفئة القليلة ، يقول تعالى : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) ( الشعراء 52 ـ ). فمع أنهم باعترافة (شرذمة قليلة ) ومستضعفة إلا أنه مغتاظ منهم ويحذر منهم. وانتهى الأمر به وبجنده فى قاع البحر الأحمر.!!
5 ـ وصل الخوف الى فراش زوجة الفرعون نفسه وقد آمنت برسالة موسى ، فوقعت فريسة الخوف من زوجها فظلت تدعو الله تعالى عليه.. يقول تعالى :(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ( التحريم 11 ).الكلام هنا عن ( العمل ) أى السلوك ،وعن (الظلم) أى (الفتنة ).
6 ـ ووصلت عدوى الخوف الى مؤمن آل فرعون ، ذلك الأمير الفرعونى المؤمن سرا والذى أستمر ينصح قومه وهم يتآمرون عليه ، الى أن قال لهم فى النهاية يائسا : (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ). ووقاه الله جل وعلا مكرهم وتآمرهم عليه ، فنجا هو بينما غرق فرعون وجنده وآله ، وهم الان يقاسون عذاب البرزخ ، ثم ينتظرهم أشد العذاب فى الاخرة ، يقول تعالى عن مؤمن آل فرعون ( فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) ( غافر28 ـ ، 44 : 46). وتنتهى قصة الفتنة الفرعونية والاضطهاد الفرعونى بعبرة يوجهها رب العزة للبشر، فيها الوعد بالنصر فى الدنيا والاخرة للرسل وللمؤمنين السائرين على نهجهم : (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) ( غافر 51 : 52 ).
7 ـ ولم يتعظ الفرعون المصرى الحالى لأن ألاستبداد يجعل أى حاكم فرعونا يسير على نهج فرعون موسى ، ومرشحا لأن يلقى نهايته ، فكلما زاد ظلما زاد هلعا وخوفا. وأعظم خوفه من المؤمنين بالله تعالى وحده الذين لا يرون فى الفرعون سوى بشر ظالم لنفسه لن ينجو من انتقام العزيز الجبار .. ولقد تعددت التفسيرات فى سبب اضطهاد مبارك للقرآنيين المسالمين الذين لا ينافسونه على الحكم ولا ينازعونه السيطرة ومع ذلك ينهال عليهم بكل جبروته . قصة فرعون فى القرآن تفيدنا فى فهم السبب حين تفضح نفسية كل فرعون يصل به استبداده الى التسلط على عقائد الناس ، ويؤرقه أن توجد فى مملكته قلوب لا تقدس غير الله جل وعلا ، هو يعتبر وجودهم خطرا على سلطانه القائم على ثقافة العبيد ، لذا لا بد أن يلجأ الى اضطهادهم فيقع فى شر اعماله..
ويتكرر الخطأ فتتكرر العقوبة ، وتلك سنة الله مع المستكبرين الطغاة :(اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا ) ( فاطر 43 ).
(موسى عليه السلام ضحية للاضطهاد الفرعونى )
ومع أن موسى عليه السلام قد تربى فى قصر الفرعون متمتعا بحمايته فقد تأثر بجو الاضطهاد والارهاب المسيطر داخل قصر الفرعون وخارجه.
لقد رضع موسى فى طفولته لبن الخوف حيث تنكرت أمه فى وظيفة مرضعة لترعاه ، وعاش بين القصر الفرعونى وأهله المستضعفين يرى ذبح أبنائهم واسترقاق نسائهم ، ويخشى لو انكشف للفرعون أصله الاسرائيلى .
فى نشأته فى بيت عدوه فرعون اكتسب موسى صفات الخوف والتوجس وتوقع الشر والانفعال الشديد والاندفاع بسبب الغريزة الطبيعية لحماية النفس و الخوف المتوقع مما قد يطرأ ، ومما يحيط به. وبهذه الشخصية كان يتصرف موسى ، ويتكرر فى القصص القرآنى عنه تعبير(الخوف ) الذى يصاحبه فى تصرفاته وتقلباته . وننتبع بعضها حسب سياقها الموضوعى :
خوفه أدى الى اندفاعه ووقوعه فى القتل الخطأ :
تدخل فى معركة انتصر فيها للمظلوم ضد الظالم ، فقتل الظالم خطأ دون قصد ، فاستغفر ربه وعزم ألاّ يكون مناصرا للمجرمين : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ) . والواضح هنا أن القتيل صاحب حيثية تعطيه الحق فى الدولة العسكرية البوليسية لفرعون أن يضرب من يشاء وأن يقتل من يريد ،( هذا ما يحدث الان من البوليس المصرى ) وكان هذا المعتدى الظالم على وشك أن يقتل شخصا مستضعفا من قوم موسى ، ورأى المسكين موسى فاستغاث به وهو يدفع عن نفسه القتل ، فتدخل موسى مندفعا فقتل المعتدى بوكزة واحدة..!
فى اليوم التالى دخل موسى المدينة خائفا يترقب يسترق السمع عن قتيل الأمس ، ويترقب احتمال الوصول اليه واتهامه بالقتل ، عندها تكرر نفس الموقف مع نفس الشخص المستضعف الذى طلب عون موسى فى معركة أخرى ، فانتهره موسى وهو يتدخل لنصرته متأهبا لضرب المعتدى ، ولا ريب أن هيئة موسى وهو يندفع الى المعركة كانت مخيفة ، فخاف المستضعف أن يستهدفه موسى لأن تدخل موسى فى المعركة اقترن بلومه لذلك المستضعف ، فخاف من هيئة موسى الغاضبة وقوته وهو يتهيأ للبطش بالمعتدى فظن أن موسى سيقتله فأسرع يفشى سر قتيل الأمس وان موسى هوالقاتل لذلك المصرى المتسلط : ( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ).
هنا نجا الظالم والمظلوم من القتل، وتجمهر الناس بلا شك ، وسمعوا ما قاله المستضعف عن قتل موسى للشخص المصرى بالأمس ، وانتشر الخبر ، وأحاط بموسى الخطر. وجاء رجل شهم من أقصى المدينة يحذر موسى من تآمر بالقتل على حياته يقوم به الملأ ، فهرب موسى الى مدين على حدود مصر الشرقية : (وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ ) (القصص 14 ـ 21 )
وانتهت القصة بلقائه الرجل الصالح الذى هدّأ من روعه وقال له ( لاتخف ) فقد كان خائفا حتى بعد هربه من مصر:(فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )(القصص 25 ). أى استكنّ فى داخله الخوف وسار به من مصر الى مدين، وتلك نتيجة لمعايشة الفتنة ،. وفيما بعد ، وحين التقى موسى بالفرعون اعترف موسى بأنه هرب خوفا :( فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ) ( الشعراء 21 )
خوف موسى من الآيات التى جرت على يديه :
ولم يفارق الخوف موسى حتى وهو يكلم ربه فى الوادى المقدس طوى فى طور سيناء، مع أن المفروض أن يشعر بالأمن ، ولكن رؤيته فجأة للآية التى أظهرها الله تعالى عليه جعلته يفر خوفا. ففى تصرف تلقائى حين رأى عصاه قد تحولت الى حية تزحف وتسعى ، ارتجف بالخوف فطمأنه ربه ، يقول تعالى : ( قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى َأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ) (طه 19 ـ ).
وفى سياق آخر تأتى تفاصيل الخوف ،إذ هرب فزعا دون أن يالتفت الى الخلف الى أن جاءه النداء من ربه ألا يخاف : ( وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) (القصص 31 ).أى طمأنه ربه وناداه بأن يرجع وألاّ يخاف وأنه من الآمنين .وفى سياق آخر :( وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) (النمل 10) أى لا يليق ولا يصح أن يخاف المرسلون وهم لدى رب العزة..!!
خوف موسى من لقاء فرعون
وفى نفس الموقف أمره ربه بأن يذهب رسولا الى الفرعون ، فأعلن موسى لله جل وعلا خوفه ، وأنه عندما يخاف يضيق صدره و يعجز عن الكلام لسانه ، وطلب أن يكون معه أخوه هارون رسولا :( وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ) (الشعراء 10 : 14 ) ، ( قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ )( القصص 33 : 34 ) وفى الآيتين تكرر الخوف مرتين : الخوف من التكذيب و الخوف من انتقامهم منه بالقتل .
خوف موسى وهارون من ملاقاة فرعون برغم الوعد الالهى بحمايتهما:
واستجاب له ربه بأن يكون معه أخوه هارون رسولا. أكثر من ذلك وعد الله جل وعلا موسى بأن بطش فرعون لن يصل اليهما ، واقترن هذا الوعد بحمايتهما بوعد آخر بنصرة من يتبعهما من المظلومين ، يقول تعالى (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ) ( القصص 35 ) . ومع ذلك الوعد فان الخوف انتقل من موسى الى اخيه هارون فأصبح الإثنان خائفين ..!!.
بعد هذا الوعد الالهى بالحماية أصبح هارون رسولا يكلم ربه مع موسى ، وجاءهما التكليف معا بلقاء فرعون ، فأعلنا معا خوفهما من لقاء فرعون وطغيانه وإفراطه فى البغى ( قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ) وطمأنهما ربهما ـ مرة أخرى ـ بأنه جل وعلا معهما بحمايته ، ولن يتركهما دون حماية ( قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) (طه 45 ـ )
خوف موسى من ألاعيب السحرة :
وكما خاف موسى من عصاه حين تحولت الى ثعبان يسعى فقد خاف أيضا حين رأى حبال وعصىّ السحرة وقد تحولت الى ما يشبه الثعابين ، وأدركه الوحى الالهى ينبهه ويطمئنه : (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى ) (طه 66 ـ ).
هذا حال موسى نفسه وهو الذى لم يتعرض لاضطهاد الفرعون بل عاش ونشأ فى حمايته ، ولكن انطبعت فى نفسيته آثار الاضطهاد الذى لحق بقومه فعاش يحملها فى قلبه ويتصرف على أساسها.
هل هذا الخوف ينقص من قدر موسى عليه السلام ؟:
كان موسى مظلوما وضحية للطغيان ، وجاء خوفه نتيجة لذلك ، شأن كل انسان يعيش نفس الظروف . فلم تكن أحواله الانسانية تلك نقيصة فيه كرسول من رسل الله تعالى العظام.على العكس فان ضعفه الانسانى هذا جعل قصته من أقرب القصص القرآنية الى القلوب.
لقد وصف الله جل وعلا رسوله موسى بما لم يصف به نبيا آخر. قال عنه ربه جل وعلا:(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا)(طه 51 : 53 ). موسى عليه السلام هنا موصوف بأنه كان (مُخْلَصًا ) بفتح اللام ، أى نقيا صافيا طاهرا . وكان مقربا من الله يناجيه ربه (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ). فهل هناك أعظم من ان يكون بشر من الناس قريبا ونجيا يناجيه ربه جل وعلا؟ ثم يستجيب له ربه فيجعل أخاه رسولا معه ..رحمة به من المهمة التى اوكلت له وهى مواجهة الطاغوت الفرعونى فى عقر داره.....
وقال عنه ربه جل وعلا وهو يناجيه ويحاوره لأول مره : ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ): لا يستطيع قلم بشرى أن يصور ما فى هذا القول من روعة ، خصوصا مع ما كان يتصف به موسى من سرعة الغضب والاندفاع فى مواجهة الظلم و الخطأ سواء صدر من عدوه أو من قومه. ثم يقول له ربه جل وعلا :( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ) ( طه 39 : 42 ) أى صاحبت رحمة الله جل وعلا موسى فى طفولته الى أن عاد الى مصر ليكون رسولا .. ويأتى قوله جل وعلا لموسى (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) لنقف أمامه عاجزين عن توضيح روعته فى تسجيل مقام موسى.
هذا المدح الالهى لموسى يقابله لعن الله تعالى لفرعون الذى أصبح إماما للطغاة ولقومه فى النار: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ )(هود 98 : 99 ) (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ) ( القصص 41 ـ )
( بنواسرائيل فى عصر موسى ):
1 ـ كان رد الفعل على بنى اسرائيل مساويا لقسوة الاضطهاد الفرعونى الذى بلغ درجة قوله تعالى لهم يمتن عليهم (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ )( البقرة 49 ). اضطهاد رهيب بلا شك ، ولكنه كان معتادا فى عصره ، ولو كان عصرنا يسمح بذلك لاستخدمه فرعون مصر الحالى مع أهل القرآن .
2 ـ السياق القرآنى يوضح أن الله جل وعلا قد نصر المظلوم على الظالم ليس لأن الطرف المظلوم كان مؤمنا خالص الايمان بالله تعالى وحده ، بل لأنه كان مظلوما مسالما ضعيف الجانب وقع تحت أفظع فتنة أو اضطهاد فى الدين استعمل فيه الفرعون كل قدرات جيشه.
لم تكن رسالة موسى لهداية فرعون لأنه يستحيل أن يهتدى من وصل الى مستوى فرعون فى الفساد والكفر العقيدى والسلوكى فى الأساس. كانت رسالة موسى لفرعون هى (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ )( الشعراء 17 )، ولم تكن الرسالة أيضا لهداية بنى اسرائيل بل لانقاذهم باعتبارهم مظلومين لا حيلة لهم، بل إن التخطيط الالهى من البداية هى الانتقام من فرعون بأن يجعل ضحاياه هم السبب فى القضاء على ملكه ، كما سبق بيانه فى بداية سورة القصص فى الحديث عن جنود فرعون.
عناصر القوة لدى فرعون واستغلالها فى فتنة بنى اسرائيل وقهرهم
وفى لقائه مع قومه بعد رجوعه نصح موسى قومه بالصبر ووعدهم بهلاك عدوهم وأن يرثوا الأرض من بعدها ، فاشتكوا له ما يعانونه من قهر الفرعون : (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) ( الأعراف 128 : 129 ).
ولكن استمر الاضطهاد الفرعونى ـ بدون ذبح الأبناء و استرقاق النساء ـ إذ اعتمد على سلاح الارهاب والتخويف ضد قوم قد تحطمت نفوسهم من طول القهر ، فقد زرع فرعون جواسيسه داخل بنى اسرائيل يراقبونهم ويحطمون اعصابهم . ونجحت الخطة فى حمل أكثريتهم على تجنب موسى خوفا ورعبا ، يقول جل وعلا (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ) (يونس 83 ).
هنا نتوقف مع كلمات (عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ) . وواضح ابتعادهم عن موسى بسبب خوفهم من فرعون ، ولكن غير المعروف والذى يحتاج الى تدبر هو كلمة (وَمَلَئِهِمْ ) فهى المرة الوحيدة فى القرآن الكريم التى تأتى فيها كلمة (الملأ) بالجمع لتكون (وَمَلَئِهِمْ ). وبايجاز فقد ارتبط فرعون موسى بملئه بنفس ارتباطه بجنده وقومه ، وهذا مفهوم فى حكم مركزى متسلط يقبض بيد من حديد على الشعب . وهذا يعنى فى موضوعنا شيئين :
الأول : هو تشعب هذا الملأ أفقيا ورأسيا ونوعيا ووظيفيا ليتفرع ويتدرج متحكما فى كل العمران المصرى من أصغر وأبعد قرية الى العاصمة ، ومن هنا جاء التعبير عن الملأ بالجمع فى الآية الكريمة (عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ) وعليه فقد كان من الملأ من تخصص فى ارهاب بنى اسرائيل وارعابهم . ونتذكر قصة موسى حين صرع أحد أولئك الملأ فى إحدى طرقات المدينة حين دخلها (على حين غفلة من أهلها) ،اى (الملأ )المتحكم فيها الذى يسيطر على كل شىء فيها ، وقد كان أحد هؤلاء (الملأ ) على وشك قتل أحد المستضعفين من قوم موسى ، فقتله موسى ، وقد عاهد ربه ألا يكون ظهيرا ومساعدا لأولئك الملأ الظالمين . لذا فان ذلك (الملأ ) عقد مجلسا للتآمر على قتل موسى، لأن قتل موسى لم يكن سهلا لأنه وثيق الصلة بالقصر الفرعونى ،اى ينتمى الى طبقة أرفع من ذلك الملأ الذى يعيش فى شوارع المدينة ويتحكم فيها طبق قانون الاستبداد الفرعونى..
المستفاد هنا أن كان من طوائف الملأ الفرعونى فى حوارى العاصمة جماعات تحترف الاستطالة على الناس ، وقد أعطاها الفرعون تلك السلطات ليفعلوا ما يشاءون ، وبمعنى آخر فقد كان فرعون موسى يحكم مصر بقانون (الطوارىء ) الذى يحكم به فرعون مصر الحالى ، الفارق الوحيد أن فرعون موسى لم يكن محتاجا للقول بأنه قانون طوارىء لأنه المعتاد وقتها. وفى ظل السلطة المطلقة التى اعطاها الفرعون للملأ كان من حق الملأ بكل انواعهم ودرجاتهم فعل ما يشاءون بنفس الحال الذى يستطيل فيه الآن على الشعب المصرى المسكين (ملأ ) مبارك من الشرطة العلنية و السرية (أمن الدولة ) وكلها لحماية (الدولة ) التى هى شخص الفرعون .
الثاني : لا بد لهذا الملأ المتشعب المتنوع المسيطر على العمران المصرى كله من وسائل اتصال مستمرة ومستقرة ، وهذا يتضح من إشارات قرآنية ، كقوله تعالى ٍيصف الرد الفعلى على معجزات موسى (قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ)( الشعراء 36 ـ ) أى إعطاء موسى مهلة لاستحضار السحرة من كل المدن المصرية، وتجميعهم وحشرهم وتسفيرهم الى العاصمة عند فرعون . وفى الميقات المعلوم الصادر به الأمر الفرعونى مقدما جىء بهم لمقابلة الفرعون. وفى نفس الوقت تسلل الجهاز الدعائى الى الجماهير يدعوهم لحضور المباراة يقول لهم بلهجة محايدة : لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين.
التدبر هنا يعطى صورة للتنظيم الرائع وتنوع المهام ووجود كشوف للسحرة بأمكنهم وأسمائهم ، ووسائل الاتصالات ووسائل المواصلات ، تم إنجاز كل ذلك بتناسق ليحقق للفرعون رغبته وفى الموعد المحدد فى موضوع طارىء لم يكن على بال احد من قبل.
هذا الملأ المتمكن من عمله تخصص فى ارعاب بنى اسرائيل فجعلهم يبتعدون عن موسى كما قال تعالى (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ) . أدرك موسى كل هذا ، كما أدرك أنه يستطيع التغلب عليه باستعمال قوة الضعف ،أى بالتوسل بالله جل وعلا طبقا لما فعله نوح عليه السلام لربه (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ)( القمر 10).
خطة موسى المضادة للخلاص من الاضطهاد والفتنة (قوة الضعف ) :
1 ـ دعا قومه الى التوكل على الله جل وعلا فليس لهم غيره، مع القيام بحملة دعاء وقنوت لله جل وعلا لرد أذى فرعون : ( وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (يونس 86). واستجاب الله جل وعلا لهم فأوحى الله تعالى لموسى وهارون بأن يلتزم بنو اسرائيل الصلاة فى بيوتهم بعيدا عن جواسيس الفرعون و مخبرى (أمن دولته ) : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) 0 يونس 87 ).
2 ـ وفى صلاتهما ظل موسى وهارون يدعوان الله جل وعلا أن ينتقم من فرعون ، كان موسى يدعو ، وهارون يؤمن على دعاه : (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ) ( يونس 88 ). واستجاب الله تعالى دعاء الأخوين (قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) ( يونس 89 ) وتحقق الدعاء وهلك فرعون وجنده وقومه غرقا (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ( يونس 90 ـ ) . ونجا الشعب المصرى المسكين الذى لاحسّ ولا خبر فى القصة .. غائب تماما فى الأحداث ..
(لماذا لا يقوم المقهورون المصريون والعرب بالدعاء جماعيا وفرديا على ظالميهم من المستبدين الفراعنة العرب؟؟)
إنتصار المستضعفين فى الأرض ووراثتهم ملك فرعون :
خرج فرعون يطارد بنى اسرائيل بكل ملئه وقومه وجنده واثقا من النصر ـ كما لو كان فى رحلة صيد ـ فغرق معهم فى البحر الحمر. أى خرج ولم يعد ، ولم يبق بعده فى مصر سوى طوائف الشعب المستعبد الذين وجدوا أنفسهم مرة واحدة أمام قصور الفرعون خاوية بلا حراسة فنهبوها ودمروا استراحاته ومجالس لهوه ولعبه ، وصارت مصر فى فوضى مكنت بنى اسرائيل ـ كمجموعات منظمة ـ من ان يرثوا ملك فرعون البائد ، بينما عجز المصريون عن التصرف بعد أن قام الفرعون بتجفيف منابع الحيوية فيهم حين تربوا على ثقافة العبيد والخنوع .
ورث بنو اسرائيل ملك فرعون ، وليس هذا مجرد استنتاج بل هو حقيقة تاريخية ذكرها القرآن الكريم ، يؤكدها عدم العثور على آثار لفرعون موسى ، ولولم تذكره التوراة و القرآن الكريم ما علم عنه أحد شيئا. يقول تعالى فى وراثة بنى اسرائيل لما تبقى فى مصر من كنوز (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ) (الأعراف 136 : 137 )، (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ )(الدخان 25 ـ ) (فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ )(الشعراء57 :ـ )
تسع آيات الاهية فى التعامل مع فرعون :
ونوجز الايات الالهية التسع التى عومل بها فرعون وشهدها بنواسرائيل فى عهد موسى. بعد شكوى بنى اسرائيل لموسى من الذى الذى حلّ بهم قبل وبعد مجيئه ، وبعد وصيته لهم بالصبر ووعده لهم بالنصر والاستخلاف إن كانوا متقين ،يقول تعالى إنه ابتلى فرعون وآله بمجاعات فلم يتعظوا ورفضوا أن يؤمنوا له ،أى أن يثقوا به ويطمئنوا له ( الأعراف 129 ـ 132 ). بعدها نزل بهم عذاب خاص بهم كآيات من رب العزة ، فغمرهم الطوفان ـ وحدهم ـ وتسلط عليهم الجراد والقمل و الضفادع فى مخادعهم ومأكلهم ومشربهم ، وأصبح الماء يتحول الى دم عندما يطلبونه ، فازدادوا عنادا واستكبارا . فسلط عليهم الله تعالى الدمامل والقيح فاستغاثوا بموسى ووعدوه باطلاق سرح بنى اسرائيل لو كشف الله تعالى عنهم هذا الوباء ، فلما انكشف عنهم نكثوا وعدهم ، فكانت نهايتهم بالغرق. يقول تعالى (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ )(الأعراف 133 ـ ).
ورأى بنو اسرائيل بأعينهم البحر وهو يبتلع فرعون وآله:( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُون )( البقرة 50 ). ولم يلبث جسد الفرعون أن طفا ظاهرا لبنى اسرائيل ليكون لهم آية ، تؤكد وتكمل لهم آية هلاكه ، وهذا ما قيل لفرعون لحظة غرقه حين أعلن اسلامه وهو يصارع الموت : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) ( يونس 92 ). ولو تذكرنا آية العصا (التى تحولت الى ثعبان والتى كان يضرب بها الأرض فتنفجر عيونا) و يده التى تخرج بيضاء من غير سوء فان عدد الآيات يصبح تسعا : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) (الاسراء 101 )
حال بنى اسرائيل مع موسى بعد هلاك فرعون
1 ـ لم يكن بنو اسرائيل مؤمنين عقيديا حق الايمان ،إذ أنه بعد كل ما رأوه من آيات ، وبعد إنقاذهم من فرعون و عبورهم للجانب الآخر من سيناء وجدوا فى طريقهم معبدا فرعونيا فأخذهم الحنين الى ما توارثوه من تقديس الأحجار والأولياء والآلهة ، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم الاها ، ورد عليهم موسى مؤنبا وواعظا وزاجرا ، يقول تعالى (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ) ( الأعراف 138 ـ )
2 ـ وترادفت النعم على بنى اسرائيل بعد هلاك فرعون فلم يشكروها ، بل اتخذ بعضهم عجل أبيس الفرعونى يعبدونه ضمن جملة من العصيان و النكران ، تعرضوا بسببها لعقوبات الاهية ، وفى سور( البقرة 49 : 65 ).و( الاعراف 141 :162 ) و( طه 80 : 99 )تفصيل لذلك يؤكد أنهم كانوا جيلا قد تشرب ثقافة العبيد وتقديس البشر والحجر طبقا لما تعلمه فى مصر .
3 ـ وكانت النهاية أن طلب منهم موسى برفق أن يدخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله تعالى لهم ، وقد جعلهم ملوكا ، وأرسل فيهم الأنبياء وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، فرفضوا ، فألح عليهم فازدادوا رفضا ،إذ تعودوا على أن يأتيهم كل شىء دون مجهود حتى المن والسلوى ، ثم لا يشكرون . يقول تعالى : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ)...( قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)
يأس منهم موسى فدعا عليهم ـ كما دعا على آل فرعون من قبل ( قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) فاستجاب له ربه (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) ( المائدة 26 : ) . أى انتهى هذا الجيل ، تاه أربعين عاما فى الصحراء الى أن فنى ومات ، ليأتى بعده جيل آخر لم تلوثه ثقافة العبيد .
أخيرا :
1 ـ لم يستحق بنو اسرائيل كل هذه النعم لايمانهم القلبى ولكن لأنهم ضحايا مظلومون ، وقد كفر بعضهم بالنعم فعوقبوا ، وكوفى الصابرون الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون . وفى عصر الايات الحسية أو المعجزات الحسية جاء التدخل الالهى لينصرهم على فرعون ، وليرعاهم ، فلم يقدروا الله جل وعلا حق قدره ، إذ تغلغلت فيهم ثقافة العبيد التى رباهم عليها الفرعون فلم يعد فيهم أمل . وذلك هو الدرس الذى نخرج به من تاريخنا المصرى الذى حكاه رب العزة فى القرآن الكريم ،فان الله جل وعلا لم يكرر قصة موسى وفرعون بنى اسرائيل عبثأ ، وهى أكثر ما تكرر فى القرآن الكريم. التكرار كى نتعلم. ولم نتعلم بدليل تعاقب الفراعنة الذين ساروا على (دأب ) فرعون موسى . وحتى بعد أن اجتاحت العالم ثقافة الديمقراطية وحقوق الانسان التى بشّر بها القرآن منذ 14 قرنا فلا زلنا نتمتع بفراعنة يقلدون فرعون موسى ، ومثله يستغلون جيش الشعب فى قهر الشعب ، ويعيشون مع ملئهم فى عزلة عن الشعب يمتصون دماءه وحيويته .
2 ـ من أجل هذا سنظل نجاهد ضد ثقافة العبيد أملا فى إنقاذ هذا الجيل المصرى الراهن من حرب أهلية تفنيه . وهنا نستفيد من منهج القرآن وكيف عالج ثقافة العبيد التى تفشت لدى المستضعفين ضحايا الكفر السلوكى القرشى فى عهد خاتم النبيين . وكيف اختلفت النتائج بين قوم موسى وقوم محمد عليهما السلام .
موعدنا فى المقال القادم بعونه جل وعلا..
اجمالي القراءات
24237
بارك اللة فيك وفي اهلك وفي دنياك وفي اخرتك على هذا المقالة الرائعة التي هي وردة جميلة جدا من الحديقتك الحديقة العلم التي من دخلها لايشبع من روائحها الزكية والوانها الزاهية التي هي دليل على روعة العقل الذي نسق الحديقة بكل جوانبها..ونصر حليف المؤمنين الصابرين في كل قصة من قصص القران..(نصر من اللة وفتح قريب).