شريعة الله وشريعة البشر
بسم اله الرحمن الرحيم
د. أحمد صبحى منصور
شريعة الله جل وعلا وشريعة البشر
1 ـ عاش الإمام الشافعي في العراق وأسس مذهبه الفقهي ، ثم جاء إلي مصر واستقر في الفسطاط قبل إنشاء القاهرة بنحو قرن ونصف قرن من الزمان ، وحين عاش بمصر أسس مذهبه الفقهي الجديد تبعا لاختلاف الأحوال في الزمن الواحد بين مصر والعراق .
ومع ذلك فإن التيار الديني السياسي يريد أن يطبق الفقه الشافعي ــ وغيره ــ في حياتنا ونحن فى القرن الحادي والعشرين .مع أن الشافعي نفسه ـ وهو الإمام المجتهد ــ لو خرج من قبره وسار في شوارع القاهرة الآن لمات ثانيا من الدهشة وتغير الأحوال!!
2 ـ إن الفتاوى الفقهية هي أشد أمور التدين التصاقا بالواقع الحياتي لكل أمة. ولذلك فإن الشافعي في مذهبه العراقي غير الشافعي في مذهبه المصري .
إن الأساس في اختلاف المذاهب الفقهية يرجع إلي الاختلاف في شخصيات الأئمة وظروفهم الاجتماعية والنفسية ، وعلي سبيل المثال فإن الإمام مالك في مذهبه هو أكبر تعبير عن ظروف المدينة المنورة في القرن الثاني الهجري، فالإمام مالك انفرد بين الأئمة باعتبار عمل أهل المدينة من مصادر التشريع عنده ، وكان التكثيف في المذهب المالكي علي الأحاديث حتى لو كانت ضعيفة أو متناقضة ، ولاعجب أن يخلو كتاب الموطأ للإمام مالك من أي آية قرآنية ، وفي نفس الوقت تراه قد سجل أحاديث نسبها ليس للنبى بل للصحابة والتابعين من أهل المدينة معتبرا ما قالوه من مصادر الدين عنده .
وذلك الاحتفال بأهل المدينة في كتاب الموطأ يعبر عن الروح السائدة لمجتمع المدينة في القرن الثاني الهجري ، حيث انحسرت عنها الأضواء إلي العواصم الجديدة في دمشق والفسطاط والكوفة والبصرة وبغداد فأصبحت تعيش علي المجد القديم الذي كان لها في عصر النبي محمد عليه السلام والصحابة ، ولهذا تخصصت في علم المغازي أو غزوات الرسول وتاريخ الخلفاء الراشدين لأنه في الحقيقة تاريخها الشخصي ، ثم برز ذلك في الفقه المالكي فأصبح ترجمة وانعكاسا لأحوال أهل المدينة النفسية والتاريخية والاجتماعية .
3 ـ هذا في الوقت الذي كان فيه أبو حنيفة في مذهبه الفقهي تعبيرا عن مجتمع العراق المفتوح المتعدد الثقافات والأجناس ، لذلك تطرف الفقه الحنفي في الاجتهاد إلي درجة التحايل علي النصوص فيما يعرف بفقه الحيل . فقه الحيل أو التحايل على الحكام الشرعية أوجد رد فعل مناقضا في ظهور مذهب فقهي جديد يعادي ذلك التطرف بتطرف عكسي وهو المذهب الحنبلي والمذهب الظاهري ، وكلاهما ـ مع بعض الاختلاف ـ يتمسك بالنصوص ويلتزم بها ويعلي من شأن أقاويل السلف والأحاديث .
4 ـ وفي الأندلس في عصر ملوك الطوائف كان حول كل ملك طائفة من الفقهاء تفتي له بما يريد وتتفنن له في فقه الحيل مما حدا بابن حزم الى االثورة عليهم وإقامة المذهب الظاهري في الفقه الذي يتشدد في الوقوف مع النص ضد محاولات التأويل والتعطيل..
5 ـ وهكذا كان الفقه في عصور الأئمة معبرا عن الظروف التي عاش فيها صاحب المذهب الفقهي. ومن الطبيعي أن يحاول كل مذهب تأييد آرائه بالأدلة والأحاديث . وفي النهاية فالاختلاف قائم لأنه اختلاف يقوم علي أساس الظروف الاجتماعية والمحلية والشخصية ، وذلك كله تطور طبيعي في مسيرة المجتمعات البشرية وفي التاريخ الديني للأديان الأرضية التى يملكها اصحابها وتعبر عنهم .
6 ـ وهنا يبرز الفارق بين الدين السماوى والدين الأرضى ،
فالدين السماوى نزلت فيه الكتب و الشرائع السماوية ، واختتمت بالقرآن العظيم . وكلا نبى له كتاب واحد وحيد ، لم يقل أى نبى أو رسول من رسل الله إن معه كتاب وسنة ، بل هو كتاب واحد يستمسك به ذلك النبى ويعانى من أجله هو والمؤمنون معه، ثم تتغير الأحوال فيما بعد ، ويأتى من يقيم أديانا أرضية على أنقاض الدين الالهى بزعم الوحى الالهى ، وفى هذه الأديان الأرضية يتحول فيها النبى ومن حوله الى آلهة ، ويستلزم الأمر مبعث نبى جديد يصحح المسيرة ويكرر نفس ما قيل قبل ذلك فى الرسالات السماوية ، ويموت النبى وتتكرر نفس القصة ، الى أن جاء خاتم الأنبياء بالقرآن المحفوظ حجة على الناس الى قيام الساعة.
ولكن تكررت نفس القصة وأنشأ المسلمون أدينا أرضية من سنة الى تشيع وتصوف ، بل وأصبح لكل دين أرضى شريعته التى تعبر ليس فقط عن أصحاب ذلك الدين وأئمته بل أيضا تعبر عن شخصية كل إمام ومستواه العقلى وظروفه الاجتماعية والجغرافية ، ولذلك يقعون فى الخلاف بين كل دين أرضى وآخر ، بل داخل كل دين أرضى بمذاهبه وطوائفه و فرقه وتياراته. ويظل كل دين أرضى مفتوحا على مصراعية دون اكتمال يقبل التغيير وتكوين مذاهب جديدة أو إنفصال مذهب عن أصله واستقلاله بدين جديد.
7 ـ الكتاب السماوي ينزل من السماء لإصلاح أهل الأرض ولا يكون بالتالي متأثرا بظروف أهل الأرض ولكن يبغي السمو بهم والتأثير فيهم.
أما الدين الأرضى فهو الذى يعكس ملامح أصحابه ، ولأنه يريد استغلال الدين الالهى واسمه وكتابه السماوى فان أئمة الدين الأرضى يتجهون الى الكتاب السماوي بهدف تشكيله حسب ظروفهم وأهوائهم ، بالاضافة اليه ( مثل صناعة الأحاديث الكاذبة ) أو الحذف ( مثل اسطورة النسخ ) والتحريف (مثل قولهم القرآن حمال أوجه ، والتفسير و التأويل ) وبتلك الوسائل كلها تقام شرائع الدين الأرضى .
هذا مع أن الله تعالى أنزل خاتمة الرسالات السماوية قرآنا منزها عن التحريف حتى لا يستطيع أصحاب الأديان الأرضية تغييره، وتخيل لو أوكل الله تعالى للأزهر حفظ القرآن لما وجدنا معنا سوى أساطير البخارى و الشافعى والغزالى و الشعرانى .
8 ـ كان النبي محمد عليه السلام مستمسكا بالقرآن حتى اعترفوا هم بأنه كان خلقه القرآن ، وكانت سنته هي التطبيق التام لأحكام القرآن وفق المتاح من ظروف عصره . ثم حدثت فجوة بين أحكام القرآن وأهواء الناس واحتاجت تلك الفجوة إلي مسوغ تشريعي فقامت الأديان الأرضية بهذا الدور ، ولا تزال . وقام كل دين منها بكتابة الصيغة القانونية التشريعية المعبرة عن ثقافة وقتها ، ومن الطبيعي أن تختلف الروشتة التشريعية من مذهب إلي آخر ، بل من شيخ إلي آخر ..
وأخيرا ، ومن بين أحضان الدين السنى ظهر التيار الديني في عصرنا ينادي بتطبيق الشريعة السنية التى تم تأليفها فى العصور الوسطى على أساس الاختلاف. إن العبارة الذهبية فى ذلك الفقه السنى التى تعلمناها فى الأزهر :كلمة ( إختلف فيه العلماء ) ولقد أختلفوا فى كل شىء ، ولم يتفقوا إلا على الاختلاف ، بل ان الكتاب الواحد تجده يتناقض فى الصفحة الواحدة بأحاديث متناقضة أو فتاوى وأحكام فقهية متعارضة .
ماذا يفعل الاخوان المسلمون بكل هذا التشريع الفقهى (الذى يحمل اسم الاسلام زورا وبهتانا ) والذى يعبر عن عصره وأئمته و يتناقض مع بعضه ؟ هل قاموا بتجديده و استخلاص صورة عصرية منه؟ لا يستطيعون . ولو اقتربوا منه ، وكانت لهم الأهلية العلمية ـ لوقعوا فى اختلاف فقهى وعقيدى ينتهى بهم الى انقسام سياسى وتكفير بعضهم بعضا. لذلك فالأفضل لهم أن يرفعوا فقط الشعار ؛ شعار تطبيق الشريعة ، المفهوم ضمنا أنها شريعة الاسلام ، ولكن الحقيقى أنها شريعة وهمية هلامية مفترضة ، ولكنها لن تخرج عن شرائع العصور الوسطى من الشافعي الى أبن حنبل الى ابن تيمية الحنبلي . شريعة الثعبان الأقرع و قتل المرتد وأخذ الجزية من أهل الذمة و الرجم و قتل تارك الصلاة ، و ضرورة تعبئة المراة فى النقاب ، وحق الخليفة فى قتل ثلث الرعية لاصلاح حال الثلثين .!!
ولقد عاش المسلمون تلك العصور ومعهم تلك الوصفات التشريعية التي سوغت الظلم واستبداد الحكام فازدادوا بها خسارة فى الدنيا والآخرة .
وذلك بالضبط ما يريده بنا الاخوان المسلمون ؛ يريدون إحياء تلك الوصفات التشريعية السامة وتطبيقها علينا فى عصر الحرية و الديمقراطية وحقوق الانسان وحقوق المواطنة ..
اجمالي القراءات
19371
أخي العزيز الدكتور أحمد شكرا على هذه اللمحة التاريخية، ألم يكن الإسلام في عهد نزول الوحي القرآني دينا لائكاي؟ بعبارة أخرى ألم يكن من بني إسرائيل حواريون ويهود ومشركون ومنافقون يعيش المسالمون منهم في أمان في عهد الرسول عليه السلام، لقد أمره الله أن يقاتل الذين يقاتلونه ولا يعتدي، ونهاه الله أن يقاتل الذين أسلموا ولم يقاتلوه.
يقول تعالى:
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(190). البقرة.
فمن أي شرعة جاؤوا بما تفضلتم به: شريعة الثعبان الأقرع و قتل المرتد وأخذ الجزية من أهل الذمة و الرجم و قتل تارك الصلاة ، و ضرورة تعبئة المرأة في النقاب ، وحق الخليفة في قتل ثلث الرعية لإصلاح حال الثلثين .!! .أهـ.
وأزيد لكم بعض التشريعات الأرضية منها على سبيل المثال فقط ما يلي: رمي الجمرات ظنا منهم أنهم يرجمون الشيطان الذي يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونهم، ونحر أضحية العيد واشترطوا لها شروطا قل ما تسلم منها دابة، والأخطر من هذا كله ترغيب النساء بما فيهن الحائضات حضور صلاة العيد، بينما ولوا ظهورهم لأمر الله المؤمنين السعي إلى ذكر الله من يوم الجمعة.
ألا تتناقض تشريعاتهم مع شرع الله؟ حيث يقول سبحانه:
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(20).آل عمران.
مع أخلص تحياتي لكم وللقراء الكرام.