الشفاعة وتطبيق الشريعة الحنبلية :
القصص من وسائل تطبيق الشريعة الحنبلية ب 5 ف 5

آحمد صبحي منصور Ýí 2013-12-10


 النبى لا يشفع يوم الدين :( كتاب الشفاعة بين الاسلام والمسلمين )

الباب الخامس : الشفاعة وتطبيق الشريعة الحنبلية                          

الفصل الخامس : القصص من وسائل تطبيق الشريعة الحنبلية

المزيد مثل هذا المقال :

 أولا : عقول العوام الحنبلية مستمعى القصص فى العصر العباسى الثانى

1 ـ نفترض عزيزى القارىء إنك حضرت خطبة جمعة فى مسجد ، وملأ الخطيب خطبته بالمنامات والأحاديث ورأيت الناس يضجون بالبكاء تأثرا بكلامه ، قد ترى هذا شيئا طبيعيا . لو حضرت فى الجمعة التالية وسمعت نفس الخطبة من نفس الخطيب ورأيت نفس الناس يضجون بالبكاء لا بد أنك ستندهش. لو حضرت الجمعة الثالثة وسمعت نفس الخطبة من نفس الخطيب ورأيت نفس الناس يضجون بالبكاء لا بد أنك ستتعجّب الى درجة الخوف  . لو حضرت الجمعة التالية وسمعت نفس الخطيب ونفس الخطبة ورأيت نفس الناس يضجون بالبكاء لا بد أنك ستولى منهم فرارا وتزداد رعبا  . لو غلبك الفضول وذهبت الى هناك فسمعت نفس الخطيب يقول نفس الخطبة ونفس الناس تضج بالبكاء فستقسم بالطلاق أنه ليس مسجدا ،  بل مستشفى للمجانين !.

 لو عرفت ـ عزيزى القارىء ـ أن هناك خطيبا مشهورا فى العصر العباسى الثانى ظل أكثر من ثلاثين عاما يقول نفس الخطبة لا يغيرها كل صلاة جمعة فى أكبر مسجد فى بغداد ، وفى كل مرة يضج الناس بالبكاء ، لا بد أنك ستتفق معى فى أن العصر العباسى الثانى قد حوّله الحنابلة الى مستشفى ضخم للأمراض العقلية . يقول ابن الجوزى فى ترجمة أحد أمراء البيت العباسى ( أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله ) المتوفى عام 418 :( خطب في جامع المنصور في سنة ست وثمانين وثلثمائة ، وكان يخطب خطبة واحدة كل جمعة لا يغيرها ، وإذا سمعها منه الناس ضجوا بالبكاء وخشعوا لصوته ‏.). هنا جماهير من العوام تتجاوب مع الخطيب بالبكاء دون فهم لما ينطق به صوت الخطيب . وتتكرر نفس الخطبة لمن لا يسمع ولا يعقل ، وتتكرر الاستجابة بالعويل والصراخ . هذا يذكرنا بحفلات التغنى بالقرآن الكريم بصوت ( مُقرىء أو مُنشد ) والعوام يهللون إعجابا . لم يسمعوا القرآن ولم يتدبروا قول الله جل وعلا ، ولكن سمعوا صوت المُغنّى . هو نفس الغياب عن الوعى فى عصرنا.

2 ـ ولكن كانت الحالة مرضا مستشريا فى العصر العباسى الثانى حيث تسيدت بالحنبلية عقلية العوام ، على فرض أن لهم عقلا . الواقع أنه لم يكن لديهم سوى عاطفة جامحة عاتية ، يتجلى خطرها حين تتسلح بأساطير الشفاعة وبحديث تغيير المنكر وتواجه بهما من تعتبرهم ( كفارا ) يجب التخلص منهم كالمعتزلة والشيعة . ثم يكون هذا الخطر ساحقا ماحقا حين يتم شحنهم يوميا خلال خطب الجمعة ومجالس القصص التى حلّت فى العصر العباسى الثانى محلّ مجالس العلم ، فأصبحت هى المدارس الشعبية التى يتعلم فيها العوام بالمنامات والأحاديث دين الحنبلية بكل ما يعنيه من إرهاب وإنحلال . وهنا نسجد إيمانا لعظمة القرآن الكريم حين ينطبق على العصر العباسى الثانى ( وعصرنا) وصف رب العزة جل وعلا للمشركين مخترعى ومتبعى الأحاديث الشيطانية: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى  إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)( الأنعام )

3 ـ لسنا هنا أمام عوام خاملين بل نشطاء ، وأحيانا مُسلحين. يقول ابن الجوزى فى حوادث عام 456 ( فمن الحوادث فيها أنه لما أفسدت الأعاريب في سواد بغداد وأطرافها حملت العوام السلاح لقتالهم وكان ذلك سببًا إلى كثرة العيارين وانتشارهم في محرم هذه السنة‏.‏). نرى هنا ابن الجوزى يصف العوام المسلحين بالعيّارين ، أو قُطّاع الطُّرق لأنهم كانوا مسلحين . هذا بينما يصفهم بالحنابلة حين كانوا يهاجمون الشيعة فى محل إقامتهم بالكرخ.

ويقول فى أحداث شهر شوال عام  329 ‏:‏( اجتمعت العامة في جامع دار السلطان وتظلمت من الديلم ونزولهم في دورهم بغير أجرة وتعديهم عليهم في معاملاتهم ، فلم يقع إنكار لذلك ، فمنعت العامة الإمام من الصلاة.) . الديلم كانوا فى بداية سيطرتهم على الخلافة العباسية وبغداد وقتها ، وكانوا شيعة لا يحبون العوام الحنابلة ولا يحبهم العوام الحنابلة . لذا تعدّى الديلم على العوام ، فاستغاث العوام بالخلافة العاجزة فلم تستطع الخلافة إنكار ما يحدث فقام العوام بمنع الامام من الصلاة فى المسجد . 

4 ـ عقلية العوام لم تقتصر على دعاتهم وفقهائهم القائمين بالقصص بل كانت تشمل أيضا  الخلفاء خصوصا من كان منهم متدينا ، لأنه كان يتدين بالحنبلية الدين الأرضى السائد ، ومنهم الخليفة ( المتّقى ) الذى تولى الخلافة عام 329 ، وحدث وقتها بلاء فاستغاث بالعوام يحضّهم على الخروج للإستسقاء بزعم رؤيا منامية رأتها إمرأة صالحة،يقول ابن الجوزى: ( ووقع الموت في المواشي والعلل في الناس وكثرت الحمى ووجع المفاصل ، ودام الغلاء حتى تكشف المتجملون ( أى إفتقر المستورون ) وهلك الفقراء ، واحتاج الناس إلى الاستسقاء، فرئي منام عجيب‏... نادى منادي المتقي بالله في الأسواق : أن أمير المؤمنين يقول لكم معشر رعيته أن امرأة صالحة رأت النبي صلى الله عليه وسلم في منامها فشكت احتباس القطر فقال لها‏:‏ قولي للناس يخرجون في يوم الثلاثاء الأدنى ويستسقون ويدعون الله فإنه يسقيهم في يومهم وأن أمير المؤمنين يأمركم معاشر المسلمين بالخروج في يوم الثلاثاء كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تدعوا وتستسقوا بإصلاح من نياتكم وإقلاع من ذنوبكم‏. ). وبمجرد النداء تجمهرت جموع العوام يقودهم ( العلماء والفقهاء ) بتعبير العصر وقتها ، فقد كانوا القادة الشعبيين للعوام ، والذين يتحكمون فى مشاعر ( وليس عقول العوام ) من خلال مجالس القصص ، ويملأونها بالخرافات والمنامات والأحاديث الكاذبة . وكلما أوغل القصّاص فى أكاذيب الخرافات صار أكثر جاذبية وشهرة بين العوام .

‏5 ـ وبنفس القدر كان نفورهم من المناظرات العقلية والأسئلة التى تكون مُحرجة لهم حتى فى ( الحديث ) مجال تخصصهم . فى العصر العباسى الأول تعرض أبوهريرة للنقد والاتهام بالكذب دون تحرّج ، ولكن سيطرة الحنبلية وثقافة العوام حرّمت التعرض لأبى هريرة بالنقد . وصاغوا ذلك فى اساطير . روى منها ابن الجوزى هذه عبر سلسلة من العنعنات والاسناد: ( ‏أنبأنا أبو المعمر الأنصاري قال‏:‏ سمعـت أبـا القاسـم يوسـف بـن علـي الزنجانـي يقـول سمعـت شيخنـا أبـا إسحـاق بن علي ابن الفيروز اباذي يقول‏:‏ سمعت القاضي أبا الطيب يقول‏:‏ كنا في حلقة النظر بجامع المنصور فجاء شاب خراساني فسأل مسألة المصراة وطالب بالدليل فاحتج المستـدل بحديث أبي هريرة الوارد فيها فقال الشاب وكان خبيثًا‏:‏ أبو هريرة غير مقبول الحديث. قـال القاضـي‏:‏ فمـا استتـم كلامـه حتى سقطت عليه حيّة عظيمة من سقف الجامع فوثب الناس من أجلها ،وهرب الشاب من يدها ، فلم ير لها أثر‏.‏) ( المنتظم 17 / 106 عام 500 ). واضح هنا أن هذه الحيّة العظيمة تقف بالمرصاد لكل من يجرؤ على إنتقاد أبى هريرة مثل هذا الشاب الذى ( كان خبيثا ) ولا نعرف له إسما ولا وصفا غير ذلك ، ثم تنتهى الاسطورة بغيابه بلا أثر، ثم أيضا غابت أيضا بلا أثر تلك (الحيّة العظيمة ) . ولأن حنتبلة عصرنا أعادوا تقديس أبى هريرة فقد عادت نفس ( الحية العظيمة ) تقبع فى أعماق القلوب الوهابية تحمى قداسة أبى هريرة من أن يمسها نقد . العقل الواعى يسخر من هذه الاسطورة ، أما عقلية العوام فهى تهلل وتكبّر ..ولا تزال ..حتى الآن تكبّر وتهلل شأن المشركين الذين قال فيهم رب العزة جل وعلا : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)( البقرة ).

‏ ثانيا : أكاذيب القصاص

1 ـ كان ابن الجوزى ينقم على منافسيه من القصّاصين الوعاظ الذين كانوا أقل منه علما ولكن كانوا أكثر منه فى مضمار الكذب ، فانتقم منهم وفضحهم فى تاريخه ( المنتظم ) وشهّر بهم . يقول فى ترجمة (ابن الخفاف ت 418)( وكان غير ثقة لا شك أنه كان يركب الأحاديث ويضعها على من يرويها عنه ، ويختلق أسماء وأنسابًا عجيبة ، وعندي عنه من تلك الأباطيل أشياء . وكنت عرضت بعضها على هبة الله بن الحسن الطبري فخرق كتابي بها ، وجعل يعجب مني كيف أسمع منه . )‏. هنا أحد محترفى القصص الذى يفترى الأحاديث فى مجلسه ، وينقل عنه الناس ، وكان ابن الجوزى نفسه ممّن ينقل عنه ما وصفه بالأباطيل، وهذا أثار عجب هبة الله الطبرى حسبما يروى ابن الجوزى .

ويقول فى ترجمة ‏( أبو الفتح الخزيمي ت 514 ) إنه ( دخل بغداد سنة تسع وخمسمائة فحدث عن أبي القاسم القشيري وجماعة من نظرائه ووعظ ، وكان مليح الإيراد حلو المنطق. ) أى إنه جاء وافدا الى بغداد حيث كان يعيش ويتعيّش ابن الجوزى فكان لابن الجوزى منافسا بسبب أنه كان ( مليح الايراد حلو المنطق )، لهذا هاجمه ابن الجوزى ، يقول عنه : ( ورأيت من مجالسه أشياء قد علقت عنه فيها كلمات ولكـن أكثرها ليس بشيء، فيها أحاديث موضوعة وهذيانات فارغة يطول ذكرها‏. فكان مما قال‏:‏ إنه روى فـي الحديـث المعـروف أن رسـول اللّـه صلـى اللـه عليـه وسلـم تزوج امرأة فرأى بكشحها بياضًا فقـال‏:‏ الحقـي بأهلـك فـزاد فيـه‏:‏فهبط جبريل وقال‏:‏ العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول لك بنقطة واحدة من العيب ترد عقد النكاح ونحن بعيوب كثير لا نفسخ عقد الإيمان مع أمتك ، لك نسوة تمسكهن لإجلك ، أمسك هذه لأجلي‏. ) ويعلّق ابن الجوزى : ( ‏قـال المصنـف‏:‏ وهـذا كـذب فاحـش علـى اللـهّ تعالى وعلى جبريل فإنه لم يوح إليه شيء من هذا ولا عوتب في فراقها ، فالعجب من نفاق مثل هذا الكاذب في بغداد ولكن على السفساف والجهال‏.)،هنا يصب ابن الجوزى نقمته على العوام المستمعين أيضا فيصفهم بالسفاسف الجهلاء .ويقول عن أقرانه من القصّاصين : (‏ وكذلك مجالس أبـي الفتـوح الغزالـي ومجالـس ابـن العبـادي ، فيهـا العجائـب والمنقولات المتخرصة والمعاني التي لا توافق الشريعة . ) ثم يوسّع ابن الجوزى دائرة الهجوم لتشمل غيره من أكثرية القصاص ، فيقول : ( وهذه المحنة تعم أكثر القصاص بل كلهم لبعدهم عن معرفة الصحيح ، ثم لاختيارهم ما ينفق على العوام كيف ما اتفق‏.) وفى العبارة الأخيرة نفهم أن أولئك القصّاص كانوا يبالغون فى الكذب والخرافات لارضاء نهم العوام وغرامهم بالخرافات واكاذيب الغيبيات .

وبعض المتهمين بالكذب برّأهم ابن الجوزى، مثل ( أبو الكرم النحوي سمع الحديث من أبي الطيب الطبري والجوهري وغيرهما‏.) قال عنه ( ..غير أن مشايخنا جرّحوه . كان شيخنا أبو الفضل ابن ناصر سيء الرأي فيـه يرميـه بالكـذب والتزوير، وكان يدعي سماع ما لم يسمعه‏.)، ويبدو هنا أن ابن الجوزى لا يوافق على هذا . ولكن ابن الجوزى يدافع بصراحة عن أحد المتهمين بالكذب ، وهو (ابن الحمامي ) الذى ( ولد فـي ربيـع الأول سنـة احـدى عشـرة وأربعمائـة، ) وقد وصفه بأنه ( كان مكثرًا صالحًا أمينًا صدوقًا متيقظًا صحيح الأصول صينًا ورعًا حسن السمت كثيـر الصلاة سمـع الكثيـر ونسخ بخطه ومتعة اللّه بما سمع حتى انتشرت عنه الرواية‏. حدثنا عنه أشياخنا وكلهم أثنوا عليه ثناءً حسنًا وشهدوا له بالصدق والأمانة مثل عبد الوهاب وابن ناصر وغيرهمـا وذكرعن المؤتمن أنه كان يرميه بالكذب وهذا شيء ما وافقه فيه أحد‏.‏) .

2 ـ وراج حال القصاصين أكثر فى مكة والمدينة ، وإسترزق بهذه المهنة كثيرون ، إحترفوا المبالغة فى الخرافات ليجتمع حولهم المزيد من المستمعين من الحجّاج وزائرى المدينة وينالوا أعطياتهم . نفهم هذا مما رواه ابن الجوزى فى ( المنتظم وفيات 348 ) وهو يصف أبا بكر الآدمي (القارئ الشاهد صاحب الألحان‏) الذى:( ‏كان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن)، ويروى إنّه إستخدم حُسن صوته ليصرف الناس عن حضور أحد القصّاصين الذى بالغ فى خرافاته فى حلقة عقدها فى مسجد المدينة. يقول أحدهم: (حججت في بعض السنين وحج في تلك السنة أبو القاسم البغوي وأبو بكر الآدمي القارئ، فلما صرنا بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم جاءني أبو القاسم البغوي فقال لي‏:‏ "يا أبا بكر ها هنا رجل ضرير قد جمع حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعد يقص ويروي الكذب من الأحاديث الموضوعة والأخبار المفتعلة فإني رأيت أن تمضي بنا إليه لننكر عليه ونمنعه. " فقلت له‏:‏ " يا أبا القاسم إن كلامنا ها هنا لا يؤثر مع هذا الجمع الكثير والخلق العظيم ، ولسنا ببغداد فيُعرف لنا موضعنا . ولكن ها هنا أمر آخر هو الصواب" فاقبلت على أبي بكر الآدمي فقلت له‏:‏ "استعذ بالله واقرأ." فما هو إلا أن ابتدأ بالقراءة حتى انجفلت الحلقة ، وانفض الناس جميعًا ، فأحاطوا بنا يسمعون قراءة أبي بكر الآدمي ، وتركوا الضرير وحده فسمعته يقول لقائده‏:‏ "خذ بيدي هكذا تزول النعم‏."). هنا رجل إعتاد الاسترزاق من القصص بمسجد المدينة ، وكان يتكسب الكثير بسبب إنجذاب الناس لمبالغاته فى الكذب فى الأحاديث والقصص . وهكذا ( زالت النعم ) عن هذا الكذاب الضرير.!

3 ـ ولم تتدخل السُّلطة لردع أولئك القصاصين مهما بلغ كذبهم . كانت تتدخل فقط إذا إستخدموا القصص فى إثارة الفتن بما يهدد الأمن ، يقول ابن الجوزى فى حوادث عام 473 :(فمن الحوادث فيها‏:‏ أنـه جميـع الوعـاظ فـي جمـادى الآخـرة في الديوان أذن لهم في معاودة الجلوس ، وقد كانوا منعوا من ذلك منذ فتنة القشيرى . وتقدم إليهم أن لا يخلطوا وعظهم بذكر شيء من الأصول والمذاهب‏.).

4 ـ وللرد على أكاذيب القصاصين فى الحديث قام ابن الجوزى بتأليف كتاب عن الوضع فى الحديث . وبعد العصر العباسى إلتصق الكذب أكثر بالقصّاصين فكتب ابن تيمية ( أحاديث القصاص ) فى الأحاديث الموضوعة . وعلى سنته سار ابن القيم فى كتابه ( المنار المنيف فى الصحيح والضعيف ). ولكن كل هذا لم يُغن شيئا لأن العوام يحبون الكذب ، أو على حد قول منتجى الأفلام الهابطة فى مصر ( الجمهور عايز كده ). ودين الحنبلية السنية مؤسس على الكذب على الله جل وعلا ورسوله بالمنامات والأحاديث . والقصّاص هو المُنتج وهو أيضا الموزّع ، هو الذى ينتج الأكاذيب ، وهو الذى يزوعها وينشرها فى حفلات أو مجالس القصص ، وهو أيضا يوزع وينشر أكاذيب غيره . ونحن هنا امام مئات الألوف من القصّاصين المنتجين الموزعين الذين يقومون بسد حاجة الجمهور للأكاذيب أو التسلية التى أصبحت صناعة رائجة ينسى بها الناس واقعهم المرير .

ثالثا : البكاء عند السماع

1 ـ ليس للعوام عقول لتقتنع بالمنطق والحجة والدليل ، ولكن لها عواطف هيّاجة يسهل إثارتها بالبكاء والعويل ، لذا كان من الطرق الأخرى لاجتذاب العوام ( بالاضافة للمبالغات فى الكذب ) أن يبكى الخطيب الواعظ القصّاص فيكتسب صُدقية وإعتقادا ويزداد فى العوام تاثيرا، قيبكون معه تحت شعار:( هيا بنا نبكى .!) . ولقد كان البكاء أو التظاهر بالبكاء أهم سمات ذلك التدين السطحى المظهرى ، يرائى به العوام وقادتهم ، وأصبح من مؤهلات الواعظ القصاص فى إجتذاب المستمعين . ونعطى من ( المنتظم ) نماذج لشخصيات عاصرها ابن الجوزى من دعاة ومستمعين :

كان أبو نصر بن القاص المتوفى عام  538 ( مليح الهيئة حسن الشيبة كثير البكاء ، يحضر مجلس شيخنا أبي إلحسن الزاغواني فيبكي كثيرًا‏.‏) . وقال ابن الجوزى عن ( الأنماطي أبو البركات الحافظ ) : ( ‏وكان ذا دين ورع وكان قد نصب نفسه للحديث طول النهار وسمع الكثير من خلق كثير وكتب بيده الكثير وكان صحيح السماع ثقة ثبتًا وكنت أقرأعليه الحديث وهو يبكي فاستفدت ببكائه أكثر من استفادتي بروايتـه .! ).وقال عن تلميذه ( أبو البركات الأنباري)(ت 552 ) إنه ( وعظ الناس ، وكان يبكي من حين صعوده على المنبـر إلـى حيـن نزولـه .) (.. وكان من أهل السنة الجياد رزقـه اللـه أولادًا صالحيـن فسماهم أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا ، وكان أمارًا بالمعروف ناهيًا عن المنكـر، مستجـاب الدعوة ، له كرامات ومنامات صالحة ، رأى في بعضها رسول الله صلى الله عليه وسلـم وفـي بعضها أحمد بن حنبل.). وقال عن  أبى عبد الله السجزي الأصل الهروي ت 553 (..وسافر إلى العراق وخوزستان والبصرة ، وقدم علينا بغداد ، فروى لنا هذه المذكورات ، وكان صبورًا على القـراءة ، وكان شيخنا صالحًا على سمت السلف، كثير الذكر والتعبد والتهجد والبكاء . ).ويقول عن التاجر أبى البقاء الحرانى ت 574 : ( كان من أماثل التجار كثير الصدقة ملازمًا لمجلس الذكر كثير الخشوع والبكاء متعصبًا لأهل السنة مبالغًا في حب أصحاب أحمد بن حنبل. ) ( عمار بن سلامة أبو البقاء الحراني : كان من أماثل التجار كثير الصدقة ملازمًا لمجلس الذكر كثير الخشوع والبكاء متعصبًا لأهل السنة مبالغًا في حب أصحاب أحمد بن حنبل.)،( أبوغالب الباقلاوي ت 500: ( حدثنا عنه أشياخنا ، وهـو مـن بيـت الحديـث ، وكـان شيخـًا صالحًا كثير البكاء من خشية الله تعالى صبورًا على اسماع الحديث ) .‏ عن القصص فى المنتظم (ج 14 / 123 )، (ج 16 / 211 )،( ج 17/  3 : 4 ،  20 ، 191).

رابعا : قصّاصون من العوام المغفلين

 1 ـ إتّسع مجال القصص ليس فقط للعوام الجهلاء العاديين بل للمغفلين منهم.  وفى كتابه ( أخبار الحمقى ) عقد ابن الجوزى: ( الباب العشرون في ذكر المغفلين منالقصاص) يتندر فيه على القصاصين المشهورين فى عصره .

2 ـ يقول عن القصاص الفقيه سيفويه : ( القصاص سيفويه‏:‏ فمنهم سيفويه القاص كان يضرب به المثل فيالتغفيل‏:‏ عن محمد بن العباس بن حيويه قال‏:‏ قيل لسيفويه قد أدركت الناس فلم لمتحدث ؟ قال‏:‏ اكتبوا حدثنا شريك عن مغيرة عن إبراهيم بن عبد الله مثله سواء قالواله‏:‏ مثل إيش قال‏:‏ كذا سمعنا وكذا نحدث‏.‏

 عن ابن خلف قال‏:‏ جاء يوماً رجل من عرس فسأله سيفويه‏:‏ ما أكل ؟فأقبل يصف له فقال‏:‏ تمنيات قصاص‏.

‏من غفلات سيفويه‏:‏ وروى أبو العباس بن مشروح قال‏:‏ كان سيفويهاشترى لمنزله دقيقاً بالغداة وراح عشاء يطلب الطعام فقالوا‏:‏ لم نخبز . لم يكن عندناحطبً . قال‏:‏ كنتم تخبزونه فطيراً‏.‏

 وحكى أبو منصور الثعالبي‏:‏ أن رجلاً سأل سيفويه عن الغسلين في كتابالله تعالى فقال‏:‏ على الخبير سقطت ، سألت عنه شيخاً فقيهاً من أهل الحجاز فما كانعنده قليل ولا كثير‏.‏

وقف سيفويه راكباً على حمار في المقابر فنفر حماره عند قبر منهافقال‏:‏ ينبغي أن يكون صاحب هذا القبر بيطاراً‏.‏

وقرأ سيفويه ( ثم في سلسلة ذرعها تسعون ذراعاً ) فقيل له قد زدت عشرينفقال‏:‏ هذه خلقت لبغاء ووصيف فأما أنتم فيكفيكم شريط بدانق ونصف‏.‏

وقرأ قارىء بين يديه ‏"‏ كأنما أغشيت وقرأ القارىء‏:‏‏"‏ كأنهن الياقوت والمرجان‏"‏فقال‏:‏ هؤلاء خلاف نسائكم الفجار‏.‏

 قيل لسيفويه إن اشتهى أهل الجنة عصيدة كيف يعملون ؟ قال‏:‏ يبعث اللهلهم أنها دبس ودقيق وأرز‏.‏ويقال‏:‏ اعملوا وكلوا واعذرونا‏ .‏)

‏2 ـ ويقول عن آخرين :( وقال ابن خلف‏:‏ قال عبد العزيز القاص‏:‏ ليتأن الله لم يكن خلقني وأني الساعة أعور . فحكيت ذلك لابن غياث فقال‏:‏ بئس ما قال.!ووددت والله الذي لا إله إلا هو أن الله لم يكن خلقني ، وإني الساعة أعمى مقطوعاليدين والرجلين. ).

( القصاص أبو أحمد التمار‏:‏ وعن محمد بن خلف قال أبو أحمد التمار فيقصصه‏:‏ لقد عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الجار حتى قال فيه قولاً أستحيوالله أن أذكره‏.‏)

(  قال ابن خلف‏:‏ قص قاص بالمدينة فقال‏:‏رأى أبو هريرة على ابنته خاتم ذهب فقال‏:‏ يا بنية لا تتخمي بالذهب فإنه لهب . فبيناهو يحدثهم إذ بدت كفه فإذا فيها خاتم ذهب. فقالوا له‏:‏ تنهانا عن لبس الذهب وتلبسهفقال‏:‏ لم أكن ابنة أبي هريرة‏.‏)

(  عن محمد بن الجهم أنه قال‏:‏ سمعت الفراءيقول‏:‏ كان عندنا رجل يفسر القرآن برأيه فقيل له‏:‏‏"‏ أرأيت الذي يكذب بالدين‏"‏فقال‏:‏ رجل سوء والله .! فقيل‏:‏‏"‏ فذلك الذي يدع اليتيم‏"‏فسكت. )

( وعن عبد الرحمن بن محمدالحنفي قال‏:‏ قال أبو كعب القاص في قصصه‏:‏ كان اسم الذئب الذي أكل يوسف كذا وكذا.  فقالوا له‏:‏ فإن يوسف لم يأكله الذئب .! قال‏:‏ فهو اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف‏.‏)

(  عن العلاء بن صالح قال‏:‏ كان عبدالأعلى بن عمر قاصاً فقص يوماً ، فلما كاد مجلسه ينقضي قال‏:‏ إن ناساً يزعمون أني لاأقرأ من القرآن شيئاً ، وأني لا أقرأ منه الكثير بحمد الله. ثم قال‏:‏ بسم الله الرحمنالرحيم ‏"‏ قل هو الله أحد ‏"‏ فارتج عليه فقال‏:‏ من أحب أن يشهد خاتمة السورةفليحضرنا إلى مجلس فلان‏.‏)

(  حكى أبو محمد التميمي أن أبا الحسن السماك الواعظدخل عليهم يوماً وهم يتكلمون في أبابيل فقال‏:‏ في أي شيء أنتم؟  فقالوا‏:‏ نحن فيألف أبابيل . فقال : هل هو ترون أنه بلبل عليهم عيشهم‏!‏ )

(  جاء رجل إلى قاص وهويقرأ‏:‏‏"‏يتجرعه ولا يكاد يسيغه ‏"‏فقال‏:‏ اللهم اجعلنا ممن يتجرعه ويسيغه‏.‏)(  قال الجاحظ‏:‏ سمعت قاصاً أحمق وهو يقص حديث موسىوفرعون وهو يقول‏:‏ لما صار فرعون في وسط البحر في الطريق اليابس فقال اللهللبحر‏:‏ انطبق . فما زال حتى علاه الماء . فجعل فرعون يضرط مثل الجاموس نعوذ بالله منذلك الضراط‏.‏) ( قال‏:‏ وسمعت قاصاً بالكوفة يقول‏:‏ والله لو أن يهودياً مات وهويحب علياً ثم دخل النار ما ضره حرها‏.‏)

( قال بعض القصاص‏:‏ يا معشر الناس إنالشيطان إذا سمي على الطعام والشراب لم يقربه ، فكلوا خبز الأرز المالح ولا تُسمّوا، فيأكل معكم ، ثم اشربوا الماء وسمُّوا ، حتى تقتلوه عطشاً‏.‏).

(القصاص أبو سالم‏:‏ كان أبو سالم القاص يقص يوماً قال‏:‏ يابن آدم..يابن الزانية.. أما تستحي من الملك الجليل حتى تقدم على العمل القبيح . ) ( وسُرق باب بيت أبيسالم القاص، فجاء إلى باب المسجد قالوا‏:‏ ما تصنع ؟ قال‏:‏ اقلع هذا الباب فإنصاحبه يعلم من قلع بابي‏.‏).

(‏ سئل بعض الوعاظ‏:‏ لم لم تنصرف أشياء . فلميفهم ما قيل له.  ثم سكت ساعة فقال‏:‏ تسأل سؤال الملحدين لأن الله يقول‏:‏‏"‏ لا تسألوا عن أشياء‏"‏‏.)

(  قال بعض الأشياخ‏:‏ إنه كتب في رقعة إلى بعضالقصاص يسأله الدعاء لامرأة حامل . فقرأ الرقعة ثم قلبها ، وفي ظهرها صفة دواء قد كتبهطبيب وفيه :قنبيل وخشيرك وافتيمون ونحو هذا ، فظنها كلمات ُيسأل بها ، فدعا ، وجعل يقول‏:‏يا رب قنبيل ،يا رب خشيرك، ويا رب افتيمون ..) ‏.‏

أخيرا

فى عصرنا البائس يخرج علينا الرعاع الجهلة من دعاة الحنبلية الوهابية يقولون منكرا من القول وزورا ، وبعتبرون ما يقولون دينا ، وهو هزل مُضحك . ينشرونه على الانترنت فيثيرون السخرية ..والرثاء . 

اجمالي القراءات 9312

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (1)
1   تعليق بواسطة   شريف علي     في   الخميس ١٢ - ديسمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً
[73437]

مقال رائع


جذبني هذا المقال جدا لانه يعلم الانسان استخدام العقل دون الانسياق وراء الضجيج والاكاذيب



أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5111
اجمالي القراءات : 56,686,478
تعليقات له : 5,445
تعليقات عليه : 14,818
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي