عودة السياسة إلى مصر مع ترشيح البرادعى

سعد الدين ابراهيم Ýí 2009-12-12


 

لا أعرف د. محمد البرادعى شخصياً، وإن كنت قد تابعت كما تابع كثيرون، مسيرته فى الحياة العامة، خلال السنوات الأخيرة، التى اشتد فيها الجدل حول البرنامج النووى لإيران. فقد كان مطلوباً منه، كمدير للمفوضية الدولية للطاقة النووية، أن يُقدم تقارير دورية عن البرنامج الإيرانى لمجلس الأمن ولمحافل دولية أخرى.

ولا يخفى أن أمريكا خصوصاً، والغرب عموماً، لم يُخفوا توجسهم الشديد من برنامج إيران الن&aelute;نووى، خاصة لخطورته على إسرائيل، محظيتهم الأولى، خاصة فى ضوء التهديدات التى صدرت عن مسؤولين إيرانيين، وفى مقدمتهم رئيس الجمهورية، أحمدى نجاد، حول استخدام هذا السلاح ضد إسرائيل، التى هى ربيبة الغرب الأولى. وربما كانت جهود د. محمد البرادعى فى تبديد التوتر، أو تأجيل المواجهة المُسلحة حول هذه المسألة، هى أحد أسباب ترشيحه، وفوزه بجائزة نوبل للسلام، منذ عدة سنوات.

وقد طلب منى كثير من قراء مقالى الأسبوعى أن أدلى بدلوى حول احتمال ترشيح الرجل لرئاسة جمهورية مصر العربية، المُقرر عقدها فى أكتوبر ٢٠١١. وقد تصادف بداية كتابة هذا المقال مع إذاعة مقابلة مع د. محمد البرادعى، أجراها الإعلامى الشهير فريد زكريا، فى برنامجه «المسح السياسى الكونى» (Global Political Survey. GPS) ظهر يوم الأحد ٧/١٢/٢٠٠٩ على قناة سى.إن.إن (CNN). وفى هذا، نفّذ فريد زكريا ما وعد به ائتلاف المنظمات المصرية فى أمريكا الشمالية، منذ ثلاثة شهور.

 فوقتها أجرى فريد مُقابلة مع السيد/ جمال مبارك، نجل رئيس الجمهورية، رئيس لجنة السياسات بالحزب الوطنى، الذى كانت ولا تزال كثير من الدوائر فى الداخل والخارج ترشحه للمنصب الرئاسى الرفيع. وطلبت المحامية دينا جرجس، الأمين التنفيذى لـ«أصوات من أجل مصر ديمقراطية»، إحدى منظمات الائتلاف المذكور، من فريد زكريا، أن يُعامل كل المُرشحين المصريين لنفس المنصب بالمثل. ووعد الرجل بذلك، وقد أوفى بوعده فى حالة د.البرادعى، وينوى أن يفعل الشيء نفسه مع د.أيمن نور، حينما تسمح له السُلطات المصرية بالسفر للخارج.

وأول ما لفت نظرى فى المُقابلة، أن د. البرادعى ظهر فعلاً، بمظهر «رئاسى» (Presidential) دون تكلف أو اصطناع، فقد كان وقوراً، مُهذباً، وحكيماً فى إجاباته عن كل أسئلة فريد زكريا، بما فى ذلك المستفز منها، من ذلك أنه لم يُخطئ أو يتحامل على الرئيس مُبارك، أو نجله، أو أى من المسؤولين المصريين، ومع ذلك فلم يُخف الرجل أو يُقلل من مشكلات مصر فى الوقت الحاضر، وخطورة التحديات التى تنتظر أى رئيس قادم لمصر، كما أن ثقته بنفسه، بدت من حديثه عما يُمكن أن يُقدمه فى مواجهة هذه التحديات، إذا ما شرفه الشعب بتولى هذه المسؤولية.

إن لى خبرة متواضعة فى هذا المجال، حيث كنت قد أعلنت فى أكتوبر ٢٠٠٤ نيتى للترشيح للرئاسة، علماً بأن الدستور المصرى حتى ذلك الحين، لم يكن يسمح بانتخابات تنافسية، ولكن كان يسمح فقط باستفتاء بـ«نعم» أو «لا» على اسم واحد، يُرشحه مجلس الشعب. وكان هدفى من هذه الخطوة هو، أولاً: جسر الجمود السياسى، وتحريك المياه الراكدة للحياة المصرية العامة، وثانياً: لإظهار أن هناك بديلاً أو بدائل، وثالثاً، لإحراج الرئيس مُبارك، عله يوافق على تعديل الدستور، بحيث يصبح أكثر انفتاحاً وديمقراطية.

 وقد نجحت تلك المُبادرة، إلى حد كبير، فقد انتهزت الفضائيات العربية ذلك، وكانت جائعة لأخبار مُثيرة. ولعدة أيام كنت أظهر على قنوات الجزيرة، وأوربت، والعربية، واللبنانية لأتحدث عن أسباب إعلانى ترشيح نفسى، وفى كل مرة كنت أعلن التحدى للرئيس أن يُنازلنى فى انتخابات تنافسية، أمام الملأ، مصرياً وعالمياً.

وبعد فترة من هذا الظهور الإعلامى المُكثف اتصلت بى د. نوال السعداوى، حيث أعجبتها الفكرة، وقررت إعلان ترشيح نفسها، كأول امرأة تجرؤ على كسر الاحتكار الذكورى للمنصب ورحبت وشجعتها، بل حضرت المؤتمر الصحفى الذى أعلنت فيه ذلك الترشيح، وبعد أسبوع، سارع رجل الأعمال أ. محمد فريد حسنين، عضو مجلس الشعب، إلى الاستقالة من المجلس وترشيح نفسه، ثم بعد شهر واحد (نوفمبر ٢٠٠٤)، أعلن عضو مجلس شعب آخر، وهو د. أيمن نور، ترشيح نفسه، ولكن دون أن يستقيل من مجلس الشعب.

ومن طرائف الأمور، أن كلا من فريد حسنين وأيمن نور كانا عضوين فى مجلس أمناء مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، أى أن ثلاثة ممن أعلنوا ترشيح أنفسهم، كانوا يأتون من نفس الخلفية «الليبرالية» لمدرسة ابن خلدون، التى تُُقدس الديمقراطية التعددية، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، والسلام، وهى مدرسة تعتبر كل هذه المبادئ وجوهاً لنفس العُملة.

ودأب المرشحون الأربعة على تحدى الرئيس مُبارك أن يُساجلهم على أى ساحة إعلامية، وأن يفتح باب تعديل الدستور، لكى تكون هناك انتخابات تنافسية، يعرف من خلالها كل مُرشح حجمه الحقيقى شعبياً! وبدأت الصحافة تلاحق الرئيس، فى كل مُناسبة داخلياً، وفى زياراته الخارجية، للرد على عما ينوى أن يفعله نحو هذه التحديات.

وأخيراً، وافق مُبارك، وأعلن عن تعديلات دستورية، تسمح بالمنافسة على المنصب الرئاسى. صحيح أن «ترزية التعديلات» فى الحزب الوطنى، وضعوا من العوائق والشروط، ما يجعل مثل هذه الانتخابات مضمونة فقط لإنجاح الرئيس وأحد نجليه مُستقبلاً، وصحيح أن الوحيد الذى أفلت من مصيدة هذه الشروط فى حينها (٢٠٠٥)، وهو د. أيمن نور، رئيس حزب الغد، لم يُفلت من مصيدة أخرى، وهى السجن، الذى حيك له زوراً وبُهتاناً، كما كان قد حيك لى عام ٢٠٠٠، ولكن المهم أن مبدأ الاحتكار الشمولى قد كُسر إلى غير رجعة.

صحيح أن رجال النظام ومن لف لفهم اعتقدوا أن ما تلقيته أنا من دروس (ثلاث سنوات سجناً وثلاث نفياً)، وما تلقاه أيمن نور (أربع سنوات سجناً وتدميراً عائلياً) يكفى لتخويف كل من تسول له نفسه أن يتحداهم. ولكن كما يقول المثل المأثور، «إن مصر ولاّدة». وها هو أحد أبنائها الأبرار يدخل الساحة، وهو د. محمد البرادعى، الذى سيصعب عليهم تشويه سمعته، وهو حائز على أعلى جائزتين إحداهما عالمية (نوبل)، والأخرى مصرية (قلادة النيل).

طبعاً، هذا لم يمنع الصحافة الحكومية من مُحاولة التقليل من شأن الرجل، فحيناً، هو غائب عن مصر لمدة ٢٧ سنة، تغيرت فيها مصر كثيراً، ولم يعش هو هذه التغيرات (على حد قول د.عبدالمنعم سعيد، رئيس مجلس إدارة الأهرام). وهو حيناً آخر مجرد موظف دولى، وكونه موظفاً دولياً ناجحاً لا يعنى أنه قادر على إدارة دولة كبيرة مثل مصر (على حد قول أسامة سرايا، رئيس تحرير الأهرام).

 وحيناً ثالثاً يتم التنقيب فى ماضى د. البرادعى، فلا يجدون فيه إلى وقت كتابة هذا المقال (٩/١٢/٢٠٠٩) إلا أن ترتيبه كان قبل الأخير، فى امتحانات وزارة الخارجية (قبل أربعين عاماً)، فماذا عن الابن المُرشح؟! إننى أؤكد بحكم أستاذيتى فى الجامعة الأمريكية التى تخرج فيها، أنه لم يكن لا من الأوائل، ولا حتى نصف المتفوقين.

إن أحد المآثر الكُبرى لترشيح الدكتور البرادعى، هو أنه أعاد بقوة «السياسة» لساحة العمل العام فى مصر، فالسياسية تعنى التنافس والصراع السلمى على السُلطة ـ إما لتبادلها أو لاقتسامها، أو المشاركة فيها، وإلى تاريخه، فإنه لم يأت مُنافس يتمتع بالندية والفرصة اللتين يتمتع بهما د. محمد البرادعى، كذلك لم يُصب المصريون بنفس درجة السأم التى يشعرون بها، نتيجة استمرار الوجوه نفسها على قمة السُلطة.

فالرئيس مُبارك، هو ثالث أطول حاكم لمصر المحروسة طوال الخمسة آلاف سنة الأخيرة ـ بعد رمسيس الثانى (٤٢ سنة) ومحمد على (٤٠ سنة). وربما كان ذلك هو سبب الترحيب الشعبى الواسع لترشيح الدكتور البرادعى.

طبعاً، لا يعنى ذلك سهولة نجاح د. محمد البرادعى، فالمتمرسون فى السُلطة حالياً، لا يزال جرابهم مليئاً بالحيل والألاعيب، ولكن الرجل لديه فرصة حقيقية للنجاح، خاصة إذا ضغطت قوى المجتمع المدنى، لإلغاء التعديلات الدستورية المعيبة، التى أقحمت عامى ٢٠٠٥ و٢٠٠٧، وإصرار هذه القوى على إشراف قضائى ورقابة دولية على الانتخابات النيابية (٢٠١٠) والرئاسية (٢٠١١).

وكما قال الشاعر أبو القاسم الشابى «إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر».

اجمالي القراءات 12187

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (2)
1   تعليق بواسطة   محمد عبدالرحمن محمد     في   الإثنين ١٤ - ديسمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[44162]

وهذا يفسر لماذا نٌقل تمثال رمسيس .

 نشكر للدكتور سعد الدين ابراهيم على أنه لفت نظرنا إلى أن الرئيس مبارك أخذ المرتبة الثالثة في عدد سنوات الحكم  منذ عهد الفراعنة إلى الآن ،فليس من الغريب أن يتم نقل تمثال رمسيس الثاني من مكانه الرابط به في ميدانه المسمى بإسمه في ميدان باب الحديد منذ ثورة يوليو  وهو ميدان رمسيس ، ولكن هذا الرئيس الضارب في القدم يريد أن ينافس رمسيس في عدد سنوات الحكم ،  فنقل التمثال من مكانه وأطلق على هذه المنطقة في محطة المترو  إسم حسني مبارك تحدياً لرمسيس وأملاً في أن تصل سنوات حكمه إلى عدد سنوات حكم رمسيس الثاني  لمصر .


2   تعليق بواسطة   نورا الحسيني     في   الثلاثاء ١٥ - ديسمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[44176]

معلومة فسرت اللغز .

 الدكتور سعد الدين ابراهيم كان ينوي ترشيح نفسه لمنصب رئاسة الجمهورية عام  2004. وأعلن ذلك في الفضائيات !  هذه المعلومة القصيرة تفسر الكثير ، فلم أكن أعرف السبب الرئيسي في العداء الواضح من جانب النظام ومؤيديه  للدكتور سعد الدين ابراهيم وكنت أتعجب من ذلك ، ولكن كما يقال إذا عرف السبب بطل العجب . فهي معلومة صغيرة ولكن فسرت اللغز .


فهذه السياسة يمارسونها دائماً مع من يرشح نفسه لهذا المنصب، فما حدث للدكتور أيمن نور ليس بغائب على أحد، ولكن لا ندري ما نوعية التهمة النهائية التي سوف يوجهونها للدكتور البرادعي . ولكن إن غداً لناظره لقريب !!! .


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2007-03-23
مقالات منشورة : 217
اجمالي القراءات : 2,460,281
تعليقات له : 0
تعليقات عليه : 410
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt