النصارى في المدينة
النصارى في المدينة

محمود علي مراد في الثلاثاء ٣١ - يوليو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الفصل الرابع

النصارى في المدينة

العناوين التي تلي ذلك المتعلق بالمنافقين في حديث السنة المدنية الأولى من سيرة ابن إسحاق هي: ( أ ) من أسلم من أحبار اليهود نفاقاً؛ (ب) ما نـزل من البقرة في المنافقين ويهود. وتحت هذا العنوان وردت تعقيبات المؤلف على خمسة وخمسين من الاقتباسات القرآنية يتعلق بعضها بأهل الكتاب؛ (ج) أمر السيد والعاقب وذكر المباهلة، وهو يتعلق بزيارة وفد من نصارى نجران وصل إلى المدينة للقاء النبي صلى الله عليه وسلم.

ولما كان تعبير "أهل الكتاب" تعبيراً يجمع اليهود والنصارى، ونظراً إلى أن تعاقب عنواني هاتين المجموعتين من الناس ليست له أية دلالة تاريخية، فقد بدا لنا من الملائم، لفهم مادتنا على الوجه الصحيح، أن نبدِّل ترتيب الموضوعين (ب) و(ج) لنتحدث أولاً عن النصارى ثم، في الفصل التالي، عن اليهود. وقد رأينا أيضاً من المفيد أن نضمِّن في الفصل الحالي، رواية وردت في مكان آخر من "السيرة" تتعلق إلى حد كبير بالنصارى، تروي قصة سلمان الفارسي.

سنبدأ البحث إذاً برواية سلمان عن الأحداث التي أدت إلى إسلامه، ثم ننتقل منها إلى زيارة وفد نصارى نجران إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وما نـزل في ذلك، حسب قول ابن إسحاق، من القرآن الكريم، ثم نطرح أخيراً، استناداً إلى ما لم يقتبسه النص من قرآن، سؤال: هل كان هناك نصارى بين سكان المدينة؟

سلمان الفارسي(1)

أ - النص

قصة إسلام سلمان واردة تحت عنوان سابق بقليل على العنوان الخاص "بمبعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً"، ضمن فصل عنوانه "إخبار الكهان من العرب، والأحبار من يهود والرهبان من النصارى"، جاء فيه أن الأحبار من يهود، والرهبان من النصارى، والكهان من العرب، قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، لما تقارب من زمانه. أما الأحبار من يهود، والرهبان من النصارى، فلما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليه فيه.(2) وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن فيما تسترق من السمع، إذ كانت هي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم. وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره، لا تلقي العرب لذلك فيه بالاً، حتى بعثه الله تعالى، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون، فعرفوها.(3) وتسوق "السيرة" عدة أمثلة على تنبؤات هؤلاء وهؤلاء.

قال سلمان الفارسي:

كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان من قرية يقال لها جيّ، وكان أبي دهقان قرية (الدهقان: شيخ القرية العارف بالفلاحة وما يصلح بالأرض، يُلجأ إليه في معرفة ذلك)، وكنت أَحَب خلق الله إليه، لم يزل في حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تُحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قَطْن النار (أي خادمها الذي يخدمها ويمنعها من أن تخبو، لتعظيمهم إياها) الذي يوقدها، لا يتركها تخبو ساعة. وكانت لأبي ضيعة عظيمة، فشغل في بنيان له يوماً، فقال لي: يا بنيَّ، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب إليها فاطَّلعها. وأمرني فيها ببعض ما يريد، ثم قال لي: ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني كنت أهمّ إليَّ من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري. فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلُّون، وكنت لا أدري ما أمر الناس، لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي فلم آتها؛ ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام. فرجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي، وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أي بنيَّ أين كنت؟ أولم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قلت له: يا أبت، مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله مازلت عندهم حتى غربت الشمس؛ قال: أي بُنَيَّ، ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه؛ قلت له: كلا والله، إنه لخير من ديننا. فخافني، فجعل في رجلي قيداً، ثم حبسني في بيته.

وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم. فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبروني بهم، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم، فأذنوني بهم. فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجْليَّ، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام. فلما قدمتها، قلت: من أفضل هذا الدين علماً؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة (الأسقف: عالم النصارى الذي يقيم لهم أمر دينهم). فجئته فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين، فأحببت أن أكون معك، وأخدمك في كنيستك، فأتعلم منك، وأصلِّي معك؛ قال: ادخل، فدخلت معه. وكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة، ويرغِّبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئاً منها اكتنـزه لنفسه، ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق. فأبغضته بُغضاً شديداً لما رأيته يصنع؛ ثم مات، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة، ويرغِّبكم فيها، فإذا جئتموه بها، اكتنـزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئاً. فقالوا لي: وما علمك بذلك؟ قلت لهم: أنا أدلكم على كنـزه؛ قالوا: فدلّنا عليه. فأريتهم موضعه، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً. فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبداً. فصلبوه، ورجموه بالحجارة، وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه.

فما رأيت رجلاً لا يصلِّي الخمس، أرى أنه كان أفضل منه وأزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه. فأحببته حباً لم أحبه شيئاً قبله. فأقمت معه زماناً طويلاً، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان: إني قد كنت معك وأحببتك حباً لم أحبه شيئاً قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: أي بُنَيَّ، والله ما أعلم اليوم أحداً على ما كنتُ عليه، فقد هلك الناس، وبّدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلاً بالموصل، وهو فلان، وهو على ما كنتُ عليه فالحق به.

فلما مات وغُيِّب لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان، إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره؛ فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات. فلما حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان، إن فلاناً أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: يا بنيَّ، والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه، إلا رجلاً بنصيبين (نصيبين: مدينة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام وبينها وبين الموصل ستة أيام)، وهو فلان، فالحق به.

فلما مات وغُيِّب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري، وما أمرني به صاحبه، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده؛ فوجدته على أمر صاحبيه. فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نـزل به الموت، فلما حُضِر قلت له: يا فلان، إن فلاناً كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: يا بُنَيَّ، والله ما أعلمه بقي أحدٌ على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بعَمُّورية من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته، فإنه على أمرنا.

فلما مات وغُيِّب لحقت بصاحب عمورية، فأخبرته خبري؛ فقال: أقم عندي، فأقمت عند خير رجل، على هدى أصحابه وأمرهم. واكتسبتُ حتى كانت لي بقرات وغنيمة. ثم نـزل به أمر الله تعالى، فلما حُضِر قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلان، فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلمه أصبح اليوم أحدٌ على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك به أن تأتيه، ولكنه قد أظل زمان نبيٍ، وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب، مهاجَره إلى أرض بين حرَّتين (الحرَّة: كل أرض ذات حجارة سود متشيطة من أثر احتراق بركاني)، بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوَّة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.

ثم مات وغُيِّب، ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مرَّ بي نفرٌ من كَلْب تجار، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه، قالوا: نعم. فأعطيتهموها وحملوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني، فباعوني من رجل يهودي عبداً، فكنت عنده، ورأيت النخل، فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحِقّ في نفسي، فبينما أنا عنده، إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة، فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذْق (أي النخلة) لسيدي أعمل له فيه بعض العمل، وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال: يا فلان، قاتل الله بني قَيْله، والله إنهم الآن مجتمعون بقباء (وهي قرية تقع على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة) على رجل قدم عليهم من مكة اليوم، يزعمون أنه نبي. فلما سمعتها أخذتني العرواء (أي الرعدة من البرد والانتفاض)، حتى ظننت أني سأسقط على سيدي، فنـزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟ فغضب سيدي، فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك. قلت: لا شيء، إنما أردت أن استثبته عما قال.

وقد كان عندي شيء قد جمعته فلما أمسيت أخذته، ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء. فدخلت عليه، فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء قد كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحقَّ به من غيركم، فقربته إليه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا، وأمسك يده فلم يأكل. فقلت في نفسي: هذه واحدة. ثم انصرفت عنه، فجمعت شيئاً، وتحوَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئته به فقلت له: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها. فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه. فقلت في نفسي: هاتان اثنتان؛ ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد (هي مقبرة أهل المدينة)، قد تبع جنازة رجل من أصحابه، .. وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني استثبت في شيء وُصِف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكي؛ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحوَّل، فتحولت فجلست بين يديه، فقصصت عليه حديثي .. فأعجب رسولَ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يسمع ذلك أصحابه.

ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد.

قال سلمان: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتِبْ يا سلمان، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير (أي بالحفر وبالغرس)، وأربعين أوقية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أعينوا أخاكم، فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين وَدِيَّة (الودية: واحدة من الودي، وهو فراخ النخل الصغار)، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمس عشرة ودية، والرجل بعشر، يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب يا سلمان ففقِّر (أي احفر) لها، فإذا فرغت فأتني أكن أنا أضعها بيدي. ففقَّرت وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي، ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، حتى فرغنا. فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة. فأديت النخل وبقي عليَّ المال. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب، من بعض المعادن، فقال: ما فعل الفارسي المُكاتب؟ فدعيت له فقال: خذ هذه فأدّها مما عليك يا سلمان. قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما عليَّ؟ فقال: خذها فإن الله سيؤدي بها عنك. فأخذتها فوزنت لهم منها، والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم منها، وعَتَق سلمان، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق حراً، ثم لم يفتني معه مشهد.

وعن سلمان أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أخبره خبره: إن صاحب عمُّورية قال له: ائت كذا وكذا من أرض الشام، فإن بها رجلاً بين غيضتين (الغيضة: الشجر الملتف)، يخرج في كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزاً، يعترضه ذوو الأسقام، فلا يدعو لأحد منهم إلا شُفي، فاسأله عن هذا الدين الذي تبتغي، فهو يخبرك عنه. فخرجت حتى أتيت حيث وصف لي، فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هنالك، حتى خرج لهم تلك الليلة، مستجيزاً من إحدى الغيضتين إلى أخرى، فغشيه الناس بمرضاهم، لا يدعو لمريض إلا شُفي، وغلبوني عليه، فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخل، إلا منكبه. فتناولته. قال: من هذا؟ والتفت إليَّ، فقلت: يرحمك الله، أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم. قال: إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم، قد أظلّك زمان نبيٍ يُبعث بهذا الدين من أهل الحرم، فأته فهو يحملك عليه. ثم دخل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان: لئن كنت صدقتني يا سلمان، لقد لقيت عيسى بن مريم، على نبيِّنا وعليه السلام.        

ب - التحليل

1- حديث سلمان الفارسي (سبع صفحات) أطول حديث عن إسلام شخص سواء في الفترة المكية أو في الفترة المدنية، والفرق في الطول شاسع بينه وبين سائر قصص دخول الناس في الإسلام على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا يدري المرء سر الأهمية التي توليها له "السيرة"، لاسيما ونحن لا نعرف شيئاً عن الظروف التي اعتنق فيها الإسلام أشخاص قريبون من الرسول صلى الله عليه وسلم ولهم منـزلة عالية في الإسلام كأبي بكر وعثمان بن عفان، وأن قصة إسلام كل كفار المدينة لم تذكر في "السيرة" إلا في جملة واحدة.

2- هناك سبب آخر يجعل المرء يحار في فهم السر الذي دعا ابن إسحاق إلى هذه الإطالة في سرد قصة إسلام سلمان الفارسي، هو أننا لا نعرف شيئاً عن المشكلات التي نشأت والأحداث التي حدثت في المدينة كنتيجة لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وأن حدثاً جليلاً كبناء المسجد لم يوصف إلا في ثلاثة سطور.

3- على الرغم من أن "السيرة" تغرق قارئها في طوفان من الأسماء، فنحن نعرف أسماء الأشخاص الثلاثة والخمسين الذين دخلوا في الإسلام خلال السنوات الثلاث الأولى من الدعوة، وأسماء المهاجرين الثلاثة والثمانين إلى الحبشة، وأسماء أهل المدينة الستة ثم الاثني عشر ثم الثلاثة والسبعين الذين قابلوا الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وأسماء الأشخاص الثمانين الذين هاجروا إلى المدينة، وأسماء مسلمي المدينة الذين استضافوهم، وأسماء من شملتهم عملية المؤاخاة وأسماء القرشيين في مكة، والمنافقين في المدينة واليهود، الذين نـزلت فيهم آيات الاقتباسات القرآنية التي أوردها المؤلف - فإننا نجهل أسماء الأشخاص الخمسة أو الستة الذين يتحدث عنهم سلمان في مختلف مراحل مسيرته الطويلة: اسم الأسقف الذي كان أول من استقبله في الشام، وأسماء رجال الكنيسة الآخرين الذين رافقهم في سوريا وفي الموصل وفي نصيبين وفي عمُّورية، كما نجهل اسم يهودي وادي القرى الذي اشتراه، واسم ابن عمه، الذي كان آخر سادة سلمان. نحن نجهل حتى اسم أبيه.

4- اعتنق سلمان النصرانية وظل نصرانياً عدداً من السنين. ولابد أنه، بهذه الصفة، عرف التقويم الميلادي. ومع ذلك فإن قصته لا تذكر أي تاريخ. كذلك فإنه لا يذكر كم من الوقت، مقدراً بالسنين، بقي في صحبة كل واحد من رجال الدين النصارى.

5- بداية قصة سلمان فيها شيء غريب: إنه يقول إن أباه كان يحبه لدرجة أنه "حبسه في بيته كما تُحبس الجارية"(!) وعلى الرغم من ذلك فإنه عُين في وظيفة قَطْن النار، وهي وظيفة تقتضي وجوده بصفة مستمرة إلى جانب النار لكيلا تخبو ساعة. ثم هاهو سلمان يُحبس من جديد حين يكتشف أبوه ميوله النصرانية، ولكن سلمان ينجح في إلقاء الحديد من رجله ويخرج مع القافلة إلى الشام. وهذا الأب، ذو المنصب الرفيع، الذي كان يعلم قطعاً أن الركب ذاهب إلى الشام، لا يبذل أي مجهود للعثور على ابنه. إننا لا نسمع عنه شيئاً بعدها. ومع ذلك فقد كان من السهل عليه، حين اختفى ابنه، أن يذهب إلى كنيسة البلدة ويستخدم نفوذه للحصول على أخباره واللحاق به.

6- من الغريب أنه، لا السلطات الدينية ولا الفقراء، الذين كانوا أصحاب الحق في الصدقات التي كان يجمعها الأسقف الشامي الذي أقام سلمان عنده، اكتشفوا جشعه، وأن الأمر اقتضى أن يبلغ عنه سلمان بعد موته لكي يعلموا أنه كان يستحوذ لنفسه على ما كان يجمعه من الصدقة. وللمرء أن يتساءل لماذا بقي سلمان مع الأسقف المذكور وهو يعلم أن سلوكه يخالف مبادئ دينه، ولماذا لم يبلغ عنه في حياته.

7- يستفاد من القصة أن سلمان كان يهتم بممثلي الدين المسيحي أكثر من اهتمامه بالدين ذاته. والمفروض أنه اعتنق النصرانية عن عقيدة، وأنه، خلال السنوات التي قضاها في الوسط الكهنوتي، قد تفقَّه في علم اللاهوت، وتعلم اللغة، وقرأ كتب النصارى المقدسة، ونفذ إلى أسرار دينه. والحاصل أنه لا هذا العلم، ولا مختلف جوانب تجربته النصرانية، ولا الأسباب التي جعلت آباءه الروحيين يرون أنه لا يوجد، ليمثل النصرانية الحقة، سوى رجل واحد يعيش في بلد بعيد - تتضح من خطابه. ورغبته الدائمة في البحث عن الرجل غير العادي الذي يجسد خير ما في النصرانية لكي يصاحبه حتى الموت لا تخلو من غرابة. ثم إنه لا يشرح ما الذي أضافته كل تجربة من تجاربه مع أصحابه المتتاليين إلى معارفه الدينية.

8- السمات في شخص محمد صلى الله عليه وسلم، التي تسمح بالتحقق من نبوَّته، والتي كان يعرفها ذوو العلم من النصارى، موضوع ورد ذكره في "السيرة" في مناسبتين أخريين:

– فإن حليمة السعدية، مرضعة محمد في طفولته الأولى تروي(4) أن نفراً من الحبشة نصارى، رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه وسألوها عنه وقلَّبوه، ثم قالوا لها: لنأخذنَّ هذا الغلام، فلنذهبنَّ به إلى مَلكنا وبلدنا، فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره. فلم تكد تنفلت به منهم.

– وبعد ذلك بسنوات، خرج أبو طالب في ركب تاجراً إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل، وأجمع المسير صَبَّ به (أي مال إليه) رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرقَّ له أبو طالب وقال: والله لأَخْرُجَنَّ به معي، ولا يفارقني، ولا أفارقه أبداً. فخرج به معه فلما نـزل الركب بُصرى من أرض الشام، وبها راهب يقال له بحيرى في صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قطّ (أي الدهر) راهب، إليه يصير علمهم عن كتاب فيها، يتوارثونه كابراً عن كابر. فلما نـزلوا ذلك العام ببحيرى وكانوا كثيراً ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام. فلما نـزلوا به قريباً من صومعته صنع لهم طعاماً كثيراً، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته، في الركب حين أقبلوا، وغمامة تُظلّه من بين القوم. ثم أقبلوا فنـزلوا في ظل شجرة قريباً منه. فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصّرت (أي مالت وتدلَّت) أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى نـزل من صومعته، ثم أرسل إليهم، فقال: إني قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم، صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحُرِّكم؛ فقال له رجل منهم: والله يا بحيرى إن لك لشأناً اليوم، فما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيراً، فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرى: صدقت، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاماً فتأكلوا منه كلكم. فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم، لحداثة سنه، في رحال القوم تحت الشجرة؛ فلما نظر بحيرى في القوم لم يَرَ الصفة التي يعرفُ ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش، لا يتخلفنَّ أحد منكم عن طعامي؛ قالوا له: يا بحيرى، ما تخلَّف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدثُ القوم سناً، فتخلف في رحالهم؛ فقال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضُر هذا الطعام معكم. فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعُزَّى، إن كان للَؤمٌ بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم. فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى، فقال له: يا غلام، أسألك بحق اللات والعُزّى إلا ما أخبرتني عمَّا أسألك عنه؛ وإنما قال له بحيرى ذلك، لأنه سمع قومه يحلفون بهما. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعُزَّى، فوالله ما أبغضت شيئاً قطُّ بغضهما؛ فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له: سلني عما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ثم نظر إلى ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده. فلما فرغ، أقبل على عمه أبي طالب، فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً؛ قال: فإنه ابن أخي؛ قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به؛ قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفتُ ليبغنَّه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأنٌ عظيم، فأسرع به إلى بلاده.(5)

كانت هناك إذاً في الشام كتب تحوي أسراراً، منها ما هو موجود في صومعة في بصرى، ومنها ما هو موجود في عمورية. والقصتان تشتركان في شيء، هو أن النبي العربي يحمل، كعلامة مميزة، خاتماً، هو خاتم النبوة، في ظهره بين كتفيه. أما فيما يتعلق بالعلامات المميزة الأخرى، فهناك اختلاف. فلو صح أن هذه الكتب كانت مُنـزلة:

– لما كان هناك اختلاف بينها في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم؛

– لما أخفيت عن الأنظار.

وإذا كان مفهوماً ألا يعلن بحيرى اكتشافه لأنه لم يكن يعلم متى يتلقى هذا الغلام رسالته، فليس من المفهوم لماذا ادخر رجل عمورية، الذي كان رجل دين وتقوى، لسلمان وحده خبر مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان مفروضاً أن يعلنه على الملأ.

9- على الرغم من أن سلمان لا يحدد التاريخ الذي وصل فيه إلى المدينة، فالذي يستنتج من قصته هو أنه وصل إليها قبل الهجرة ببعض الوقت، وربما بسنوات. وحين يقول إنه لم يكن سمع للرسول صلى الله عليه وسلم بذكر قبل وصوله إلى قباء، نظراً لما كان سلمان فيه من شغل الرق، فلنا ألا نحمل قوله هذا على محمل الجد:

– فإن النص يخبرنا، في حديث الفترة المكية، بعد وقت قصير من فترة الاستخفاء التي يقول المؤلف إنها دامت ثلاث سنوات بعد بداية الدعوة، إن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم انتشر في العرب، وبلغ البلدان، وإنه ذكر بالمدينة، ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم حين ذكر، وقبل أن يذكر، من هذا الحي من الأوس و الخزرج، وذلك لما كانوا يسمعون من أحبار اليهود، وكانوا لهم حلفاء، ومعهم في بلادهم.(6)

– أرسلت قريش في الفترة المكية مندوبَين إلى أحبار يهود بالمدينة ليسألوهم عن رسول الله فوصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فأشار عليهم الأحبار بأن يسألوا محمداً عن ثلاث: فتية ذهبوا في الدهر الأول، ورجل طوَّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، والروح ما هي. ولابد أن أخبار هذه الواقعة كانت معروفة في المدينة.  

– خلال السنتين الأخيرتين من الفترة المكية، نجح الإسلام نجاحاً كبيراً في المدينة "حتى لم تبق دارٌ من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون".(7)

– حركة الحج والعمرة، وكذلك حركة التجار والزوار، ذهاباً وإياباً بين مكة والمدينة كانت لا تتوقف وكانت أخبار مكة ومحمد صلى الله عليه وسلم على ألسنة الناس جميعاً في المدينة سواءً في أوساط المشركين أو بين اليهود.

لو أن سلمان كان سجيناً لفهمنا أنه كان منقطعاً عن العالم الخارجي، ولكن حالة الرق في حد ذاتها لم تكن تمنع اتصاله بالآخرين، ولابد أنه، ككل أهل المدينة، كان قد علم في وقت مبكر بأمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر دينه. ولأن سلمان كان نصرانياً عاش ردحاً طويلاً من الزمن في صحبة علماء راسخي القدم في النصرانية، ولأن أسياده في المدينة كانوا من اليهود، فقد أتيحت له فرصة طيبة لتكوين فكرة عن محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إلى المدينة. كذلك كان تحت يده شيء كان محمد يعرضه كعلامة لنبوته أدعى كثيراً للثقة من كونه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة أو كونه يحمل في ظهره علامة مميزة. كان تحت يده مقتطفات كثيرة من القرآن الكريم المتداول في المدينة.

10- لو أن الرجل الذي يشفي المرضى في مكانٍ ما من بلاد الشام كان حقاً عيسى بن مريم عليه السلام: 

– لذكر القرآن الكريم ذلك، ولأضاف ظهوره السنوي في الدنيا إلى معجزاته الأخرى؛

– لسمع سلمان خبره قبل موت رجل الدين النصراني الذي حدثه عنه؛

– لَما اكتفى المسيح عليه السلام بشفاء المرضى، ولاستمر في دعوته ولغيّر ظهوره السنوي - أكثر من ستمائة مرة، بعد رفعه، إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم - تاريخ المنطقة والعالم؛ ولما ادخر لسلمان شهادته بشأن النبي الذي أظل زمانه، والبلد الذي قدر له أن يباشر فيه رسالته؛ ولأعلن هذا النبأ منذ بدء الدعوة الإسلامية، ولأخذت حشود من النصارى طريق مكة ثم طريق المدينة لرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ولاعتناق دينه؛

– وللقي الرسول صلى الله عليه وسلم، خلال إسرائه الذي يحكي نص ابن إسحاق أحداثه في حديثه عن الفترة المكية، المسيح عيسى بن مريم حيا في بيت المقدس مع باقي الأنبياء الذين انتقلوا إلى رحمة الله قبلها بقرون أو بآلاف السنين؛

– لعلمت قوافل قريش في الشام بالحقيقة في شأن النبي العربي صلى الله عليه وسلم ولساعد ذلك على دخولهم في الإسلام. ولو أن ظهور السيد المسيح عليه السلام استمر بعد مبعث ذلك النبي، للقيه المسلمون الذين فتحوا الشام والمسلمون الذين ظلوا به حتى زمن الخلافة العباسية. ومنهم، ربما، ابن إسحاق ذاته. ولتحدثوا إليه ولرَوَت ذلك لنا كتب التاريخ.

11- لا يذكر النص ما إذا كان سلمان قد أعاد القطعة المعدنية السحرية التي تشبه "بيضة الدجاجة من ذهب" بعد عتقه، أو ما إذا كان قد احتفظ بها، أو ما إذا كانت هذه القطعة قد فقدت خاصيتها السحرية مجرد وفاء سلمان بالأوقيات الأربعين التي كاتب عليها.

12- لم يرد في القرآن الكريم أن محمداً صلى الله عليه وسلم أوتي القدرة على صنع الذهب من قطعة معدنية. ولو أنه هو أو الأنبياء الذين سبقوه، أوتوا هذه المعجزة لسهل ذلك كثيراً من مهمتهم، ولكن دعوتهم للإنفاق على الفقراء والمعوزين كانت ستفقد معناها نتيجة لذلك.

المحصِّـلة

قصة سلمان البسيطة، وهي قصة رجل ترك عبادة النار إلى النصرانية، ثم دخل من النصرانية في الإسلام، تحولت، تحت قلم ابن إسحاق، بصورة مصطنعة، إلى حكاية أشبه بالأساطير. والتأثير الفارسي واضح فيها. لقد كان مؤلفنا فارسي الأصل، وكان الخليفة المنصور، الذي كلفه بكتابة السيرة، في بدء خلافته، يفضِّل الفُرس على غيرهم لأنهم قاتلوا بني أمية وأعانوا العباسيين على تولي السلطة. وكان لابد، في نظر ابن إسحاق، للمسلم ذي الأصل الفارسي، أن تكون قصة إسلامه قصة غير عادية. وقد لجأ، لصنع صورة فذَّة له، إلى الطريقة ذاتها التي جرى على إتباعها في تعليقاته على الاقتباسات القرآنية التي أوردها، أي إلى الاغتراف مما جاء في القرآن الكريم لكتابة التاريخ. وهكذا نجده - في رأينا - رسم صورة الأسقف الذي كان يأخذ لنفسه مال الصدقة ويحرم منه مستحقيها من الفقراء من الآية الكريمة التي تقول:

يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنـزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴿34﴾[التوبة]

أما الصورة الإيجابية لرجال الدين الثلاثة الآخرين الذين صاحبهم سلمان والصورة السلبية لأولئك الذين لم يكونوا على مثل ما هم عليه، فهي مستمدة، في نظرنا، من الآية (27) من سورة الحديد، التي تقول:

ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ.

وأخيراً ، فقد استندت قصة رجل عمورية الذي كان يعلم أن رسولاً أزف زمانه في بلاد العرب، إلى الآيتين (156) و (157) من سورة الأعراف اللتين جاء فيهما:

وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴿156﴾الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنـزلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿157﴾

ولكي يضيف المؤلف إلى طرافة القصة نجده يُضَمِّنها عنصراً سرياً خفياً لا يخشى أن يكذبه أحد: علامة جسدية للنبوَّة يحملها الرسول صلى الله عليه وسلم بين كتفيه ويتحقق سلمان من وجودها بنفسه. والمؤلف حين يتحدث عن سمات جسدية - لاحظها أيضاً بحيرى ونصارى الحبشة الذين كانوا يريدون أن يأخذوه من مرضعته ليحملوه إلى ملكهم - لم يكن يخطر على باله قطعاً أن قُرَّاءه أو بعضهم قد تتبادر إلى أذهانهم أسئلة مثل:

– لماذا لم يسأل النجاشي وبطارقته الذين اجتمعوا بالمسلمين في الحبشة خلال الفترة المكية عما إذا كان نبيهم يحمل بين منكبيه خاتم النبوة؟

– نصارى الحبشة (أو نجران) الذين التقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، والذين أسلموا بعد جلسة واحدة معه، هل تأكدوا بدورهم من وجود خاتم النبوة في ظهره، وإذا كانوا قد فعلوا فلِمَ لم يذكر المؤلف ذلك؟

– حين تلقى الرسول صلى الله عليه وسلم زيارة نصارى نجران التي سيأتي ذكرها في الصفحات التالية، هل كشف لهم عن ظهره، بناءً على طلبهم، لكي يروا بأعينهم دليل نبوته أم أنهم كانوا يجهلون عن هذه العلامة ما كان يعرفه بحيرى وسلمان والأحباش الذين كانوا يريدون اختطاف محمد وهو رضيع؟

وأخيراً إذا ثبت - وسنبحث فيما بعد هذا الاحتمال - أن أهل المدينة كان بينهم نصارى، فإن عدم ورود شيء في قصة سلمان عن أي اتصال تم بينه وبينهم قبل إسلامه يكون قرينة إضافية على اختلاق هذه القصة.

2 - وفد نصارى نجران(8)

وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران، ستون راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، في الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم: العاقب، أمير القوم وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد، لهم ثمالهم (وثمال القوم: هو أصلهم الذي يقصدون إليه، ويقوم بأمورهم وشئونهم)، وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة، أحد بني بكر بن وائل، أسقفهم (الأسقف: عظيم النصارى) وجدهم وإمامهم، وصاحب مدراسهم.

وكان أبو حارثة قد شرف فيهم، ودرس كتبهم، حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من النصرانية قد شرَّفوه وموَّلوه، وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عن علمه واجتهاده في دينهم.

فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران، جلس أبو حارثة على بغلة له موجَّهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى جنبه أخ له، يقال له كوز بن علقمة، فعثرت بغلة أبي حارثة، فقال كوز: تعس الأبعد: يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست! فقال: ولم يا أخي؟ قال: والله إنه لَلنبي الذي كنا ننتظر؛ فقال له كوز: ما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا ومولونا وأكرمونا، وقد أبَوا إلا خلافه، فلو فعلتُ نـزعوا منا كل ما ترى. فأضمر عليها منه أخوه كوز بن علقمة، حتى أسلم بعد ذلك، فهو كان يحدث عنه هذا الحديث.

ولما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، دخلوا عليه مسجده حين صلَّى العصر، عليهم ثياب الحبرات، جُبَب وأردية، في جمال رجال بني الحارث بن كعب. يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ: ما رأينا وفداً مثلهم، وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلُّون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم؛ فَصَلُّوا إلى المشرق.  

فكانت تسمية الأربعة عشر، الذين يئول إليهم أمرهم: العاقب، وهو عبد المسيح؛ والسيد وهو الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بني بكر بن وائل، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، ونبيه، وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، ويُحَنَّس، في ستين راكباً. فكلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، والأيهم السيد - وهم من النصرانية على دين الملك، مع اختلاف من أمرهم، يقولون: هو الله، ويقولون: هو ولد الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة. وكذلك قول النصرانية.

فهم يحتجُّون في قولهم: "هو الله" بأنه كان يُحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائراً. وذلك كله بأمر الله تبارك وتعالى: "ولنجعله آية للناس". 

ويحتجُّون في قولهم: "إنه ولد الله" بأنهم يقولون: لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله.

ويحتجّون في قولهم: "إنه ثالث ثلاثة" بقول الله: فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا. فيقولون: لو كان واحداً ما قال إلا فعلتُ، وأمرتُ، وخلقتُ، وقضيتُ. ولكنه هو وعيسى بن مريم. ففي كل ذلك من قولهم قد نـزل القرآن - فلما كلمه الحبران، قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلما؛ قالا: قد أسلمنا؛ قال: إنكما لم تسلما فأسلِما؛ قالا: بلي، قد أسلمنا قبلك.(9) قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنـزير؛ قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهما.

فأنـزل الله تعالى في ذلك من قولهم، واختلاف أمرهم كله، صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.

فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عنه، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أُمر به من ملاعنتهم(10) إن ردوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك؛ فقالوا له: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. فانصرفوا عنه، ثم خَلَوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح، ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعَن قومٌ نبياً قط فبقي كبيرهم، ولا نَبَت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادِعوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضاً.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني العشية أبعث معكم القويْ الأمين. فكان عمر بن الخطاب يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرُحت إلى الظهر مهجِّراً، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلَّم، ثم نظر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح؛ فدعاه فقال: اخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه، قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة. 

التحليل

هذه الرواية تحير قارئها في عدة نقاط هي:

1- ما السبب في أن وفد نجران كان كبيراً إلى هذه الدرجة؟ لماذا يقوم ستون شخصاً برحلة تزيد على ألف كيلومتر على ظهور الجمال، مع كل ما تقتضيه من نفقات وإرهاق وعناء، إذا كان غرضها الوحيد هو التعرُّف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والسؤال عن الدِّين الذي جاء به؟ لماذا لم يكن هذا الوفد مكوناً من المسئولين الثلاثة الذين كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

2- قدوم وفد بهذا العدد كان ولابد من الأحداث الهامة التي وقعت في السنة الأولى من الهجرة وكان يستحق بهذه المثابة أن يوصف في مختلف جوانبه. والحاصل أن التفاصيل التي ذُكرت عنه والمساحة التي خُصصت له في "السيرة" لا تتمشى لا مع نتائجه ولا مع أهميته.

3- هناك من بين المعجزات التي أشار إليها النصارى معجزة لم ترد في الأناجيل المعروفة، وهي تكلم السيد المسيح في المهد.

4- جملة: "لقد عرفتم أن محمداً نبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم" على لسان صاحب الرأي في الوفد تثير مشكلة: أولاً، لأن النصارى لا يصفون السيد المسيح حين يتحدثون عنه بأنه "صاحبهم"، ثم لأن معنى هذه الجملة هو أن جميع أعضاء الوفد كانوا يعترفون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وإذا كان الأمر كذلك فلمَ إذاً كلفوا أنفسهم مئونة شدِّ الرحال إليه ولمَ لم يعلن أحد منهم دخوله في الإسلام غير كوز، الذي حكى حكايتهم؟

5- نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في تعريف هذا الوفد القادم من بعيد بالإسلام يبدو للوهلة الأولى أقل حصافة من ذلك الذي اتبعه جعفر في بلاد الحبشة. ذلك أن النص يخبرنا في حديث الفترة المكية أن قريشاً بعثوا برجلين هما عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص للنجاشي ليرد عليهم من هاجر إلى بلده من المسلمين، وأن النجاشي، قبل أن يتخذ قراراً في الموضوع أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، ولما جاءوا، دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سأل النجاشي المسلمين: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل. فكان الذي حدثه جعفر بن أبي طالب وشرح له تعاليم الإسلام والظروف التي جعلته هو وأصحابه يخرجون إلى بلاده. وسأله النجاشي: هل معك مما جاء به (رسولكم) عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه عليَّ. فقرأ عليه صدراً من: "كهيعص". فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا الذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، وقال للمبعوثين: انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما. ثم غدا عمرو بن العاص من الغد على النجاشي فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً. فأرسل النجاشي إلى المسلمين. فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً، ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود. ورفض النجاشي أن يرد المسلمين إلى مكة، بل إنه أسلم سراً.(11)  

ومن الصعب تبين السبب الذي منع الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يفعل ما فعله جعفر أمام الأحباش أي أن يتلو على الوفد آيات من القرآن الكريم، وأن يتفادى نقاط الخلاف ويركز حديثه عن نقاط الالتقاء، وفقاً للتوجيه القرآني الوارد في الآية المكية الكريمة (46) من سورة العنكبوت:

وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنـزلَ إِلَيْنَا وَأُنـزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.

أما التركيز في المناقشة على المسألة الخلافية وتجاوز ذلك إلى حدِّ وصف نصارى نجران بالكذب فكان تصرفاً مهيناً لا يُتصوَّر من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم حيال قوم قدموا إليه بحُسن نية.

6- من الغريب أن وفد النصارى، بدلاً من الامتعاض من مثل هذا الموقف غير المجامل، طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرسل معه واحداً من أصحابه ليحكم بينهم في أشياء اختلفوا فيها من أموالهم ولم يتمكنوا من تسويتها فيما بينهم.

7- لا تقول الرواية شيئاً عن إقامة أبي عبيدة بن الجراح في نجران ولا عن الاستقبال الذي استُقبل به ولا عن الطريقة التي أدى بها مهمته ولا عما إذا كان قد استطاع خلال إقامته بينهم أن يجذب إلى الإسلام نفراً من أهل نجران (على نحو ما فعل مصعب بن عمير في المدينة خلال الفترة المكية).

8- من الغريب أن النصارى كانوا يُسْلِمون بسهولة في مكة ولا يُسْلِمون في المدينة. فحديث الفترة المكية يذكر لنا أن وفداً يتكون من عشرين شخصاً من نصارى الحبشة، في رواية، ومن نصارى نجران، في رواية أخرى، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه؛ ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عزَّ وجلَّ وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله، وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره.(12)

9- كم من الوقت قضى وفد نجران في المدينة؟ وعند مَن أقاموا؟ عند اليهود؟ عند المشركين؟ عند المسلمين الذين لم يكن لديهم متسع وقد استضافوا مهاجري مكة؟ ليس في النص أي إشارة إلى هذا الموضوع.

10- النص صامت أيضاً بشأن الاتصالات التي يحتمل أن تكون قد تمت بين أعضاء الوفد ومختلف جماعات المدينة للاستعلام عن الإسلام وعن الأثر الذي أحدثه في هذا البلد.

11- من الصعب تصور أن تكون زيارة لم تترك في حديث هذه الفترة سوى هذا الأثر الضئيل هي الظرف الذي استدعى نـزول ثمانين آية تملأ أكثر من ثماني صفحات من القرآن الكريم.

12- لو أن مشركاً أو يهودياً طرح بشأن السيد المسيح عليه السلام سؤال: "فمَن أبوه؟" لكان ذلك مفهوماً فإنهم لم يكونوا يعترفون بالمسيح ولا بدينه. أما أن يطرح نصارى مثل هذا السؤال، فهذا شيءٌ غير مفهوم. وادعاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن ذلك، لم يجب فوراً عن هذا السؤال وانتظر أن يأتيه الفرج بتنـزيل قرآني، هو أيضاً أمر يثير الدهشة. وأخيراً فمن الممكن أن نعتبر أن القرآن الكريم حين قرر، في السورة ذاتها: "إن الدين عند الله الإسلام"، لم يكن يشير فحسب إلى الدين الذي بعث الله تعالى به محمداً صلى الله عليه وسلم، وإنما أيضاً إلى دين موسى ودين عيسى عليهما السلام وكذلك دين جميع من سبقهما من الأنبياء والمرسلين.

13- الآية القرآنية الكريمة التي بنيت عليها الملاعنة تقول: "أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم"؛ والحاصل أن "السيرة" لا يفهم منها، ومن الصعب تصور، أن وفد نجران كان فيه نساء وأطفال.

14- شرح الاختلافات لدى النصارى بشأن تعريف المسيح، والله، والثالوث، الذي يتكون، وفقاً للنص، من الله وعيسى ومريم، يدل على أن ابن إسحاق، رغم كل ما أوتي من العلم، وعلى الرغم من إقامته في مصر، التي كان جانب كبير من أهلها من الأقباط، كان يجهل ألف باء النصرانية.

15- ادعاء أن رئيسي الوفد قالا إنهما أسلما وإنهما قد أسلما قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الرسول أنكر عليهما هذا الانتماء، ادعاءٌ لا يخلو من سذاجة. صحيح أن لفظة "المسلم" تستخدم في القرآن الكريم أحياناً كمرادف للفظة "المؤمن"، وأن وصف "المسلم" لم يطلق فيه على أنبياء مثل نوح وموسى ويوسف فحسب، بل أطلق على اليهود في زمن موسى عليه السلام وعلى النصارى في زمن المسيح عليه السلام، فنرى اليهود في آية تتحدث عن فرعون، يدعون الله بقولهم:

رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴿126﴾[الأعراف]

كما نجد، بالنسبة للنصارى، آية كريمة تقول:

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَال َالْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"﴿52﴾[آل عمران]

إلا أن هذه التسمية القرآنية ليست من المفردات التي يستخدمها النصارى، والنصارى لا يطلقون على أنفسهم أبداً اسم المسلمين.

المحصِّــلة

سنرى، تحت العنوان التالي، ما إذا كانت هناك صلة حقيقية بين مكونات الحديث السابق والاقتباسات القرآنية التي يقول مؤلفنا إنها نـزلت في شأن نصارى نجران. لكن في مقدورنا من الآن أن نقرر أن نص ابن إسحاق، كما رأينا، ترد عليه تحفظات. وسواءً نظرنا إلى ما في عدد أعضاء الوفد من مبالغة، أو إلى الشرح المضحك للاختلافات بين النصارى في تعريفهم للمسيح عليه السلام، أو إلى قلة المادة أو عدم المصداقية في الحوار الذي يقول النص إنه دار بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين رئيس الوفد، أو إلى عدم جدية خطاب العاقب، عبد المسيح، للوفد، وأخيراً إلى عدم التناسب الصارخ بين ضخامة الحدث الذي يدعي أنه كان سبب نـزول ثمانين آية من آيات القرآن الكريم والسطور القليلة التي ترويه، فإن سمات الاختلاق في هذه الرواية من الجسامة بحيث تنـزع عنها الحد الأدنى من الموثوقية.

الاقتباسات القرآنية

سنستعرض فيما يلي، مع ملحوظاتنا، آيات سورة آل عمران التي يقول نص ابن إسحاق إنها نـزلت بمناسبة زيارة وفد نصارى نجران إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

الاقتباس رقم 1(13)

الم ﴿1﴾اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴿2﴾نـزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنـزلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ﴿3﴾مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنـزلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ﴿4﴾

النص

- "لا إله إلا هو": رداً عليهم ما ابتدعوا من الكفر، وجعلوا معه من الأنداد، واحتجاجاً بقولهم عليهم في صاحبهم، ليعرِّفهم بذلك ضلالتهم. 

- "الحي القيوم": الحي الذي لا يموت، وقد مات عيسى وصُلب في قولهم. والقيوم: القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول، وقد زال عيسى في قولهم عن مكانه الذي كان به، وذهب عنه إلى غيره.

ملحوظة:

هذا التأويل غير سليم للأسباب الآتية:

– قول "لا إله إلا الله" أو "لا إله إلا هو"، الذي يعبر عن الفكرة الأساسية الخاصة بوحدانية الله سبحانه وتعالى، وارد في عديد من السور المكية والمدنية على السواء. ومن أمثلته:

رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً  ﴿9﴾[المزمل]

– لفظتا "الحي القيوم" كصفتين من صفات الله سبحانه وتعالى، واردتان في السور المكية والمدنية، ومن أمثلة ذلك:

وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴿111﴾[طه]

اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴿255﴾[البقرة]

الاقتباس رقم 2(14)

إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ﴿5﴾[آل عمران]

النص

أي قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم في عيسى، إذ جعلوه إلهاً ورباً، وعندهم من علمه غير ذلك، غرّةً بالله، وكفراً به.

ملحوظة:

هذا التأويل يحدّ كثيراً من معنى الآية، وهي ذات نطاق عام لأنها تشير في الواقع إلى علم الله تعالى الذي وسع كل شيء علماً. والآيات التي تتحدث عن هذه الصفة الإلهية عديدة في القرآن الكريم، سواءً في السور المكية أو في السور المدنية، ومن أمثلتها هذه الآية المكية:

وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ﴿38﴾[إبراهيم]

الاقتباس رقم 3 (15)

هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء ﴿6﴾[آل عمران]

النص

أي قد كان عيسى ممن صور في الأرحام، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه، كما صور غيره من أولاد آدم، فكيف يكون إلها وقد كان بذلك المنـزل؟

ملحوظة

الملحوظة ذاتها التي أبديناها بشأن الآية السابقة التي تتحدث عن صفات الخالق سبحانه وتعالى. وفي القرآن المكي والمدني آيات عديدة بالمعنى ذاته، مثل:

وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴿64﴾[غافر]

هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴿24﴾[الحشر]

الاقتباس رقم 4(16)

هُوَ الّذِيَ أَنـزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴿7﴾[آل عمران]

النص

يشير النص في تأويل هذه الآية إلى ما ركبوا - والمقصود المتحدثون باسم وفد نجران - من الضلالة في قولهم: خلقنا وقضينا. 

ملحوظة

سبق أن أوضحنا ما في هذه الحجة من سخف. وفي الإمكان أن نضيف هنا أن هذه الآية تشير أغلب الظن إلى منافقي المدينة، فإن من غير المتصوَّر أن يؤمن يهود أو نصارى أو كفرة بجزء من القرآن، ولو كان متشابهاً. ولعل مما يؤيد قولنا هذا أن الآية (8) تتضمن دعاء يدعوه المسلمون لئلا يقعوا في هذه الخطيئة.

الاقتباس رقم 5(17)

رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴿8﴾رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴿9﴾إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ﴿10﴾كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿11﴾قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿12﴾قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ ﴿13﴾زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴿14﴾قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴿15﴾الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿16﴾الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ﴿17﴾

ملحوظة

لم يعقب النص على هذه الآيات العشر، وهي تتناول موضوعات ليس لها أية صلة بالحَدَث.

الاقتباس رقم 6(18)

شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿18﴾إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿19﴾فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴿20﴾

النص

"فإن حاجوك" (20): أي بما يأتون به من الباطل من قولهم: خلقنا وفعلنا وأمرنا، فإنما هي شبهة باطل قد عرفوا ما فيها من الحق.

ملحوظة

النص، فيما يتعلق بالآيتين (18) و (19)، يكتفي بشرح المعنى. وليس في عبارة الآية (20) ما يسمح بالتفسير الذي يورده. 

الاقتباس رقم 7(19)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿21﴾

النص

ثم جمع أهل الكتابين جميعاً، وذكر ما أحدثوا وما ابتدعوا، من اليهود والنصارى.

ملحوظات

 أ ) هذه الآية لا تتحدث عن إحداث أو ابتداع في الدين.

ب) صلتها بالآية (20)، التي تتحدث عن "الذين أوتوا الكتاب" ليست بديهية.

ج ) على فرض وجود هذه الصلة، فإن غرض الآية، وهو توعُّد من يقتلون النبيين ويأمرون بالقسط من الناس، لا يمكن بأي حال الربط بينه وبين زيارة وفد نجران. 

د ) لم يرد أي ذكر لليهود فيما رواه النص عن هذه الزيارة.

ه ) شرح النص يشير إلى الماضي. والحاصل أن محاولات بُذلت أو نوايا بُيِّتت في المدينة لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم أو لقتل المسلمين، الأمر الذي لم يرِد له أي ذكر في سياق زيارة وفد نجران.

الاقتباس رقم 8(20)

أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿22﴾أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ﴿23﴾ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴿24﴾

ملحوظة

لم يعقب النص على هذه الآيات؛ وليس في مضمونها شيءٌ يمكن أن يمت بصلة إلى الحدث المتعلق بنصارى نجران.

الاقتباس رقم 9(21)

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنـزعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿26﴾تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿27﴾

النص

أي فإنْ كنت سلطت عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إله، من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والخلق للطير من الطين، والإخبار عن الغيوب، لأجعله به آية للناس، وتصديقاً له في نبوته التي بعثته بها إلى قومه، فإن من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه تمليك الملوك بأمر النبوة، ووضعها حيث شئت، وإيلاج الليل في النهار، والنهار في الليل، وإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي، ورزق من شئت من برّ أو فاجر بغير حساب، فكل ذلك لم أسلط عيسى عليه، ولم أملِّكه إياه، أفلم تكن لهم في ذلك عبرة وبينه! أن لو كان إلهاً كان ذلك كله إليه، وهو في علمهم يهرب من الملوك، وينتقل منهم في البلاد، من بلد إلى بلد.

ملحوظة

ليس في عبارة هاتين الآيتين ما يوحي بأن الله سبحانه وتعالى عقد هنا مقارنة بين قدراته وقدرات المسيح. والتذكير بالآلاء الدالة على قدرات الخالق اللانهائية وعلمه الذي لا تحده حدود سمة من السمات الكبرى والدائمة في القرآن الكريم، وهي تعد بالعشرات. كذلك فإن المعاني التي تتضمنها هاتان الآيتان واردة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم مثل:

وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء﴿247﴾[البقرة]

مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴿10﴾[فاطر]

وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴿58﴾[الحج]

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴿13﴾[فاطر]

يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴿19﴾[الروم]

وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿212﴾[البقرة]

الاقتباس رقم 10

لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ ﴿28﴾قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿29﴾يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ ﴿30﴾

ملحوظة

ليس في النص تعقيب على هذه الآيات، وليس في مضمونها شيءٌ يمكن أن يتصل بالحدث.

الاقتباس رقم 11(22)

قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿31﴾قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴿32﴾

النص

الآية (31): أي إن كان هذا من قولكم حقاً، حباً لله وتعظيماً له، "فاتَّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"، أي ما مضى من كفركم.

الآية (32): "قل أطيعوا الله والرسول" فأنتم تعرفونه وتجدونه في كتابكم.

ملحوظات

 أ ) ما من شيء يسمح بتصوُّر أن هاتين الآيتين تتحدثان عن وفد نجران؛

ب) الآية (31) تتحدث عن ذنوب ارتكبت لا عما مضى من الكفر.

ج ) الأمر الصادر في الآية (32) بطاعة الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم لا يمت بصلة إلى اعتراف النصارى - استناداً إلى كتبهم - بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهذا الأمر وارد، فضلاً عن ذلك، في القصص القرآني المتعلق بعديد من الأنبياء السابقين. وهو، بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم، مذكور في الآيات التالية: آل عمران: (132)؛ النساء: (59)؛ المائدة: (92)؛ الأنفال: (1) و (20) و (46)؛ النور: (54)؛ محمد: (33) والمجادلة: (13).

الاقتباس رقم 12(23)

إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿33﴾ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿34﴾إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿35﴾فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿36﴾فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿37﴾

ملحوظة

النص يشرح هذه الآيات الكريمة باختصار دون أن يضيف شيئاً إلى معناها الظاهر.

الاقتباس رقم 13

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ﴿38﴾فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿39﴾قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ﴿40﴾قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ﴿41﴾

ملحوظة

لم يرد في النص تعليق على هذه الآيات الكريمة.

الاقتباس رقم 14(24)

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ﴿42﴾يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿43﴾ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴿44﴾

النص

الآية (44): كفلها جُرّيج الراهب، رجل من بني إسرائيل نجار، خرج السهم عليه بحملها، فحملها، وكان زكريا قد كفلها قبل ذلك، فأصابت بني إسرائيل أزمة شديدة، فعجز زكريا عن حملها، فاستهموا عليها أيهم يكفلها فخرج السهم على جريج الراهب بكفولها فكفلها. "وما كنت لديهم إذ يختصمون"، أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها. يخبره بخَفيِّ ما كتموا منه من العلم عندهم، لتحقيق نبوته والحجَّة عليهم بما يأتيهم به مما أخفوا منه.

ملحوظات

 أ ) الآيتان (42) و (43) لم يرد عنهما تعليق في النص.

ب) لا يذكر النص المصدر الذي استقى منه قصة الراهب اليهودي الغريب المسمى بجريج. والمعروف أن اليهود، كالمسلمين، لا رهبانية عندهم. 

ج ) الجملة الأخيرة من الآية (44) تشير إلى الجملة التي قبلها، وموضوع الخلاف فيها هو مَن يكفل مريم، ولا صلة بينها وبين ما كان أعضاء وفد نجران يختصمون فيه بشأن تحقيق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

الاقتباس رقم 15(25)

َإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿45﴾وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿46﴾

النص

الآية (45): أي هكذا كان أمره، لا كما تقولون فيه.

الآية (46): يخبرهم بحالاته التي يتقلب فيها في عمره، كتقلُّب بني آدم في أعمارهم، صغاراً وكباراً، إلا أن الله خصه بالكلام في مهده آيةً لنبوته، وتعريفاً للعباد بمواقع قدرته.

ملحوظة

ورد في حديث الهجرة إلى الحبشة خلال الفترة المكية، كما سبق القول، أن جعفر، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، تلا على النجاشي وعلى بطارقته صدراً من "كهيعص" أي سورة مريم. والمعلومات الواردة في الآيتين (45) و (46) كانت إذاً معروفة، والنص لا يقول أنهما نـزلتا بصدد خلاف في الرأي حول السيد المسيح. 

الاقتباس رقم 16(26)

قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿47﴾وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ﴿48﴾وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿49﴾وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿50﴾إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴿51﴾

ملحوظة

النص يكتفي بشرح معنى هذه الآيات دون أن يضيف شيئاً تاريخياً، إلا الآية (50) فيقول: أي تبرياً من الذين يقولون فيه واحتجاجاً لربه عليهم.

الاقتباس رقم 17(27)

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿52﴾

النص

لا ما يقول هؤلاء الذين يحاجُّونك فيه.

ملحوظتان

أ ) النص يريد أن يقول إن الحواريين الذين تتحدث عنهم الآية كانوا مسلمين حقيقيين بخلاف أعضاء الوفد الذين ادعوا أنهم أسلموا. ولكننا شرحنا أن النصارى لا يسمون أنفسهم مسلمين.

ب) هناك في حديث الفترة المكية قرينة على أن المؤلف كان يعتبر أن هذه الآية نـزلت في مكة، لا بمناسبة لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم بوفد نجران في المدينة. هذه القرينة هي جملة وردت في وصف ما دار في الاجتماع الذي عُقدت فيه بيعة الحرب، طبقاً لما يقوله النص، قبل الهجرة بوقت قصير. فقد ذكر النص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنقباء الاثني عشر الذين انتخبهم الحجاج الثلاثة والسبعون الحاضرون: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي؟(28)وهذه إشارة ضمنية إلى الآية التي نحن بصددها وإلى آية لاحقة بالمعنى ذاته [الصف: 14].

الاقتباس رقم 18(29)

رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنـزلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴿53﴾وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴿54﴾إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿55﴾فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿56﴾وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿57﴾

ملحوظة

شرح في كلمات لكل آية من هذه الآيات، دون أي عنصر تاريخي.

الاقتباس رقم 19(30)

ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴿58﴾

النص

"ذلك نتلوه عليك" يا محمد " من الآيات والذكر الحكيم" القاطع الفاصل الحق، الذي لا يخالطه الباطل، من الخبر عن عيسى، وعما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلنَّ خبراً غيره.

ملحوظة

هذا إذاً تحذير موجه للرسول صلى الله عليه وسلم يتصل بالحدث اتصالاً مباشراً وفقاً للنص. ولكن الآيات التي تؤدي معنى الآية المذكورة كثيرة في القرآن الكريم منذ بداية الدعوة، وهي لا تتصل بأي حدث معين. وفيما يلي أمثلة مكية عليها:

الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ.﴿1﴾[الحجر]

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴿6﴾[الجاثية]

طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ﴿1﴾[النمل]

الاقتباس رقم 20(31)

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿59﴾الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ﴿60﴾فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴿61﴾إِنَّ هَذَا لَهوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿62﴾فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ﴿63﴾

ملحوظة

مجرد شرح للمعنى، دون أي عنصر تاريخي.

الاقتباس رقم 21(32)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿64﴾

النص

فدعاهم إلى النَّصَف، وقطع عنهم الحجة.

ملحوظة

النص يقصر المعنى الواسع جداً لهذه الآية، التي تتجه إلى جميع أهل الكتاب، سواء أكانوا يهوداً أو نصارى، والتي تعالج مسألة أساسية تتعلق بالعقيدة، على أعضاء وفد من النصارى قدموا إلى المدينة لزيارة للرسول صلى الله عليه وسلم استغرقت أياماً قليلة.

الاقتباس رقم 22(33)

يَا أَهلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنـزلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴿65﴾هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴿66﴾مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿67﴾إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴿68﴾وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿69﴾يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ﴿70﴾يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿71﴾وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنـزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿72﴾وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿73﴾يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿74﴾وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿75﴾بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴿76﴾إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿77﴾وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿78﴾مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ﴿79﴾وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴿80﴾وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ﴿81﴾فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿82﴾أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴿83﴾        

ملحوظات

 أ ) ليس في النص أي تعليق على هذه الآيات التسع عشرة التي تكمل جزء سورة آل عمران الذي يقول إنه نـزل في وفد نصارى نجران الذي قدم إلى المدينة للقاء الرسول صلى الله عليه وسلم.

ب) وهو لا يعلق حتى على الآيتين (79) و (80) اللتين تشيران، فما هو ظاهر، إلى النصارى.

ج ) معظم الآيات، في هذا السياق الطويل، تتحدث عن أهل الكتاب. وكان من المهم أن يوضح النص ما إذا كان المقصود بهذا التعبير النصارى وحدهم - ونصارى نجران على وجه التحديد - أم هم ويهود المدينة. ولكنه لم يفعل. وسنرى ما إذا كان سيعود إلى هذا الموضوع فيما بعد.

ملحوظات عامة

إذا جمَّعنا نتائج بحث المعلومات التي قدمها نص ابن إسحاق بشأن آيات سورة آل عمران المدنية، لتوصلنا إلى الأرقام التالية: 

- الآيات المنـزلة طبقاً للمؤلف ……………………………83

- الآيات التي لم يعلِّق عليها النص

(الاقتباسات 5 و 8 و 10 و 13 و 22)…………………… 42 = 51 %

- الآيات التي شَرَحَ معناها والتي لا تتضمن أي رباط مع الحدث

(الاقتباسات 12 و 16 و 18 و 29) ……………………  20 = 24%

- الآيات التي ربط بينها وبين الحدث ………………………  21 = 25%

إذاً فنسبة الآيات التي يدعي المؤلف أنها نـزلت في زيارة وفد نصارى نجران الستين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، والتي يدلي فيها النص بتعليق يربط فيها هذه الزيارة بتنـزيل الثمانين (أو بالأحرى الثلاث والثمانين) آية الأولى من سورة آل عمران برابطة السببية، لا تزيد على الربع. ولكننا إذا أمعنَّا النظر في هذه التعليقات لوجدنا ما يأتي:

1- الشروح غامضة للغاية والصلة التي تحاول إقامتها بين الحدث والتنـزيل القرآني صلة واهية.

2- ابن إسحاق، في معظم الحالات، يخرج الآيات ذات النطاق العام، كتلك التي تتعلق بوحدانية الله سبحانه وتعالى أو بصفاته أو بقدراته، وهي كثيرة في القرآن الكريم، من سياقها ويضيق معناها تضييقاً شديداً، بصورة مصطنعة، لكي يجعلها تناسب الحدث الصغير الذي يرويه.

3- الصلة بين القرآن الكريم والحدث، حتى من حيث الألفاظ، مفتقَدة في بعض الحالات: فالمؤلف يرى الثالوث مثلاً حيث يشير القرآن الكريم إلى المنافقين؛ وهو يرى الإحداث في الدين حيث يتحدث القرآن عن قتل الأنبياء والصالحين؛ وهو يرى الكفر حيث يتحدث القرآن عن الخطايا.

4- شروح النص يفهم منها أحياناً، بصورة ضمنية، أن الرسول صلى الله عليه وسلم، حين وصل الوفد إلى المدينة، كانت معلوماته عن السيد المسيح غير كافية وأنه إنما زُوِّد بهذه المعلومات ليتمكن من الرد على الحجج التي أدلى بها الوفد المذكور. ولكن قراءة الآيات الكريمة التي علَّق عليها النص قراءة بسيطة لا تترك عند المرء على الإطلاق انطباعاً بان الغرض من تنـزيلها كان الرد على حجة من الحجج، وهي توحي بأن هذه الآيات كانت استكمالاً طبيعياً لقصة آل عمران التي بدأت في الآية (35) من السورة التي تحمل هذا الاسم. 

5- شروح النص لا تتمشى أحياناً مع بعض المعطيات الأخرى التي يقدمها والتي تستند إلى ذات العناصر القرآنية، كما في تعليقاته على الآيتين (45) و (46) والآية (52).

6- بعض الآيات الكريمة، في الجزء الذي يشير إليه النص، لا صلة لها إطلاقاً بمعطيات الحدث، كالآيات التي تتحدث عن إبراهيم عليه السلام وعن أهل الكتاب، أي الآيات من (65) إلى (83).  

المحصِّـلة

استناداً إلى التحليل السابق، ليست هناك، في رأينا، أية صلة - ولو بعيدة - بين الآيات الثلاث والثمانين الأولى من سورة آل عمران وقدوم وفد نصارى نجران المزعوم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الذي حدا بابن إسحاق إلى اختلاق قصة هذا الوفد؟

هناك إجابتان ممكنتان:

- الأولى هي أنه رأى أن في سور القرآن المدنية حديثاً عن النصارى وأن من واجبه أن يفسر ذلك.

- والثانية هي أنه كان يستجيب لتحيزه المدني. هذا التحيز الذي يدفعه دائماً إلى تقديم مواطنيه على أنهم وحدهم الذين تقبلوا الإسلام وأقبلوا عليه بكل جوارحهم وتقديم غيرهم على أنهم رفضوه. وأمثلة هذا التحيز عديدة سواءً في حديث الفترة المكية أو في حديث الفترة المدنية. وأكبر شواهده خلال الفترة المدنية هو ما رأيناه من تأكيد أن كل أهل المدينة تقريباً قد دخلوا في الإسلام خلال سنة واحدة من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بلدتهم، وأن أهل المدينة كانوا جميعهم أنصاراً، في الوقت الذي لم يتعدَّ عدد من أسلموا من أهل مكة، خلال السنوات الثلاث عشرة التي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دينه فيها، عدد من هاجروا معه إلى المدينة، أي ثمانية وسبعون.

ومن هنا، فإن إسلام كل أو جزء من أفراد الوفد النجراني كان من شأنه إلقاء بعض الظل على هذه الصورة المثالية التي دأب ابن إسحاق على رسمها لأهل المدينة. لذلك كان يتعين أن يعود الوفد إلى دياره دون أن يُسلم من أعضائه سوى نفر واحد، على الرغم من أنهم كانوا يعلمون جميعاً، فيما يقول النص، أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان النبي المنتظر. وضخامة حجم هذا الوفد، كانت تهدف، في رأينا، إلى تبرير نـزول عدد كبير من الآيات القرآنية التي تتحدث عن النصارى، وإلى إبراز كون أعضاء الوفد قد رفضوا الإسلام، على خلفية تصور انضمام أهل المدينة، في أغلبيتهم الساحقة، إلى الدين الجديد.

أما بالنسبة لمكة فقد كان الوضع مختلفاً: فإن إسلام عشرين من النصارى (نصارى الحبشة أو نجران)، بعد جلسة واحدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يكن يسيء إلى أهل المدينة في شيء، إذ أن الإسلام لم يصل إليهم إلا في وقت لاحق. ولكنه كان يسيء إلى أهل مكة الذين كانوا يعادون الإسلام، في رأي مؤلفنا، عداءً جماعياً قاسياً. وكان اختلاف موقف النصارى إزاء الإسلام بعد لقائهم مع الرسول في المدينة عن موقفهم منه في مكة يستحق شرحاً من جانب مؤلف "السيرة"، ولكن ابن إسحاق لا يعين قارئه دائماً على الخروج من المآزق والطرق المسدودة التي تضعه فيها بعض تقريراته غير المنطقية وبعض تناقضاته.

أما منهجه في بناء ما يبدو لنا خداعاً وتزييفاً، فهو المنهج ذاته الذي اتبعه المؤلف في ظروف أخرى. وهو يتحصل في مرحلتين: استخدام بعض ما جاء في القرآن الكريم من عناصر لابتداع حدث ذي طابع تاريخي، ثم تقديم العناصر التي استخدمها في البداية على أنها آيات قرآنية نـزلت في وقت لاحق بمناسبة الحدث الذي ابتدعه.

وفي معظم الحالات الأخرى التي اتبع فيها هذا المنهج، والتي كان القرآن المقتبس فيها يتكون من آية أو من مجموعة من الآيات، كان خداع القارئ يسيراً. أما في هذه الحالة، التي تنصب على ثلاث وثمانين آية قرآنية، فإن محاولات المؤلف لا تحقق الحد الأدنى من قوة الإقناع. وما بين الآيات المغفلة، والآيات التي يكتفي النص بشرحها شرحاً لغوياً، والآيات التي يؤولها تأويلاً ما أنـزل الله به من سلطان، والآيات التي ورد معناها في تنـزيل سابق أو لاحق، فإن هذه المحاولة لا تقدِّم شيئاً يُعْتدّ به.

وأخيراً لا يقول النص ما إذا كان وفد نجران لا يزال بالمدينة حين نـزلت آيات سورة آل عمران الثلاث والثمانين الأولى، وما إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أبلغهم بها، ولا يخبرنا عن رد فعلهم إذا كان قد فعل.



(1)
"السيرة"، ص 214 – 222 .

(2) الإشارة هنا هي إلى الآية: وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ. [آل عمران: 81].

(4) ص 167.

(5) ص 182.  

(6) ص 282.

(7)ص 437.

(8) الصفحات 573 إلى 584، والعنوان الوارد في "السيرة" هو: "أمر السيد والعاقب وذكر المباهلة".

 (9) جيوم يترجم هاتين الجملتين لا على أساس أن المقصود هو الدخول في الإسلام وإنما أن المقصود هو التسليم أي الخضوع.

(10) الإشارة هي، كما هو واضح، إلى قوله تعالى: "فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ" [آل عمران: 61].

(11) ص ص  333 – 338.

(12) ص 391.

(18) ص ص 577 و 578.

(25) ص 508.

(26) ص ص 580 و 581.

(31) صص 582 و 583.

(32) ص  583.

(33) ص  583.

اجمالي القراءات 28967