مقدمة
نرجو أن تخيب توقعاتنا وينجح الرئيس المصرى الاخوانى د محمد مرسى فى الخروج بمصر من مأزقها الحالى ، وان تعود مصر الى نفسها وريادتها ودورها ، وأن تنجو من متاعب الفترة الانتقالية من حكم العسكر الى حكم مدنى ديمقراطى . هذا الرجاء مبعثه القلق على مصر من هواجس يؤكدها أن توقعاتنا المتكررة بفشل الإخوان تأتى تصرفات الرئيس د محمد مرسى لتؤكدها .. ونتمنى أن يخيّب هذه التوقعات بأن يكون رئيسا مصريا فقط ، وألّا يكون رئيسا أخوانيا .ونعطى التفاصيل
أولا :
1 ـ سئلت : ( هل سيفلح الاخوان المسلمون فى التحدى بعد أن وصلوا للحكم فى مصر ؟.) وقلت : ( لقد عانى الاخوان للوصول للحكم دون ان يفكروا فى كيفية الحكم ). ولأنها عبارة لم تقل كل المراد ولم توضح كل المقصود . لذا أكتب هذا المقال للتوضيح .
2 ـ قلنا ونقول إن فشل الاخوان فى الحكم حتمى لو حكموا كإخوان وهابيين ( مسلمين ) . وقلنا من قبل ونعيد القول إن أهم سبب لحتمية هذا الفشل يكمن فى تناقض شعاراتهم مع الواقع ، وأن هذا التناقض مبعثه عدم وجود اجتهاد فكرى اسلامى ينتج برنامجا اسلاميا حقيقيا للحكم ، يؤكّد حقيقة أن الاسلام صالح لكل زمان ومكان . هذا الاجتهاد الفكرى الاسلامى يقوم به أهل القرآن ويقدمونه مجانا متاحا للتطبيق . وهذا الاجتهاد الذى نقوم به يثبت أن الاسلام هو دين الحرية المطلقة فى الدين ( عقيدة وشعائر ودعوة ) لكل فرد ولكل طائفة وعلى أساس المساواة المطلقة بين المواطنين ، لكل فرد حريته فى العقيدة وحريته فى إقامة الشعائر وحريته فى الدعوة لدينه ومذهبه وملته ونحلته ، وحريته المطلقة فى نقد أديان الآخرين ومذاهبهم ومعتقداتهم،والحرية المطلقة فى الرأى والفكر والابداع العلمى والفنّى ، وموعدنا جميعا أمام رب العزة ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون ، وأن الهداية مسئولية شخصية فمن اهتدى فقد اهتدى لنفسه ومن ضل فقد ضلّ عليها ، وأن مسئولية الدولة ليست إدخال الناس للجنة ولكن خدمة الفرد والمجتمع . وإجتهادنا يؤكّد أن الاسلام هو دين العدل فى السياسة بمعنى الديمقراطية المباشرة وهذه هى الشورى الاسلامية الحقيقية ، وهو العدل الاجتماعى والعدل القضائى والتكافل الاجتماعى ، وحق الفرد المواطن فى الأمن وفى تكافؤ الفرص . وأن يكون نظام الحكم فى خدمة الفرد وفى تأمين حصوله على حريته فى الدين وفى الثروة وفى العدل والأمن وتأمين احتياجاته الأساس فى الغذاء والتعليم والحياة الكريمة . يرفض الوهابيون والاخوان والسلفيون هذا الاجتهاد الذى تؤكده آلاف الأبحاث التى ينشرها أعمدة أهل القرآن ، وبسبب هذا الاجتهاد فى تجلية حقائق الاسلام وتبرئته من التطرف والتعصب والارهاب والتزمت لا زلنا نعانى من اضطهاد الاخوان والسلفيين وكل الوهابيين والمستبدين ، ويطاردنا قانون (إزدراء الدين ) وحملات التكفير ودعوات القتل والاستئصال . هم يختلفون فى السياسة ولكن يتّحدون فى مطاردتنا ، لا فارق بين من يزعم الاعتدال ويخفى أنيابه كالاخوان أو من يكشف بصراحة عن أنيابه كالسلفيين والقاعدة .
3 ـ خلال ثمانين عاما من معاناة الوصول الى الحكم ومن التآمر للوصول الى الحكم نجح الاخوان فى المراوغة فى الاجابة عن سؤال : كيف يمكن تطبيق الشريعة التى يدعون اليها ، وماهية الشريعة التى يريدون تطبيقها ، وكيف يكون الاسلام هو الحل ، وكيف يكون القرآن دستورهم ، وهم الذين يمقتون ( أهل القرآن ) وكيف يكون القرآن دستورهم وهم الذين يرفضون دعوة ( أهل القرآن ) بالاحتكام الى القرآن . نجحوا فى المراوغة ثمانين عاما استهلكوها فى الوصول الى الحكم . وعندما وصلوا الى الحكم إكتشفوا أنهم لم يعطوا وقتا خلال ثمانين عاما لمناقشة كيفية الحكم . ومن هنا وقع الاخوان فى ( حيص بيص ) أى فى شدة يصعب التخلص منها كما يقول الأزهريون .
4 ـ نجح الإخوان فى تأجيل الاجابة عن سؤال ( كيف يحكمون وكيف يطبقون الشريعة ) لأن الاجابة عليه كفيلة بهدم دعوتهم للوصول للحكم ، وكفيلة بوقوعهم فى شقاق ونزاع وتكفير متبادل يتحوّل فيه ( الاخوان ) الى (أعداء ). فحقيقة الشريعة التى يؤمنون بها هى شريعة القرون الوسطى التى كانت مطبقة من عصر الأمويين الى عصر العثمانيين ، والتى تقوم على الاكراه فى الدين وظلم الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية وظلم المرأة والاستبداد السياسى بكل ما تعنيه الدولة الدينية فى تقسيم العالم الى معسكر الايمان ومعسكر الكفر ، وحدّ الردة وقتل الزنديق ( أى المفكر المسلم المعارض لهم ) بلا محاكمة وعند العثور عليه ، وقتله حتى لو تاب . حسبما قاله ابن تيمية ثم سيد سابق فى (فقه السنة )وأبوبكر الجزائرى فى ( منهاج المسلم ) .
من يزعم الاعتدال لا يستطيع إنكار تلك الشريعة السّنية الدموية لأنها تقوم على أحاديث ( نبوية ) بزعمهم ، ولو أنكروها لأصبحوا مثلنا ( منكرى سنّة ). بل إن هذه الشريعة السنية هى التى تضمن للحاكم الاستبداد باسم الاسلام وتريحه من صداع المعارضة ومن عناء التبرير والشرح للناس ، ومن التوسل اليهم فى الحملات الانتخابية ومن القلق من خسارة الحكم بتداول السلطة . الشريعة السّنية تجعل الحاكم الاها على شعبه ممثلا لله جل وعلا على الأرض ، من أطاعه أطاع الله ومن عصاه عصى الله ، وهذا الاله الحاكم المتأله ليس مسئولا أمام الناس ، هو فقط مسئول أمام الله يوم القيامة لأنه يحكم باسم الله وهو المعبّر عن سيادة الله على الأرض . هذه هى ( الحاكمية ) الالهية التى فصّل القول فيها سيد قطب وأبو الأعلى المودودى وغيرهما . ولكن التصريح بها وسط مجتمع لم يقتنع بعد بهذه الأفكار يعنى فشل المشروع . إذن بالتالى لا بد من تجاهل التصريح بماهية الحكم وماهية الشريعة ، ولا بد من الخداع واستعمال الديمقراطية طريقا للوصول ، وإنتظار اللحظة المناسبة الآتية بلا ريب .
5 ـ لذا فإن خطة الاخوان تتضمن مرحلتين : مرحلة الدعوة أو التربية، ثم مرحلة التمكين وتطبيق الحاكمية . فى مرحلة الدعوة توزّع العمل بين الاخوان والسلفيين ، فالاخوان يشاغبون نظام العسكر ويدفعونه للتحالف مع السلفيين الذين يرفضون الخروج على الحاكم ، وبالتحالف بين النظام والسلفيين أمكن للسلفيين السيطرة على المساجد والتعليم والاعلام ، وتمكنوا خلال أربعين عاما من صياغة العقل المصرى ـ خصوصا أغلبيته الصامتة ـ لتؤمن أن الوهابية هى الاسلام ، ولتجعل من يناقش الوهابية وسنّتها كافرا حتى لو إحتكم للقرآن الكريم . بل ونجح السلفيون وأئمتهم فى إختراق الأمن والعسكر وسائر أجهزة الدولة بالفكر الوهابى فإقتنعوا بأنه الاسلام . النجاح الأكبر هنا هو خداع العسكر بأن الاخوان مجرد تنظيم سياسى يسعى للوصول الى الحكم ، وإغفالهم أن الخطر فى ثقافة الاخوان الوهابية التى تجمعهم بالسلفية ، والتى يتشربها المسلمون المصريون صباح مساء . كان المطلوب أن تستمر فترة الدعوة الى أن تنجح فى السيطرة على المصريين المسلمين وتجعلهم ـ أو تجعل الأغلبية العظمى منهم يؤمنون بأحقية حكم مصر لمن يمثل ( الاسلام ) أى ( الوهابية ) ، وبذلك تسقط مصر راكعة للإخوان بلا مقاومة ، وبذلك يتم تطبيق الحاكمية الالهية ، بعد أن أصبحت حقيقة مصونة عن النقاش . وكان فى تقدير الاخوان أنّ مصر لا تزال تحتاج الى عدة سنوات حتى تتشبع بفكر الاخوان وتقبل الحاكمية ، لذا كان لا مانع لديهم من التوريث ، فالوريث هو مرحلة انتقالية يتمتعون فيها بفرصة أكبر ونفوذ أكبر ، وسيفشل فى النهاية لتسقط مصر ثمرة ناضجة بين أيديهم .
6 ـ ثم كانت المفاجأة ..ثورة الشعب المصرى فى 25 يناير وسقوط مبارك ..هذه الثورة قلبت خطة الاخوان ، فدخلوا فى مربع ( حيص بيص ) . لم يكن فى حسبانهم نشوب هذه الثورة ، بدأ ( الحيص بيص ) فى وقوفهم ضد الثورة مع ما يعنيه هذا لهم من اتهامات ، ولكن عندما صمدت الثورة ونجحت إنضم لها الاخوان والسلفيون على أمل أن يستفيدوا منها بأكبر قدر بالتلاعب بالمجلس العسكرى ، وقد نجحوا فى التلاعب بالمجلس العسكرى فتمت الانتخابات بما يناسب الاخوان وبما يقطع الطريق على القوى المدنية والليبرالية والشبابية التى تحتاج الى وقت لتأسيس جذور لها فى العمق المصرى . وصل الاخوان للحكم فى الرئاسة وقبله مجلسا الشعب والشورى ثم تأسيسية الدستور . وفاز الاخوان بالتحالف مع أمريكا ، وانتقل ( الحيص بيص ) الى المجلس العسكرى وجنرالات مبارك ، والصراع بينهما معروف ومكشوف ، ولكن الواضح أن الاخوان يكسبون على حساب العسكر .. هذا مع إن الاخوان لا يزالون من ( الحيص بيص ).
7 ـ قلت لسائلى : ( لقد عانى الاخوان للوصول للحكم دون ان يفكروا فى كيفية الحكم ). وهذا صحيح لأنهم لم يكونوا بحاجة للتفكير فى كيفية الحكم . فستعفيهم الحاكمية من التفكير . فالحاكمية حين يحكمون بها باستبداد دينى وهابى على نسق الخليفة العباسى والعثمانى والملك السعودى ستعفيهم من كل شىء ومن كل إلتزام مع سلطة مطلقة .! ..ألا يكفى أن يحكم المملكة السعودية رجل أمّى لا يعرف القراءة والكتابة ( الملك خالد ثم الملك عبد الله ) ؟ ..ومع ذلك فالحال عال العال ..ومن لا يعجبه الحال فالسجن مصيره أو القتل بتهمة العيب فى ( ولى الأمر ) .!!.
ولكن الثورة المصرية التى إختطفها الاخوان فى جوعهم وعطشهم للسلطة أوقعنهم فى حيص بيص جديد هو التعامل مع الفرقاء السياسيين والمجتمع المصرى الذى لم يتشرب بعد الحاكمية . لقد وصلوا للحكم عن طريق غيرهم وهم ثوار التحرير ، وهناك فرقاء سياسيون مختلفون مع بعضهم ومختلفون مع الاخوان ولكنهم جميعا منتبهون للإخوان ومستعدون لمحاسبتهم ، وفى أشد الحرص على الايقاع بالاخوان فى اقرب فرصة . الحيص بيص هنا أن الاخوان لم يستعدوا لهذا المأزق . استعدوا فقط لأن يكون الشعب مثل أعضاء الاخوان يركعون أمام المرشد يقبلون يديه الكريمتين ، فإذا بالشعب لم يتشرب الحاكمية بعد ، بل والشباب على الانترنت يسلطون سهام السخرية والنقد على الاخوان ومرشدهم ورئيسهم وزعمائهم .
الحيص بيص هنا أن الاخوان لهم مهلة فى الحكم ليثبتوا أهليتهم فى ( خدمة ) الشعب وليس ( قهر) الشعب ، وخلال هذه المهلة الرئاسية للدكتور محمد مرسى فالأعين متفتّحة والأيدى متحفزة ، وكل شىء تحت الضوء فى عصر أصبحت فيه المعركة بالخبر وبالتعليق وبالكلمة وعلى الانترنت والقنوات الفضائية قبل الصحف المكتوبة .
الحيص بيص هنا أن الاخوان مجبرون على التعامل بثقافة العصر الراهن وليس بثقافة الخليفة المتوكل العباسى أو السلطان عبد المجيد العثمانى أو الملك عبد الله السعودى . وهم ليسوا اصحاب خبرة بثقافة عصرنا ، ولم يتأهبوا لكيفية الحكم بثقافة عصرنا .
وتتجلى مظاهر الحيص بيص فى تخبط الرئيس فى سياسته ، ومرور كل هذه الأسابيع دون تأسيس مجلس وزارى ، وعجزه عن حل أهم مشكلة تعيق الاستقرار الاقتصادى وهى الانفلات الأمنى ..
أخيرا
1 ـ مصر على وشك الافلاس والانهيار الاقتصادى وعلى وشك ثورة جوع قادمة بعد أن خرّبها مبارك وعصابته . ثم جاءت الثورة فوقفت مصر على قدم واحدة إقتصاديا وأمنيا ..وجاء د. مرسى يحمل على كاهلة ( الحيص بيص ) ، وبدلا من أن يتفرغ لحل مشكلة الانفلات الأمنى والخراب الاقتصادى نجده أضاع وقتا ثمينا فى الصراع مع المجلس العسكرى ومع هيئات القضاء المصرى ليؤكد سلطته .
2 ـ كنا نتمنى للرئيس مرسى أن يدخل بسرعة وبكل همّة فى حلّ مشكلات مصر داعيا المصريين للالتفات حوله معلنا أنه لا ينوى للترشح لولاية ثانية ، فليس طالب سلطة بل يريد إنقاذ وطنه مصر ، وأن يحقق فى خلال ولايته الوحيدة هذه آمال المصريين فى الأمن وفى الرفاهية ، وأنه مع تكوين دستور مصرى حقوقى يضمن للمصريين حريتهم فى الدين وفى الكلمة وفى السياسة وفى العدل ، وأنه يريد إصلاحا حقيقيا للمنظومة التشريعية المصرية تقوم به النخبة المصرية لتتأسس الدولة المصرية على العدل وليس الظلم . لو فعل هذا سيكون النجاح حليفه ، وسيكون الرئيس المصرى الذى نتمناه . لو فعل هذا لتخلّص من الحيص بيص . ولكنه أثبت حتى الآن إنه رئيس (إخوانى ) يتبع السعودية الوهابية ، ويعمل على ( أخونة ) الدستور المصرى ، ويسعى للتكويش على السلطة ، وعلى أن يطعم المصريين ـ عنوة ـ الوهابية والحاكمية حتى ينسى المصريون ( تداول السلطة ) ويركب الاخوان مصر اليوم القيامة .
3 ـ نعيد القول : مصر على وشك الافلاس والانهيار الاقتصادى وعلى وشك ثورة جوع قادمة بعد أن خرّبها مبارك وعصابته . ثم جاءت الثورة فوقفت مصر على قدم واحدة إقتصاديا وأمنيا ..أى تحتاج مصر للخروج من أزمتها الى عشرات من أمثال البرادعى وزويل + خليط من بسمارك ومحمد على باشا واحمد بن طولون وروزفلت وعمر بن عبد العزيز والسنهورى وطلعت حرب وايرهارد الألمانى ..وتولستوى وغاندى و مارتن لوثر كنج ومانديلّا . لكن جاء لمصر (الحيص بيص )، أى محمد مرسى العيّاط . جاء عصر(العياط ) أى البكاء ..!