كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة فى عصر السلطان قايتباى ): دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى . .
الفصل التمهيدى : سابعا : أسلوب ابن الصيرفى فى صياغة المادة التاريخية
1 ـ خصوصية ابن الصيرفي المصرية الشعبية انعكست على أسلوبه الذى طغت عليه الأخطاء اللغوية والتعبيرات السوقية الشعبية وركاكة الأسلوب وغموضه. ومحقق كتاب الهصر ( د . حسن حبشى ) تتبع الأخطاء النحوية واللغوية فيه فصححها في المتن وأثبت أصل الكلمة في الهامش بمثل ما كتبها ابن الصيرفي، وقد تعددت هذه الأخطاء بحيث لا تكاد تخلو منها صفحة في الكتاب، وعلى سبيل المثال ففي صفحة 36 نرى الأخطاء التالية : ( "أبقي لكل نفر من المماليك السلطانية ألفين درهم".) والصحيح : ألفى درهم، (بل وكانوا غالب المماليك السلطانية يأخذون عوضاً".) والصحيح ( وكان غالب )، ( وصاروا المماليك يسعفوهم )، والصحيح :( وصار المماليك )،( وإن وقف له تركمانيا أو كردياً أو بدوياً أو صغيراً أو يتيماً أو بنتاً... يكتب باسمه جاميكية".) والصحيح ( تركمانى أو كردى أو بدوى أو صغير أو يتيم أو بنت.).
والأغلب في أخطائه النحوية أنه لا يفرد الفعل في بداية الجملة الفعلية فبدل أو يقول مثلاً "كان غالب المماليك يأخذون عوضاً" يقول "كانوا غالب المماليك يأخذون..." وهذا الخطأ النحوي مرده إلى اللهجة المصرية وتعودها على معاملة الفعل في الجملة بما تعامل به الاسم من أفراد وتثنيته وجمع.
2 ـ وأحياناً يخلط ابن الصيرفي أخطاءه النحوية بأخطائه اللغوية بتعبيراته العامية لتكون مزيجاً من العامية والفصحى الرديئة كقوله عن أبى المحاسن المؤرخ "( ولقد حاضرته مرات... فكنت أمشّى معه في الحوادث فلم يمشي.... ومن حين عرف أنى اشتغلت بفن التاريخ لم أعارني كتاباً من كتبه"([1]).). وتتكرر التعبير الشعبية في كتاب الهصر إلى درجة تحسب له ميزة يستفيد منها من يحاول دراسة اللهجة الشعبية في مصر المملوكية، يقول مثلاً عن المؤرخ جمال الدين أبى المحاسن "( وأوقفته أيضاً على تأليفي للسيرة النبوية الشريفة فكاد أن يتجنن"([2]).) ويقول عن إحدي النساء ( وطلقها فكادت تتجنن"([3]).)، ويقول عن المحتسب يشبك:(مع أنّ جماعة كثيرين ممن فعل بهم ذلك عميوا أوطرشوا وأما أحكامه فالبخت والنصيب"([4]).)، ويقول عن إحدي النسوة ومشاكلها مع زوجها : ( وإنها كلما طالبته بذلك يأسى عليها"([5]) ) ، أى يقسو عليها.
3 ـ وأحياناً يأتى ابن الصيرفي بباء قبل الفعل المضارع على عادة اللهجة المصرية كأن يقول "وغير ذلك أن غالب جميع أرباب الدولة....بيقدموا لعظيم الدولة"([6]).ويقول عن مقتل بعض الناس "وبيفصحوا عن قاتله"([7]). 4 ـ وقد يأتى التعبير العامى المصري شديد الخصوصية شأن الأمثلة الشعبية والتعبيرات الدارجة التى يسود استعمالها في عصر معين كقوله "وتكرر ركوب السلطان جداً وهذا من ضيق الحصيرة"([8]) والتعبير الأخير يدل على شدة الضيق ولم يعد منتشراً في عصرنا.وقد يحاول ابن الصيرفي تحسين لغته العامية ليكتب بلغة وسطى هى ما يعرف بفصحى العامية أو عامية الفصحى، وكان لا يخلو أسلوبه هذا من أخطاء لغوية كقوله "وكان يتسلط على الوزير والاستادار ... فيكتبوا له"([9]).ويقول عن علاقته ببعض أصدقائه ".. حتى لما يريد يتنزه لا يفارقنى"([10]).
5 ـ وابن اياس كان قريناً لابن الصيرفي في استعمال الأسلوب العامي إلا أن ابن اياس امتاز عن مؤرخنا بأنه جمع بين العامية وسهولة الأسلوب فقلما كان يقع في الغموض والإلتواء كشأن ابن الصيرفي.
6 ـ والواقع أن المنتظر من صاحب الأسلوب الشعبي أن يتميز بالبساطة والسهولة في التعبير. ولعل غموض الأسلوب لدى ابن الصيرفي يرجع إلى تكلفة أحياناً ومحاولته التمسك بأهداب اللغة الفصحى التى لا يجيدها، وكأنه وقف محتاراً بين عاميته التى تشربها منذ كان يعمل في الأسواق صيرفياً وجوهرياً وبين تتلمذه على أساتذة عصره مثل الكافيجي وابن حجر العسقلانى.وقد حاول أن يوازن بين عاميته التى تعودها لسانه وقلمه وبين تأثره وإعجابه بشيخه ابن حجر خصوصاً في تاريخه "إنباء الغمر بأبناء العمر" فحاول أن يقلده في "إنباء الهصر بأبناء العصر" فوقع في العامية وفي الغموض معاً.أما ابن اياس سار على سجيته أسلوبه عامياً سهلاً بسيطاً مباشراً.
7 ـ ويزيد في مأساة ابن الصيرفي في أسلوبه الغامض أن أساتذته الذين كتبوا بالفصحى الراقية كابن حجر لم يقعوا في الغموض وجاء أسلوبهم فصيحاً بسيطاً، وجاء أقران ابن الصيرفي كالسخاوى وابى المحاسن بنفس المستوى في السهولة والفصاحة تقريباً. وعندى أنه يغتفر للمؤرخ كل شيء في كتابته عدا الكذب وغموض الأسلوب ، فكلاهما حائل دون الوصول للحقيقة التاريخية للقارئ. والأمثلة كثيرة على غموض الأسلوب في الهصر، منها قوله "وأما قضية الصندوق التى تقدمت وأن الورثة تقاسموا المال انتقض عليهم وأخذ منهم ورسم على أمين الحكم وطلب منه حساب الأيتام ولولا العناية ما حصل له خير ولا شر قليل"([11]).
فصاحبنا يفترض أن القارئ على علم تام بالصندوق وموضوعه، مع أن القارئ المسكين لا يعرف من هو الذى "انتقص عليهم وأخذ منهم.. ورسم... وطلب...".
8 ـ والباحث التاريخى فى تاريخ الهصر قد يفقد هدوء أعصابه حنقا وغيظاً من ابن الصيرفي وهو يحكي بأسلوبه الغامض قصة طويلة كان للأسف شاهد عيان لها ، ومع ذلك فالغموض يغلف القصة ويفقدها روعة المعاصرة لأن المؤرخ وهو الذى عاصر الحدث وكتب عنه قد فشل في توصيل الحقائق للقارئ وربماً كان يفترض أن القارئ كان حاضراً معه أو كان لديه طرف علم بالموضوع لذا نراه يتحدث إلى من يفترض أنه يعلم ملابسات الحدث الذى يحكى عنه. والذى يبعث على الغيظ حقاً أن بعض تلك الأحداث التى رواها بهذا الشكل ملأ بها صفحات. كتابه وبالطبع فإننا لن نرهق القارئ بقصة طويلة من إحدى المجالس التى حكاها ابن الصيرفي.
9 ـ وإذا كان غموض أسلوبه باعثاً على الضيق فإن بعض سقطاته الأخرى في الأسلوب تفلح في رسم ابتسامة على وجه القارئ كقوله "وكان القاضى الحنفي الأمشاطى ضعف- أى مرض- بعد موته ولزم الوسادة وكان يترجى العافية فقبض"([12]) أى مات. والشاهد هنا قوله "ضعف بعد موته..." هل يمرض الإنسان بعد الموت؟