صباح الخير يا أطفالي الأعزاء ! !
أوّلا:
1 ـ بهذا بدأت المذيعة التلفزيونية ذات العينين اللامعتين برنامجها للأطفال , وكان طعام الإفطار أمام الأستاذ سيد أفندي في يوم أجازته وهو يفطر مع أولاده الصغار .. وانصرف الأولاد عن أطباق الفول والطعمية والسلطة واللفت وتركز اهتمامهم على برنامجهم المحبب على أمل أن يشاهدوا أفلام الكرتون .. إلا أن المذيعة ذات العينين اللامعتين ألقت خطبة عصماء قبل فيلم الكرتون , وبدأت خطابها بإعلان أنها زعلانة جدا من صديقها " أحمد " ونظر أولاد سيد أفندي إلى بعضهم يحمدون الله على أنه ليس بينهم من اسمه " أحمد " , وانطلقت المذيعة ذات العينين اللامعتين تشرح سبب غضبها من صديقها الطفل " أحمد " لأن " أحمد " يصمم دائما على عصيان أمه ، ولابد أن اسمها الست " أم أحمد " هكذا استنتج أولاد سيد أفندي . وعادوا يركزون على متابعة المذيعة ذات العينين اللامعتين ، وهي تقول أم " أحمد " غضبانة هي الأخرى من أحمد لأنه لا يسمع الكلام , وشعر أولاد سيد أفندي أنهم أيضا في حالة زعل مع أحمد لأنه لا يسمع الكلام .. وقالت المذيعة ذات العينين اللامعتين : إن أحمد يعصى أمه ويصمم على أن يأكل كثيرا من الشيكولاتة والبنبوني والجاتوه قبل أن يشرب اللبن .. وهو يفعل ذلك كثيرا خصوصا قبل النوم وعند الصباح .. والتفت أولاد سيد أفندي لأبيهم الأستاذ سيد أفندي متسائلين عن معنى البنبونى ومن أى صيدلية يمكن شراؤه ؟ ..!!. وأعطاهم سيد أفندي أذنا صماء , وراح يلعن فى سرّه اليوم الذي أخذ فيه أجازة .. وانصرف الأولاد إلى المذيعة ذات العينين اللامعتين وهي تواصل النصيحة لأحمد حتى لا يأكل كثيرا من الشيكولاتة والبنبوني والجاتوه والحلوى قبل اللبن وبعد اللبن حتى لا تتسوس أسنانه . ولكن أحمد لم يسمع الكلام . ثم بات الليل يبكي وباتت أمه إلى جانبه تبكي , وذهبت إليهم المذيعة تبكي ، فقد أصاب أحمد تسوس الأسنان .!! وذهبوا به إلى الطبيب وهو يبكي ، وعالجه الطبيب وهو يبكي .!! والسبب أن أحمد يأكل كثيرا من الشيكولاتة والبنبوني والجاتوه والحلوى قبل شرب اللبن وبعد شرب اللبن..وبعدها عرف أحمد السبب ولم يعد يأكل كثيرا من الشيكولاته والبنبونى والجاتوه والحلوى ولكنه ظل يشرب كثيرا من اللبن .. وقالت المذيعة ذات العينين اللامعتين أنها الآن تحب صديقها احمد وطالبت الأطفال جميعا ومنهم أولاد سيد أفندي بأن يحبوا أحمد لأنه يشرب الكثير من اللبن ولا يأكل الكثير من الشيكولاتة والبنبوني والجاتوه والحلوى ..وبعدها بدأت أفلام الكرتون..وانهمك الأطفال في مشاهدتها . وانتهز الأستاذ سيد أفندي فرصة للتزويغ ؛ ارتدى بنطلونه الأثري على عجل ومعه القميص الذي يصلح لرحلتي الشتاء والصيف .. وانطلق قبل أن يحاصره الأولاد بأسئلتهم الجارحة ..
2 ـ وجلس الأستاذ سيد أفندي على سور الكورنيش يفكر فيما حكته المذيعة ذات العينين اللامعتين وما علاقته وما علاقة مرتبه الشهرى الذي وصل إلى مائة وخمسين ربيعا أو جنيها ولا تكفي لشراء كوب لبن وقطعة واحدة من الشيكولاتة شهريا لكل واحد من أولاده .. وهو الآن في آخر الشهر وسيستحوذ غدا على المرتب كاملا فإذا أصابته لوثة واشترى بالمرتب لبنا وحلوى لأطفاله فكيف سيعيش بعد يوم 2 من الشهر ؟ .. والذين يكتبون هذه البرامج لتتلوها المذيعة ذات العينين اللامعتين ألا يعرفون أن 70 % من الشعب المصري على الأقل يعجز أطفالهم عن شرب اللبن وأكل الشيكولاتة والبنبوني والجاتوه والحلوى ؟ وهل إذا كان سكان التليفزيون في كوكب ماسبيرو يشربون اللبن ويأكلون الجاتوه فهل يعد ذلك مبررا لهم لكي يعايروا الغلابة بفقرهم ؟ وهل يشتري الفقراء الغلابة التليفزيون للترفيه عن أنفسهم وسط جبال المعاناة أم يشترونه بمدخراتهم القليلة لكي ينغص عليهم حياتهم أكثر وأكثر ؟ ..ونظر سيد أفندي إلى مبنى التلفزيون على الكورنيش في غل وحقد . وعاد إلى البيت وقبل أن يصعد إلى السلم تحسس جيوبه فوجد ما يكفي حتى الغد للمواصلات والطعام , فعاد إلى البقال واشترى بعض الشيكولاتة الشعبية، وعزم أن يذهب غدا للعمل على قدميه وأن يتنازل على الإفطار والشاي ..ودخل على أولاده بالشيكولاتة فرفضوها جميعا . حتى لا تسوس أسنانهم وحتى لا تغضب منهم المذيعة ذات العينين اللامعتين .. وضحك سيد أفندي وقال لأولاده : اطمئنوا فلن تسوس أسنانكم .. فللفقر مزايا لا يعرفها إلا من ابتعد عن الشيكولاتة والبنبوني والجاتوه والحلوى وكلام المذيعة ذات العينين اللامعتين.. وتليفزيون كوكب ماسبيرو..
أخيرا
1 ـ نشرت هذا من المقال فى جريدة الأحرار بتاريخ 18 / 10 / 93 ، وتحت نفس العنوان (صباح الخير يا أطفالي الأعزاء )، أتعجب ساخرا من الانفصام القائم بين التليفزيون المصرى والشعب المصرى ، حيث كان سكان التليفزيون يولّون وجوههم شطر المترفين من الحكام المفسدين وأتباعهم متجاهلين وجود الشعب المصرى الذى كانت طبقته المتوسطة مثل ( سيد أفندى ) فى هذا المقال ، يجاهد بكل ما يستطيع لكى يتجنب أطفاله مذاق الجوع . أتذكر أيام كتابة هذا المقال معاناتى الشخصية مع أسرتى بينما يذيع التليفزيون المصرى فى برنامج للطبخ كيفية شوى خروف مشوى بالمكسّرات فى فرن البوتاجاز.
أفظع ما فى الأمر فى برامج الأطفال أنها كانت تخاطب ( الجيل الصاعد ) وكان يعنى فى كوكب التاليفزيون المصرى وقتها أبناء الأكابر الذين يتم حجز ( المصاعد ) لهم مقدما للصعود الى أعلى المناصب بينما أولاد الفقراء هم المرشحون لأن يكونوا أولاد الشوارع أو أولاد التطرف . أما أبناء الفلاحين الغلابة العاجزين عن تعليم أبنائهم فليسوا مذكورين فى المعادلة أصلا . أولئك الأبناء المنشغلون بالعمل فى الحقل منذ نعومة أظفارهم هم ( الناجون من النار ) نار مشاهدة التليفزيون الحكومى، ومنتهى املهم بعد أن كبروا أن يستريحوا من رق العمل فى الأرض ليذهبوا الى دول الخليج ليكونوا بإرادتهم الحرة رقيقا للكفيل هناك . يعنى رقّ فى مصر ورقّ خارج مصر، سواء إهتم بهم التليفزيون المصرى أم لم يهتم .! .
2 ـ إزداد الحال سوءا وتفاقم مع بلوغ الأطفال ثم تخرجهم الى عالم البطالة والانترنت والاحباط والبانجو والتطرف والانحلال و التسيب واليأس من التغيير . ثم هب الشباب فجأة فى ثورة عارمة فى 25 يناير 2010 . حدث كل هذا والتليفزيون المصرى فى سباته لا يزال يولى وجهه شطر أرباب الفساد ورأس الفساد . كانت هتافات المتظاهرين وصرخات القتلى والجرحى وأصوات الرصاص تخترق نوافذ التليفزيون وهو يعيش فى دنيا الوهم والتدليس والخداع .
وانتقلت المظاهرات الى أمام مبنى التليفزيون فهبّ العسكر يقتلون المتظاهرين بكل وحشية ، لأن التليفزيون بالنسبة لهم هو ( قدس الأقداس ) فهو الذى يقوم بتسطيح العقول وتضليلها ويعمل بكل قوة على يظل الشعب راكعا ليركبه الأسياد المستبدون المفسدون . يعرف جنرالات مبارك الذين هم فى السلطة الآن أنه بدون السيطرة علي التليفزيون لا يمكن ركوب الشعب ولا يمكن تسويغ وتشريع وتبرير ضرب الشعب على قفاه على سبيل التسلية أو بدونها .!.
3 ـ والآن .. مصر تجتاز (مرحلة السيولة )و قد أصبحت (كرة قدم ) يتقاذفها العسكر والوهابيون الاخوان والسلفيون، ويرتدى هذا وذاك شعرات الثورة بعد أن داسوا على الثوار .بغض النظر عن مساحيق التجميل وأدوات التنكر وأزياء الرقص وفنون الدجل والعلم المكنون فى الضحك على الذقون فإن المعيار الحقيقى هو تحرير الاعلام وعدم سيطرة الدولة عليه على الاطلاق ، والأهم من ذلك كله أن ينصّ الدستور على مبدأ يجرّو ويحرّم ويلغى أى قانون أو قرار يتدخل فى حرية الكلمة وحرية الابداع وحرية الدين عقيدة وعبادة ودعوة ..
4 ـ مضى حوالى عشرين عاما على نشر هذا المقال ، وقبله وبعده وحتى الآن لا زلت أناضل فى سبيل الحرية ، وأضطر وأنا فى نهاية العمر لأن أستشهد بما قلته من عشرين عاما أحذّر وأعظ . ولن أعيش عشرين عاما أخرى لكى أعيد نشر هذا التعليق على ذلك المقال المنشور عام 1993. لذا أرجو من شباب مصر والعالم العربى أن يناضلوا لكى يكونوا أحرارا. هم لا يزالون فى مقتبل العمر ، ومن واجبهم الدفاع عن حاضرهم ومستقبلهم ـ وألّا يفرطوا فيه لمستبد علمانى أو دينى . وليكن الميزان هو حرية الدين والفكروالابداع للجميع ..ليبدأ كل منهم بنفسه ويجبرها على إحترام حق الآخر فى عقيدته وفكره ورأيه ، وأن يكون مستعدا للدفاع عن هذا الآخر إذا تعرض لأذى أو ظلم بسبب دينه أو مذهبه أو فكره او رأيه . لو تعلم الشباب هذا فسينجح فى إقامة ديمقراطية حقيقية . أما لو ظلّ الاعلام الحكومى قائما ومسيطرا فسيظل التعصب قائما فى القلوب ، وستتجهز البلاد لحمّامات دم مقبلة نترحم فيها على مذابح بشار الأسد والقذافى و المجلس العسكرى.!.
5 ـ الاضطهاد الدينى هو مقبرة أى نظام قائم أو قادم .. لو كنتم تعقلون .!