مظاهرات ..وزعماء ..!!

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٣ - مايو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة

هذا مقال يعبّر عن حقبة زمنية انتهت بثورة اللوتس المصرية ومظاهراتها فى ميدان التحرير ، وغيره من الميادين . ونرجو ألّا نعود الى عصر مظاهرات ما قبل ثورة يناير2010 ، التى يصورها هذا المقال الذى كان منشورا فى جريدة الأحرار بتاريخ 27 يناير 1992 .  

( مظاهرات وزعماء )

  • كانت أول تجربة لي في المظاهرات في منتصف الستينيات . كنت طالبا بالمعهد النموذجي الأزهري الذي أنشأه الدكتور محمد البهي لرعاية المتفوقين ، وكان مقر المعهد في شارع ولي العهد بالعباسية ، وكانت إقامتنا في مدينة البعوث الإسلامية ننعم بما ينعم به الطلبة المبعوثون من الدول الإسلامية من الحياة بالمجان ، وقد أنشأ عبدالناصر هذه المدينة على نمط ما كان يفعله الفرعون المصري حين كان يستقدم أبناء الطبقات العليا من خارج مصر ليعلمهم الولاء لمصر ، ولكن المظاهرة التي شاركت فيها مع أولئك المبعوثين كانت فضيحة بكل المقاييس وأطاحت بالهدف الفرعوني من استقدام المبعوثين لمصر .
  • في ذلك الوقت كانت العلاقات متوترة بين مصر وتونس بعد تصريحات الرئيس بورقيبة عن الصلح مع إسرائيل ، تلك التصريحات التي أحدثت صدمة وقتها ، وفوجئنا ونحن في مدينة البعوث بعربات نقل تأخذنا إلى شارع فاخر في وسط البلد بعد أن شحنونا بما نهتف به من شعارات ، وانطلقت المظاهرة يتقدمها أولئك الذين كانوا لنا زعماء حتى إذا جاءوا بنا إلى مبني فخم أمرونا بالتوقف والصياح عنده بأقصى ما نستطيع من شعارات عن سقوط الرجعية والإمبريالية ، ثم فوجئنا بأن الزعماء الذين كانوا في المقدمة يبتعدون عنا ويأتي مكانهم أشخاص آخرون يرتدون الزى العسكري ويحيطون بنا من كل جانب ، ثم فوجئنا بالضرب ينهال علينا من كل جانب ويشترك فيه بعض أولئك الزعماء الذين كانوا يقودوننا!!

*    وابتلعنا الهتافات وتحولت الشعارات في حلوقنا إلى صرخات ، وهرب كل منا إلى طريق ، وكان أكثرنا من الطلبة المبعوثين الذين أنستهم الصدمة قسوة الضرب وهول الموقف كل ما تعلموه من اللغة العربية فانطلقوا يصيحون بلغاتهم الأصلية مزيجا من الصراخ واللعنات على أولئك الذين استقدموهم ثم ضربوهم ، وهربت أنا مع بعض الزملاء إلى شارع جانبي وركبنا أتوبيسا لم نعرف إلي أين يتجه ولم نهتم إذ كان أقصي أملنا أن نهرب من ذلك الجحيم ، ولم نجد مكانا في ذلك الأتوبيس إلا بالتشعلق على السلم فاصطدمنا بعربة كارو كانت تمشي الهوينا ، وكانت النتيجة مروعة ، سقطنا على الأرض جرحي ومات زميل لنا .. وكانت مأساة أثبتت لي وقتها أن العمل السياسي باهظ التكاليف !!

  • ثم كانت تجربتي الثانية في المظاهرات التي حدثت بعد إعلان عبدالناصر التنحي عن الحكم إثر نكسة 67 . كنت وقتها في معهد الزقازيق بعد إلغاء المعهد النموذجي .وكنت أعيش مع قريب لي بمثابة الأخ الأكبر الذي تنبغي طاعته وتوقيره ، ورأينا أنفسنا في مظاهرة عارمة يوم 10 يونية ، وكنا بكل المشاعر الصادقة نبكي حلما سقط وزعيما ذهب ونطلب عودته ولا نتصور الحياة بدونه ، وكنا بكل الانفعال نطلب من عبدالناصر ألا يتنحى..!!!!
  • وفي تلك المظاهرة الهائلة برز زعماء كثيرون امتطى كل منهم أكتاف الناس يصرخ بلا وعى ونحن نردد خلفه بلا وعي أيضا . وفي غمرة الحماس نظر لي قريبي الذي هو بمثابة الأخ الأكبر وأظهر رغبته في أن يكون زعيما هو الآخر في تلك الزحمة ، ولأنه بمثابة الأخ الأكبر الذي تنبغي طاعته فقد رجوت صديقي الذى يهتف إلى جانبي ، رجوته أن يعاونني مشكورا في تحقيق رغبة أخينا الأكبر ، وتعاونّا معا على حمله فوق أكتافنا، وكان ثقيل الوزن ضخم الجثة ، وكنا نأمل صادقين في أن يهب لنجدتنا بعض الناس ويحملوه معنا ، ولكن ما اهتم به أحد غيرنا ، وكنا نتوقع على الأقل أن يلتف حولنا بعض الناس ليشاركونا في الهتاف ، ولكن خاب ظننا ، وهكذا قمنا بحمل ذلك الجبل على كاهلنا وسرنا ننوء بحمله ونهتز به ذات اليمين وذات الشمال ، وهو يصرخ ونحن نردد وراءه ، وأقصد بنحن أنا وصديقي فقط .. وكان هو فوق أكتافنا الهزيلة يلتفت يمينا فيهتف : لأ .. ولأ .. ولأ .. ولا .. ثم يلتفت إلى الشمال فيقول : يا عبدالناصر مالكش حق .. وكان هذا الهتاف عندنا وقتها من أروع أسلوب النقد السياسي ، وكنا ونحن نلهث نردد خلفه نفس الهتاف ، ننظر يمينا ونقول : لأ .. ولأ ..ولأ .. ولأ.. ثم نلتفت شمالا ونسعل ونكح ونقول : يا عبدالناصر مالكش حق.. 
  • وظللنا على هذا المنوال نهتف وحدنا إلى أن فوجئنا بأننا نسير وحدنا وقد خلا الشارع إلا منا ، فقد سبقتنا المظاهرة وتخلفنا وراءهم ، وأصبح منظرنا نحن الثلاثة مثيرا للسخرية والإشفاق خصوصا وأن أخانا الأكبر لا يشعر بآلامنا وإرهاقنا ولا بخلو الشارع إلا منا ، نسي ذلك كله وإستغرقته أحلام الزعامة فانهمك في الهتاف ، وحاولنا أن ننبهه أكثر من مرة إلى أنه لم يعد في الشارع سوانا وأن النساء في البلكونات ينظرن إلينا ويضحكن علينا ، ولكن صاحبنا تقمص الدور وظل يتراقص فوق أكتافنا المرهقة يلوم عبدالناصر ذات اليمين وذات الشمال ، وفي النهاية خارت قوانا فإنكفأنا به على الأرض .. وكانت فضيحة أخرى .. صممت بعدها على اعتزال العمل السياسي ، وليكن ما يكن ..!!
  • واكتفيت بعدها بالتفرج على المظاهرات وعلى أولئك الذين يمتطون ظهور خلق الله ليهتفوا : بالروح بالدم نفديك يافلان .. حتى إذا اغتيل فلان انفضوا عنه وتركوه مضرجا في دمائه ..
  • وعجيب أمر هؤلاء الزعماء ، زعماء المظاهرات وغير المظاهرات ، لماذا ننفرد نحن المستضعفين في الأرض بهذا العدد الكثير من الزعماء بينما تخلو منهم أمريكا وأوربا وهم الذين يحكمون العالم ؟ ثم لماذا تقوم المظاهرات هناك في نظام وهدوء وبلا ضجيج وبلا زعماء بينما تتحول المظاهرات عندنا إلى صراع وتخريب ودماء وزعماء ..؟
  • ثم كلمة ( زعيم ) هذه ماذا تعني ؟. إن معناها في لغة القرآن وفي لغة العرب ليس القائد وإنما تعني في الأغلب ذلك الذي "يزعم " شيئا كاذبا . فأصل الكلمة ( زعم ) أي ادعى ، يقول تعالى " زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا : 64 / 7 " ويقول تعالى عن المشركين أيضا " سلهم أيهم بذلك زعيم 68/ 40" وسيقال لهم يوم القيامة : " أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون : 6/22 ".    إذن كلمة زعيم في الأصل اللغوي تعني ذلك الذي يزعم شيئا يكون كاذبا في الأغلب .
  • وربما يصدق هذا المعنى على بعض " الزعماء " في عصرنا وفي عالمنا العربي . وإلا فلماذا نتأخر دائما ومعنا أولئك الزعماء ويتقدم الغرب أبدا وهو مسكين يا عيني بلا زعماء ؟.
اجمالي القراءات 11722