مقدمة
لإثبات أن هذا الشاعر كان نتاجا للعصر الأموى والسياسة الأموية سنعرض ملامح شخصيته وتأثرها بالسياسة الأموية . واخترنا هذا الشاعر المجهول بالذات لأنه يمثل تناقض العصر الأموى مع عصر النبوة . هذا الشاعر هو حفيد عثمان بن عفان ونقيضا له فى معظم أخلاقه. إشتهر عثمان بن عفان بالحياء والمسالمة واللين ، ولولا أنه وقع فى شيخوخته تحت تأثير ابن عمه مروان بن الحكم لتغير تاريخ المسلمين .على العكس من ذلك كان حفيده العرجى فى العصر الأموى . لذا فنحن أمام حالة تستدعى البحث وتستجلب العبرة . ونحن نبحث فى تاريخ المسلمين ليس للتسلية ولكن للعبرة وأملا فى الاصلاح .
أولا : من هو العرجى ؟
هو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان .وأم العرجى هى ابنة عم أبيه ( آمنة بنت عمر بن عثمان ) ،أى إن العرجى حفيد لعثمان من ناحية أبيه وأمه معا ، ولكنه اكتسب لقب العرجى وغلب عليه لأنه كان يملك بستانا فى منطقة ( عرج الطائف ) . كان العرجى وسيما أشقر .وربما ورث هذه الوسامة من جده عثمان .وورث منه أيضا صفة الكرم. كما كان فارسا شارك فى غزو الروم مع مسلمة بن عبد الملك . وما عدا كرمه وفروسيته فإن المشهور عنه فى عصره كان تشبيبه بالنساء مع مجونه وتعصبه القبلى لأهله بنى أميه وتعصبه الجنسى ضد غير العرب. وهنا يأتى تأثره بالعصر الأموى والسياسة الأموية .
ثانيا : العرجى : ملامح الشخص وملامح العصر:
1 ـ من الصعب الفصل بين العرجى كشاعر تخصص فى التشبيب بالنساء او التغزل فيهن وبين مجونه وتعصبه . فمع كثرة نسائه وجواريه فقد أدمن التعرض للنساء والتغزل فيهن متشبها بشاعر الغزل الأشهر عمر بن ربيعة . إلّا إن العرجى لم يكن مثل ابن ربيعة فى رقته وإحترامه للنساء إذا رفضن غزله بهن ومطاردته لهن ، على العكس من ذلك كان العرجى يلحّ فى مطاردتهن ولا يأبه باعتراضهن ، ثم كان يجعل من تشبيبه بالمرأة طريقا للهجاء وفضيحة من يبغضهم. كان متعصبا ضد والى مكة ( محمد بن هشام ) فتكلف أن يتغزّل فى أمه وزوجته ليفضحهما ، ودفع العرجى الثمن . كان ابن ربيعة اكثر تخصصا فى الغزل وتخصصا فى مطاردة النساء والولع بهن ومحادثتهن ، وكان النجم المحبب لنساء عصره من مختلف المستويات ، ومع هذا فقد يؤكد عفّته . على العكس من ذلك نجد العرجى فخورا بانحلاله الخلقى مباهيا به . ونعطى بعض التفصيلات .
1/ 1 : عن انحلاله الخلقى يحكى العرجى أنه واعد إمرأة ، فجاءته المرأة تركب حمارة ، وكان معها خادمة لها . وجاء العرجى ومعه خادم له وهو يركب حمارا . فزنى العرجى بالمرأة ، وزنا خادمه بالخادمة ونزا حماره على حمارة المرأة ، فقال العرجى : هذا يوم غاب عذّاله !! لا ننسى أن العرجى كان متزوجا بعدة نساء وله عدة جوارى ملك اليمين على عادة الملأ من قريش وقتها. ومع هذا كان يهوى الزنا . ومن طريف ما يحكى عنه أن رجلا قال له : جئتك أخطب اليك مودتك ، فقال له العرجى : بل خذها زنا فأنها أحلى وألذّ .!!
1/ 2 : وكان ابن ربيعة ينبهر بالمرأة الجميلة فيطاردها بشعره ويحاول لقاءها ، فإن رأى منها إعراضا عفّ وكفّ ، ولكن كان العرجى معهن ثقيلا بغيضا معتديا لحوحا ميالا للإنتقام . فقد إعترضت إحداهن على العرجى وتشبيبه بالنساء ، واسمها ( كلابة)، وكانت تقول : لشدّ ما إجترأ العرجى على نساء قريش حين يذكرهنّ فى شعره.وعرف العرجى بقولها فجاء اليها فطردته فقال فيها شعرا يؤكّد فيه بأن لها علاقة محرمة به،وحتى يعمم فضيحتها فق أعطى هذا الشعر للمغنيين فتغنوا به ، ووصل الشعر الى زوجها فاتهمها بالعرجى ، وما زال بها حتى حلّفها فى الكعبة أنها لا علاقة لها بالعرجى .
1 / 3 : والعرجى كان يطارد المحصنات المحترمات من النساء مثل أم الأوقص وقد زعم أنه يهواها ، وكان يتحايل فى الوصول اليها ، وتحاول السيدة الفاضلة أن تنجو منه . وكانت هذه السيدة الفاضلة قد وهبت حياتها لرعاية ابنها محمد بن عبد الرحمن المخزومى ورفضت الزواج لتتفرّغ لرعايته، وكانت قد ولدته قزما دميما قصير الرقبة، فأطلقواعليه لقب الأوقص ، وعرضنا للأوقص فى مقال سابق . وبرعايتها صار الأوقص فى النهاية أشهر قاض فى مكة فى العصر العباسى الأول. وفى وقت رعايتها لابنها المعاق هذا كان العرجى يطاردها ويشبب بها زاعما أنه يهواها ، وهى تناضل حتى تفرّ منه .!
1 / 4 : وممّن فضحهن بشعره الغزلى السيدة ( جيداء ) وهى أم محمد بن هشام المخزومى والى مكة . وكانت من القواعد من النساء ، وربما تضارع ام العرجى فى العمر. ولم يكن العرجى مفتونا بها ولكنه كان يريد فضحها ليغيظ ابنها والى مكة ، بل إن العرجى شبب وتغزّل أيضا بزوجة هذا الوالى . ولأن العرجى حفيد لعثمان بن عفان ولأنه ينتمى للأسرة الأموية الحاكمة ورفيق مسلمة بن عبد الملك فى غزواته فلم يستطع والى مكة الانتقام منه. وظل الوالى محمد بن هشام يتحيّن فرصة الانتقام منه إلى أن أتاحها له العرجى بكل ما لدى العرجى من حمق وعتو وتكبّر .
1/ 5 : فى هذا العصر عاش الموالى مواطنين من الدرجة السفلى يعانون من تعصب الأمويين ضدهم . والموالى هم غير العرب ، من الفرس بالذات . وبعض الموالى كان يعيش فى الحجاز ؛ ومنهم من كان من ذرية السبى أو ذرية الرقيق المستجلب ، وكان بعضهم يكتسب الولاء أوالتبعية لقبيلة عربية أو أسرة عربية أو شخصية عربية ، فيقال له مولى فلان أو مولى بنى فلان من العرب . وفى العصر الأموى كان لأشراف قريش فى مكة والمدينة موالى كثيرون . وكان للعرجى بعض الموالى بالاضافة الى خدمه من الرقيق . وجرت ملاحاة ومناقشة بين العرجى وأحد مواليه ، وانطلق العرجى يسب المولى ويلعنه بأمّه . وفى النهاية ردّ عليه المولى السّب ، فجّنّ العرجى وكان أشعب ( الطامع ) حاضرا ، فقال له العرجى وهو لا يصدّق أن مولاه يرد عليه السّب : إشهد على ما سمعت . فقال اشعب : علام أشهد ؟ قد شتمته ألفا وشتمك واحدة ، والله لو أن أمّك أمّ الكتاب وأمّه حمالة الحطب ما زاد على هذا .! وسكت العرجى على مضض. وفى الليل جمع غلمانه وعبيده وهاجم ذلك المولى فى بيته وأخذه وقيّده ، واحضر زوجة المولى وأمر عبيده أن يغتصبوها أمامه ، ثم قتله وأحرقه بالنار .!. وتوجهت إمرأة المولى القتيل الى والى مكة محمد بن هشام تشكو له ما فعله العرجى . ورآها الوالى فرصة للانتقام من العرجى فقبض عليه، وأوقفه للناس يعذّبه ويصب الزيت المغلى على رأسه ، ويطاف به على تلك الحال يتفرّج عليه الناس والصبيان . وتلك كانت عقوبة مشهورة فى العصر الأموى . ثم أعاده الى الحبس وأقسم ألّا يخرج من الحبس طالما ظل واليا على مكة .
1/ 6 ـ وفى حبسه ظل العرجى يستنجد شعرا بالخليفة هشام بن عبد الملك ، ولكن بلا فائدة . ومن شعره وهو فى محنته :
سينصرنى الخليفة بعد ربى ويغضب حين يخبر عن مساقى
على عباءة بلقاء ليست مع البلوى تغيّب نصف ساقى
وحين يأس قال هذا الشعر الذى اشتهربعده :
أضاعونى وأى فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
وصبر عند معترك المنايا وقد شرعت أسنّتها بنحرى
أجرّر فى الجوامع كل يوم فيا لله مظلمتى وصبرى
كأنى لم أكن فيهم وسيطا ولم تك نسبتى فى آل عمرو
وصار مثلا فى العصر العباسى أن يقال :
أضاعونى وأى فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
ولم يستجب الخليفة الأموى هشام بن عبد الملك لصرخات العرجى فقد كانت هناك صلة صهر تجمع محمد بن هشام بعبد الملك والد الخلفاء المروانيين ، فظل العرجى فى السجن تسع سنوات الى أن مات سجينا .
2 ـ : وتولى الخلافة الوليد بن يزيد ، وكان مضطغنا على والى مكة محمد بن هشام المخزومى فعزله ، واستحضره معتقلا الى دمشق مع أخيه ابراهيم بن هشام . وأمر بضربه بالسياط بين يديه ، فاستعطفه محمد بن هشام قائلا : أسألك بالقرابة ؟ فقال له : وأى قرابة بينى وبينك ؟ وهل أنت إلّا من أشجع .! قال : فأسألك بصهر عبد الملك ، فقال له الوليد : لم تحفظه . فقال له : يا أمير المؤمنين قد نهى رسول الله أن يضرب قرشى بالسياط إلّا فى حدّ . فقال له الخليفة : ففى حدّ وقود أضربك،أنت أوّل من سنّ ذلك على العرجى وهو ابن عمّى وابن أمير المؤمنين عثمان، فما رعيت حق جدّه ولا نسبه بهشام ، وأنا ولى ثأره .! . وبعد ضربهما بعثهما الخليفة مثقلين بالقيود الحديدية الى والى العراق يوسف بن عمر ، فصادر أموالهما وظل يعذبهما الى ان لم يبق فى جسديهما موضع للعذاب ،ولم يعد بإمكانهما الحركة ، فكانوا إذا أرادوا أن يقيماهما يجذبانهما من لحاهما ، وأراد محمد بن هشام أن يرى وجه أخيه فتحامل على نفسه يحاول الوقوف فوقع ميتا على وجه أخيه فمات أخوه معه .. !
ثالثا : تأثير السياسة الأموية فى تكوين شخصية العرجى
1 ـ بعد ماساة كربلاء وبعد القضاء بصعوبة على حركة ابن الزبير إستنّ الأمويون سياسة محددة مع أبناء وأحفاد المهاجرين والأنصار المقيمين فى مكة والمدينة لتشغلهم عن السياسة ، هى إغراقهم فى المتع الحسّية ، فتكاثرت عليهم الأموال وجلبوا لهم الجوارى والقيان ، واصبحت المدينة بالذات مركزا لتعليم وتفريخ المغنيين والمغنيات من الرقيق و ذرية الرقيق ممن كان يطلق عليهن ( مولدات المدينة ) . تحولت المدينة ومكة الى ماخور لهو ومجون وغناء وخمر ، واشتهر فيهما أرباب الغناء من الذكور والاناث حتى أصبحت دمشق تستوردهم من مكة والمدينة . وانهمك أحفاد الصحابة فى حياة اللهو والمجون ، ليس فقط تمتعا بالعديد من الزوجات والجوارى ، بل بالزنا الذى شاع وانتشر . وفى المقابل كان هناك من تطرف فى العبادة الى درجة تحريم الحلال من الذهب والحرير وصاغ لتزمته الأحاديث إفتراءا على الله ورسوله . وتعايش الاتجاهان المتناقضان فى المدينة بالذات . ومن الطريف أن تجد محمد بن القاسم حفيد أبى بكر الصديق ناسكا راويا للأحاديث الكاذبة بينما تجد ابن أبى عتيق وهو حفيد آخر لأبى بكر ماجنا وصاحبا لعمر بن ربيعة. وهانحن مع العرجى حفيد عثمان . وفى النهاية أنتج جناح التزمت مالك بن أنس الذى ابتدع ( حد الرجم ) و(حد شرب الخمر) ليواجه إنحلال عصره ، بينما تكاثر الماجنون والزناة والمغنّون ومدمنو الخمر . هذا هو عصر (السلف الصالح ) من ( التابعين وتابعى التابعين) آلهة السلفيين فى عصرنا البائس الحزين .!!.
2 ـ ولم يكن المجون بالغناء والخمر هو السبيل الوحيد الذى نشره الأمويون لشغل الناس عن الثورة عليهم ، إذا شغلوا الناس بالشعر خصوصا شعر المدح للخليفة ، وشعر التهاجى بين الشعراء كما كان يحدث فى المربد من التهاجى بين الفرزدق وجرير والأخطل ، فظل هذا يشغل الناس حتى بعد زوال الدولة الأموية ، ثم شعر المجون والغزل والتشبيب بالنساء ، فاشتهر العصر الأموى بقصص العشّاق الشعراء المجانين بالعشق مثل مجنون ليلى وكثير عزّة وجميل بثينة وقيس ولبنى ..
3 ـ وأشعل شعر التهاجى نار العصبية القبلية التى شجعها الخلفاء الأمويون ، واستخدموها لصالحهم حين كان الخلفاء الأمويون أقوياء فلما ضعف الخلفاء الأمويون أصبحوا ضحايا لهذه العصبية وأسهمت فى القضاء عليهم ، وسننشر بحثا فى هذا . والواقع أن الأمويين تعاملوا بالعصبية على كل المستويات . تعصبوا جنسيا وعرقيا للعرب ضد غيرهم ، وداخل العرب استخدموا العصبية القبلية كما قلنا ، وتعصبوا لقريش ضد غيرها من قبائل مضر ، وداخل قريش تعصبوا إجتماعيا لذرية عبد مناف التى تجمعهم ببنى هاشم مع عدائهم لبنى هاشم بنى عمومتهم. ثم تعصبوا للأمويين ضد أبناء عمومتهم الهاشميين . وداخل الأسرة الحاكمة الأموية كان كل خليفة يتعصب لابنه ضد أخيه ولى العهد . وفى هذا الجو من التعصب نشأ وعاش وتأثر العرجى . فقد كان معاديا لمحمد بن هشام لأنه تولى مكة ، وهو ليس من الأمويين بل من بنى مخزوم القرشيين، وكل ميزته صلة مصاهرة تجمعه بعبد الملك بن مروان والد الخليفة هشام بن عبد الملك . وتفرّغ العرجى لهجاء محمد بن هشام والتشبيب بأمه وزوجته بلا سبب سوى تعصب العرجى لأسرته الأموية ورؤيته أنه الأحق من محمد بن هشام أو غيره من الأمويين فى ولاية مكة . بالاضافة الى تعصبه المحلّى هذا فقد كان العرجى متعصبا ضد غير العرب ، وقام بتطبيق هذا فيما فعله بمولاه المسكين .
4 ـ استعمل الأمويون كل الوسائل فى شغل الناس عن مشاكستهم سياسيا . ولم يتورعواعن استخدام الدين ، وسبق أن عرضنا لهذا فى مقال عن ( الجبرية ) فى السياسة الأموية ، أى كانوا يعتبرون ما يفعله الخليفة هو قدر الاهى لا يجوز الاعتراض عليه . وفى مبحث عن حرية الرأى والفكر أوضحنا سياسة الأمويين فى استخدام أبى هريرة فى صناعة الأحاديث واستخدامها سياسيا. ثم جعلوا لعن الامام (على ) من رسوم الخطبة فى صلاة الجمعة .
نرى تأثرا العرجى بهذه الثقافة الأموية ، فهو لم يستشعر ذنبا إقترفه حين قتل رجلا بريئا وحين جعل عبيده يغتصبون الزوجة المسكينة أمام زوجها الموثق ، ثم يحرقون زوجها أمامها. العرجى لا يرى فى ذلك إثما ، بل يرى نفسه مظلوما ، فظل ينتحب وهو فى محنته معتقدا ببراءته . كما نلمح هذا فى حوار محمد بن هشام مع الخليفة الوليد بن يزيد ، وقوله بأن الرسول منع ضرب القرشيين بالسياط .!!
أخيرا .. مثل معظم البشر، كان العرجى ابن عصره،إستمتع بعصره،وأصبح ضحية لعصره . وتبقى لعصرنا العبرة والعظة لو كان هناك من يعتبر ويتعظ ..!!