أولا :
1ـ فى الزمن الردىء كلما زاد حظك من العلم والثقافة أصبح الفقر حليفك . هذا بينما يرتع أدعياء العلم فى رضى السلطان وينهلون من خيره وهم يحرقون له البخورفى موكبه أينما سار، وبالتالى فلا وقت لديهم للقراءة أو البحث ، وإنما يريدون الأحكام الجاهزة المسبقة التى سطرها أعلام التراث فى الماضى . وليس مهما إن كانت تتفق مع عصرنا أم لا وإنما المهم أنها تكفيهم عناء الإجتهاد وتوفرلهم الوقت الكافى للتراقص بين يدى السلطان وحاشيته . وهؤلاء الأدعياء مهما بلغ نصيبهم من الثروة فأمامهم دائما منافس فى دنيا المال . هى تلك الطبقة المترفة الجاهلة التى يصعد بها الزمن الردىء الى موقع الصدارة لتفسد ذوق المجتمع وتهبط بمستواه الثقافى والعلمى ويتعاونون مع أدعياء العلم فى تأخره وتخلفه . وفى هذا الزمن الردىء يصبح التفكير الحر سلعة غيرمرغوب فيها ، ويصبح المفكر الحر على حافة الجوع مضطرا لأن يشغل وقته بكيفية الحصول على مورد رزقه بينما يكون المجتمع أحوج الى تفكيره ومؤلفاته كى ينهض ، وربما لاترى مؤلفاته النور الا بعد موته فيعرف الناس قدره بعد فوات الأوان .
2ـ ويبدو أنها حقيقة تاريخية مؤلمة، إذ أن صناع الفكر المسلمين قاسوا من الحرمان ورافقوا المسغبة والفقر فى حياتهم بينما تنهمر أموال الخلفاء والسلاطين على الأدعياء والشعراء والمغنيات والمحترفات وتجار النخاسة ..كان الخليل بن أحمد الفراهيدى أعظم عقلية عربية ، هو الذى وضع قواعد النحو وهو الذى انشا علم العروض ، ومع ذلك الجأه الفقر لأن يعيش فى خص من أخصاص البصرة صابرا على العيش الخشن وعلى نفس المستوى من الفقر كان تلميذه سيبويه إمام النحاة ، وكان أيضا النضربن شميل الذى ضاقت عليه المعيشة بالبصرة فتركها فشيعه ثلاثة آلاف من تلاميذه فقال لهم : ياأهل البصرة يعزعلى فراقكم ولو وجدت لقمة سائغة عنكم مافارقتكم .. !! . ومن أعلام اللغة والنحو الذين عاشوا فقراء : الأخفش الصغير الذى مات لأنه اضطرلأكل طعام نيىء !! . وابن النحاس الفيلسوف النحوى ، وابن مالك صاحب الألفية ، وابن معطى النحوى، ونفطويه النحوى وقد اكتسب هذا اللقب من قذارة مظهره ، وغلام ثعلب امام اللغة ، وابن خالويه النحوى ، وابن دريد اللغوى . ومن أعلام الفقهاء الفقراء كان أبو الطيب الطبرى صاحب التصانيف فى الأصول والجدل ، وكانت له ولأخيه عمامة وقميص اذا لبسها احدهما جلس الآخر فى البيت ، والترمذى الذى بلغ به الفقر أنه كان يأكل وجبة واحدة من اللفت كل يوم !! والأبيوردى الذى مكث سنتين لايقدر على جبة يلبسها فى الشتاء !! وكان عبدالوهاب المالكى فىالقرن الخامس إمام بغداد فىالفقه مع شدة فقره، ولما اشتد به الفقر ترك بغداد راحلا إلى مصر فودعه أهل بغداد فقال لهم : لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين ماتركتكم ، وفى أول قدومه الى مصر أكل وجبة شهية مات منها ، فقال وهو يحتضر : لا اله الا الله..لما عشنا متنا .. !! والفارابى أعظم الفلاسفة المسلمين عمل خفيرا بدمشق التى مات بها وكان يستضىء بمصباح البستان الذى يعمل فيه ويؤلف فى الفلسفة والحكمة والموسيقى ، ومثله فى الفقر كان السهروردى المقتول والسهروردى صاحب عوارف المعارف . وابن حزم الظاهرى الفقيه الفيلسوف الأديب ، وابن يونس المصرى عالم الفلك صاحب الزيج الحاكمى المعروف بزيج ابن يونس وكان فقره يظهر فى هيئته الرثة ، ثم كان واصل ابن عطاء كبير المعتزلة وشيخها قبل أن يعلو شان المعتزلة لدى العباسيين ..ومن علماء الحديث والتفسير الفقراء نجد الشاطبى إمام القراءات الذى صبر على فقر شديد والواحدى المفسر النحوى اللغوى الأصولى ، والبيهقى صاحب السنن . ومن أعلام الأدب والتاريخ نسمع عن فقر الحريرى صاحب المقامات وأبى بكر الصولى والميدانى صاحب الأمثال وقبلهم الراوية أبوعبيدة معمر بن المثنى ، ثم العلامة ياقوت الحموى النحوى اللغوى المؤرخ صاحب معجم البلدان وهو القائل : هيهات مع حرفة الأدب بلوغ وطر أو ادراك أرب . !
3ـ لقد أدت الثورة الصناعية فى أوربا الى نمو الرأسمالية وتحكمها فى طبقة العمال ، وتركز الثروة فى فئة قليلة على حساب الأغلبية ، وكان من بين تلك الأغلبية المحرومة بعض المثقفين الحالمين مثل جماعت السان سيمونيين بمبادئهم الاشتراكية الانسانية ، إلا أن تضخم الرأسمالية أدى الى انتشار الشيوعية العلمية التى تحمس لها مثقفون امتلأت رءوسهم بالأفكار وخلت جيوبهم من الأموال ، ثم أتيح للشيوعية أن تقيم لها دولا نعم فيه الثوار والبروقراطيون والفلاسفة الشيوعيون بكل شىء وافتقر فيها العمال الى كل شىء ، ثم انتهت الشيوعية هناك الى لاشىء بعد 70 عاما من التطبيق القائم على القمع والحرمان والدماء ، ولو خففت الرأسمالية الغربية من جشعها وأنصفت العمال وأعطت للمثقفين اعتبارهم المالى والأدبى لما قامت الحركة الشيوعية وماتأسست لها أنظمة ودول ، وقد تنبهت الرأسمالية الغربية لذلك متأخرا وبعد فوات الأوان.
4 ـ والدور الآن علينا أن نستفيد من أخطاء السابقين ..لقد أفل نجم الشيوعية هناك ولكنه لايزال حاضرا هنا ، ذلك أن الفكر الشيوعى عندنا يستمد جذوره من حمق الراسمالية الطفيلية وفسادها وتسترها بالدين وعملها على تغييب العقل وراء خرافات دينية ليس لها أصل فى الدين الحق، أى أن هذه الرأسمالية الطفيلية تكررأخطاء سابقتها الراسمالية الغربية فى أوربا ولايبدو أنها ستستفيد من التجربة .ومن أسف فإننا نعيش الأفكارالاشتراكية والقومية والنيابية التى كانت سائدة فى أوربا القرن الثامن عشر .. ولاسبيل لنا للحاق بالقرن الحادى والعشرين الا بتحرير الفكر من تلك المتاريس التى تقيمها محاكم التفتيش ثم باعادة الاعتبار للمفكرين وكل من يحمل قلما ....
أخيرا
نشرت هذا المقال بتاريخ 28 /10 /1991 فى جريدة الأحرار المصرية بنفس هذا العنوان ( إنتبهوا أيها السادة ) ..ولم يلتفت أحد من السادة أو من العبيد .. ولا زلنا نؤذّن فى خرابة ..!!