موقف لبيد بن ربيعة من الفصاحة القرآنية

آحمد صبحي منصور في السبت ٢٨ - أبريل - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 أولا :  من هو لبيد بن ربيعة:

المعلقات السبع هى عيون الشعر العربى فى الجاهلية ، وأصحابها استمرت شهرتهم قرونا طوالا . وهم : إمرؤ القيس والحارث بن حلزة وزهير بن أبى سلمى وطرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم وعنترة بن شداد ولبيد بن ربيعة .   تميز لبيد بن ربيعة العامرى من بينهم بنبوغه المبكر وفروسيته وكونه سيدا كريما بين قومه، ثم إنّه أدرك الاسلام وعاش فيه حوالى منتصف عمره المديد ، واستقر لبيد في الكوفة بعد إسلامه حتى مات فيها . ويروى أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد قومه بنى جعفربن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، فأسلم وحسن إسلامه . وهو لبيد بن ربيعة بن عامر بنمالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة‏.‏وكنيته أبو عقيل . ووصفه الرواة بأنه كان شريفاً في الجاهلية والإسلام ، وكان قد نذر ألا تهب ريح الصبا إلا نحروأطعم الناس .طول عمره كان مبعث الدهشة والعجب ، مع اختلافهم فى موعد وفاته . قيل إنه مات وهو ابن مائة وأربعين سنة‏.‏وقيل‏:‏ إنه مات وهو ابن سبع وخمسين ومائة سنة في أول خلافةمعاوية‏.‏وقيل  مات لبيد سنة إحدى وأربعين من الهجرة يوم دخلمعاوية الكوفة ،ويقال إنه عاش تسعين سنة في الجاهلية وما تبقى في الإسلام.

ذكاؤه وعبقريته منذ صغره

من هذه الرواية نعرف ذكاءه المبكر وجرأته ونبوغه فى الشعر . وفد كبار قومه على ملك المناذرة (النعمان بن المنذر) وكان معهم لبيد غلاما مراهقا يخدمهم . فى هذا الوقت كان نديم النعمان بن المنذر هو الربيع بن زياد العبسى ، الذى كان صاحب تأثير كبير على الأمير وصاحب خلوته ومشورته . وكان هذا الرجل كارها لقوم لبيد ( بنو جعفر بن كلاب بن صعصعة )، لا يدّخر وسعا فى الكيد لهم عند الملك النعمان بن المنذر. دخلوا عليه يوماً فرأوا منه تغيراً وجفاء، وقد كان يكرمهم قبل ذلك ويقرب مجلسهم، فخرجوا من عنده غضاباً، وكان ( لبيد ) في رحالهم يحفظ أمتعتهم، وإبلهم ، فوجدهم يتذاكرون أمر عدوهم الربيع بن زيّاد العبسى وكيف أفسد علاقتهم بالملك . وسألهم لبيد عن الأمر فرفضوا أن يخبروه بالأمر لأن عدوهم الربيع بن زيّاد العبسى هو خال لبيد ، وهو الذى قام بتربية أم لبيد فى كنفه، فقال لهم: والله لا أحفظ لكم متاعاً، ولا أسرح لكم بعيراً أو تخبروني. فقالوا له: خالك الربيع بن زيّاد العبسى قد غلبنا على الملك، وصدّ عنا وجهه، فقال لهم لبيد: هل تقدرون على أن تجمعوا بينه وبيني فأزجره عنكم بقول ممضّ، ثم لا يلتف النعمان إليه بعده أبداً. فقالوا: وهل عندك من ذلك شيء؟ قال: نعم، فامتحنوا فصاحته فى الوصف والهجاء فأجاد ، فصحبوه معهم فى لقاء الملك النعمان بن المنذر. دخلوا عليه وعنده وفود العرب ، وكان الربيع بن زيّاد العبسى يأكل مع الملك ، ليس معه غيره، فلما فرغ من الغداء أذن لقوم لبيد بالكلام فذكروا للنعمان الذي قدموا له من حاجتهم، فاعترضهم خصمهم الربيع كالعادة ، فتصدى له لبيد . قام لبيد يرتجز شعرا يخاطب الملك ويفخر بقومه ، قال لبيد :

يا رب هيجاً هي خير من دعه  

أكل يوم هامتي مقزعه

نحن بنو أم البنين الأربعه

ومن خيار عامر بن صعصعه

المطعمون الجفنة المدعدعه

والضاربون الهام تحت الخيضعه

ثم وجّه خطابه للنعمان بن المنذر يقول له :

يا واهب الخير الكثير من سعه

إليك جاوزنا بلاداً مسبعه

يخبر عن هذا خبير فاسمعه

ويهجو خاله الربيع بن زياد العبسى هجاءا مقذعا ، يتهمه بأن ( إسته ) مصابة بالبرص ، والاست هو مؤخرة الانسان ، وفتحة الشرج ، ويطلب من الملك ألّا يأكل مع الربيع لهذا السبب ، لأن الربيع يدخل إصبعه فى إسته حتى يصل الى أمعائه :

مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه

إن استه من برص ملمعه

وإنه يدخل فيها إصبعه

يدخلها حتى يواري أشجعه

كأنما يطلب شيئاً أطعمه.

فلما فرغ لبيد من إنشاده التفت الملك النعمان إلى الربيع شزراً يرمقه وقد إستقذره ، فقال: أكذا أنت؟ قال: لا، والله، لقد كذب علي ابن الحمق اللئيم. فقال النعمان: أف لهذا الغلام، لقد خبث علي طعامي. أصبح موقف الربيع حرجا ، فلا يستطيع التعرى أمام وفود العرب ليؤكد براءة مؤخرته من البرص فيكون اضحوكة ومثلة للعرب جميعا ، ولا يستطيع السكوت على الاهانة ، فاضطر فى الدفاع عن نفسه بالوقوع فى سقطة هائلة ، هى الطعن فى ( أم لبيد ) وأنه زنا بها وهى فى حجره ورعايته فقال للملك : أبيت اللعن، أما إني قد فعلت بأمه. فقال لبيد يرد عليه : أنت لهذا الكلام أهل، وهي من نساء غير فعل ، وأنت الملام فى فعل هذا بيتيمة في حجره.!! فأفحمه .فقطع الملك علاقته بالربيع وأمره بالانصراف إلى أهله. وكتب إليه الربيع يعرض عليه أن يتعرّى ليؤكد براءة إسته من البرص ، فرفض النعمان وقال له : إلحق بأهلك .   

لبيد شاعرا

نبغ لبيد فى شعره ، واكتسب شهرة فى قومه وفى محيط القبائل العربية شاعرا وفارسا . وكان يقول الشعر السهل الممتنع كما جاء فى قصته مع النعمان بن المنذر ، كما كان يقول الشعر الجزل الفخم الذى يحتفل به العرب ويرونه الأعلى درجة فى الفصاحة . وربما تتميز معلقة لبيد بهذه الجزالة عن غيرها من المعلقات خفيفة الوقع .

يقول لبيد فى مقدمة معلقته :

 عفت الديار محلها فمقامها  منى تأبّد غولها فرجامها

فمدافع الريان عرى رسمها  خلقا كما ضمن الوحى سلامها

دمن تجرّم بعد عهد أنيسها حجج خلون حلالها وحرامها

رزقت مرابيه النجوم وصابها  ودق الرواعد جودها فرهامها 

من كل سارية وغاد مدجن وعشية متجاوب إرزامها

فعلا فروع الأيهقان وأطفلت بالجهلتين ظباؤها ونعامها

والعين ساكنة على أطلائها عوذا تأجل بالفضاء بهامها

وجلا السيول عن الطلول كأنها زبر تجد متونها أقلامها

ثانيا : آية القرآن أو معجزة القرآن :

1 ـ أسلم لبيد وهو فى قمة شهرته وعطائه الشعرى . وباسلامه إعتزل الشعر منبهرا بالقرآن ، وقد قال أكثر أهل الأخبار‏:‏ إن لبيداً لم يقل شعراً منذ أسلم‏.‏وقيل إنه لم يقل بعد إسلامه إلا قوله‏:‏ الحمد لله إذ لم يأتنيأجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا . وقال له عمر بن الخطاب يوماً‏:‏ يا أبا عقيلأنشدني شيئاً من شعرك‏.‏فقال‏:‏ ما كنت لأقول شعراً بعد أن علمني الله البقرة وآل عمران.

2 ـ فى هذا الوقت عرف العرب من إعجاز القرآن أو ( آية القرآن ) نوعا واحدا فقط ، هو إعجازه فى الفصاحة . ليس مثل القرآن فى فصاحته وفى سهولته ، فى بساطته وفى تعمقه . يستطيع الشخص العادى أن يفهم منه ما يتيح له الهداية ، كما يجد الباحث فيه مجالات للتعمق يكتشف بها كل مرة أنه لا يزال على ساحل المعرفة القرآنية ، وأبحاثنا التى بالمئات تثبت هذا ، وفى كل بحث أكتبه أزداد إيمانا بالقرآن وأزداد تأكدا بقلة ما أعرف من القرآن . هذا ما يقوله الباحث ،أما الجهلاء فهم سعداء بجهلهم ويسعد بهم جهلهم. شهدت اللغة العربية طوال تاريخها تغيرات هائلة فى انتشارها فى العالم وفى تفاعلها مع الحضارات واللغات الأخرى . عاشت فيها ألفاظا وماتت ألفاظا أخرى ، واستحدثت فيها مصطلحات و توارت فيها مصطلحات أخرى ، وفى كل الأحوال يظل القرآن الكريم مقروءا ومفهوما مع تغير اللغة العربية وتغير العصور والثقافات . يكفى فى فصاحته أنه الكتاب الوحيد الذى يحاول ( المفسرون)(تفسيره ) فيكون كلامهم غامضا ومبهما ومتناقضا ويظل القرآن فوق (تفسيرهم) وتخريفهم  غير محتاج اليه . لو عبرنا حاجز الزمن واستحضرنا الصحابة وتكلمنا معهم فلن يفهموا كلامنا ولن نفهم كلامهم . ولكننا نحن وهم لا نرى صعوبة فى فهم القرآن . ولو تخطينا حاجز المكان ـ وقد تخطيناه الآن ـ وتكلم مصرى مع مغربى فستكون اللهجة عائقا فى التواصل بينهما ، ولكن لو قراءا القرآن فسيزول العائق اللغوى . ولن نذهب بعيدا ..إعد قراءة الأبيات الأولى من معلقة لبيد ..هل تستطيع فهمها ؟

من هنا سجد لبيد للقرآن واكتفى به ..

3 ـ ولقد تحدّى ربا العزة العرب بالاتيان بمثل القرآن حديثا فعجزوا:(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لّا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ )(الطور 33 : 34 ). أى ردّا على قولهم بأن القرآن من صنع محمد ومن نظمه جاء التحدى لهم بالاتيان بمثله طالما يقدر محمد على تأليف القرآن . واستمروا فى نفس الاتهام للقرآن بأنه من صنع محمد فجاءهم التحدى بالاتيان بعشر سور مثل القرآن من افترائهم :(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ)(هود13: 14) فعجزوا أيضا واستمروا فى نفس الاتهام ، فجاءهم التحدى بأن يأتوا بسورة واحدة من مثل : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ  ) ( يونس 38 )أو بسورة واحدة من شخص مثل محمد عليه السلام : (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ( البقرة 23 /24 ) . وفى التكرار هنا إعجاز خفى فى تكرار اللفظ واختلاف المعنى المراد . وفى النهاية يؤكد رب العزة إستحالة أن يأتى الجن والانس معا بمثيل للقرآن ، لأنه لا مثيل للقرآن : (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا )(الاسراء 88 : 89 ).

4 ـ إعجازات القرآن لا تنتهى ، هناك الاعجاز التاريخى بذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة ، وآثارهم ، وبذكر أحداث تاريخية تنبأ بها القرآن ، وهناك إشارات لحقائق علمية جاءت صياغتها إعجازا فى حد ذاتها ، وهناك إعجاز جديد تتلاحق فيه الاكتشافات هو الاعجاز الرقمى والعددى ، وسيأتى إعجاز جديد بتحقق علامات الساعة التى نبّأ بها القرآن ، وأخبر بحدوثها قبيل قيام الساعة (حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ)(يونس 24) (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ) (النمل 82) (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاًقَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً   فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباًقَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً)(الكهف: ـ 99 )(حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) (الأنبياء 96 ). ثم سيجسّد حديث القرآن عن احداث الساعة والقيامة واليوم الآخر .

وعندها لن ينفع الندم .!!

اجمالي القراءات 34028