فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ
مزرعــــة الأُخْـــــــــــوة

محمد عبدالرحمن محمد في السبت ٢٨ - أبريل - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 يقول تعالى:

 {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }الملك15

مزرعة الأخوة ليست هى مزرعة الحيوانات الخاصة بأورول.. ولكنها مزرعة مصرية بطريق الواحات البحرية وقبل  واحات الفرافرة بمائة وأربعين كيلو متر ماذا تزرع ومن يديرها هذا ما يعرض له هذا المقال ذو الشأن المصري الخالص..                                    

في رجوعي لمقر عملي بالواحات أخذت حافلة الوجه القلبي للنقل والسياحة  وكنت متأخرا بعض الوقت ولحقت بالحافلة بشق الأنفس.. وكان ترتيب مقعدي بجوار رجل تبدو عليه علامات المعرفة والعلم  وطلبت منه أن يفسح لي مكانا بجواره .. فأبدا الاهتمام والترحيب بي..

وكعادتي لا أفتح حواراً مع من يجلس بمقعد الجوار.. في معظم سفرياتي.. وأكون متحفظاً في إجراء حوار أو حديث  إلا في أضيق الحدود، لأن مثل تلك الأحاديث تضيع كثيراً من الوقت الذي أرغب في أن أغتنمه في القراءة  أو الاطلاع أو تدبر آيات الكتاب العزيز أو التأمل في صحاري وسهول الوادي.. ومنخفضاته وجباله.. ومزروعاته بالنهار ..

 أما عن الليل وسحر السفر بالليل والنظر في مواقع النجوم ومنازل القمر وانعكاس أنوارهم على صفحات السهول وقيعان الوديان وقمم الجبال فهو مما يعجز اللسان عن وصفه.. لكل ما سبق ,, أجد نفسي عازفاً عن الحوار مع رفيق المقعد المجاور .. إلا إذا كان هذا الحوار  يعوضني خيرا عن التأمل في كون الله العظيم نهاراً أوليلاً.

أو أن يضيف هذا الحوار زخماً معرفياً عن المنطقة التي نجتازها في الرحلة ..وقد أخرجت كتاب الدكتور / زكي نجيب محمود (أيام في أمريكا) أقرا فيه  هذا الكتاب الذي ألفه الدكتور / زكي عن رحلته في أمريكا في عام 1954م  وعرض فيه لتجربته الشخصية مع المجتمع الأمريكي وقتها وانطباعاته الفلسفية المتأملة عن الأمريكيين  وكيف أنهم في هذا الوقت كل منهم يفخر بأصله الأوربي ومدى تعاونهم مع العالم الخارجي وخصوصا العلماء والمفكرين والفلاسفة ,, ولقد قدموا له منحة وقتها للتدريس بالجامعات الأمريكية لمدة عام بمرتب سخي جدا .. وعند وصوله لمطار نيويورك  وصف كيف أنه وجد إمرأة في منتصف العمر تستقبله متطوعة من أحد الجمعيات الأهلية  الاثنين والثلاثين وقتها  بأمريكا لإستقبال الغرباء وتسهيل أمورهم عند نزولهم الأرض الأمريكية و قامت توصيله إلى الفندق الذي قد حجزت له فيه.. وحكى أيضا عن ضابط الشرطة بالمطار الذي رحب به وأوقف سائق تاكسي  وأوصاه  أن يسلك أقرب الطرق للفندق  الذي ينزل به الدكتور زكي. حتى يصل بأسرع ما يمكن لينال الزائر زكي نجيب..قسطاً من الراحة حيث أنه طار ثلاث وثلاثين ساعة متواصلة عبر الأطلنطي ليصل لنيويورك.. الخ   ..  وأثناء قراءتي للكتاب كان جاري في المقعد يتصل بالموبايل  مع بعض من معارفه وبدا من حديثه أنه على درجة علمية راقية ،  فكان  الكثير من كلماته بالمصطحات الانجليزية العلمية و الكلمات المتداولة يوميا، كان يحدث مكلمه عن أحد الصنايعية الذي يماطلون في اصلاح المعدات الزراعية وأنه يغالي في أجره جداً  واقترح  جاري هذا على مكلمه أن يذهب إلى شارع معروف بوسط البلد فهو شارع متخصص في الرولمان بلي وأنه سوف يصلح هذه الماكينة الزراعية بنفسه بتغيير مجموعة وتركيب أخرى مكانها .. ولا الحوجة للصنايعية المستغلين.!

كان مع هذا الرجل مجموعة من المسافرين معه ويبدو أنه قائدهم أو مديرهم الفني العلمي.! والتفت بحديثه.. لرفيق آخر له صغير السن في المقعد الذي يقع خلف مقعدي تماماً ووجه إليه الحديث بأن سأله عن اسمه وذلك لأنه يحب أن يتعرف على كل فريق العمل الذي معه ويكون علاقة عمل وثيقة ومكتملة المعرفة.

سأله عن كليته التي تخرج منها فأجابه الشاب كلية زراعة المنيا ، وعن اسمه فأجابه ، وعن دفعة التخرج فأجابه الشاب: العام الماضي.. فقال له يعني حديث التخرج فقال نعم.. قال له رئيس فريق العمل:  وهو المدير العلمي والفني: لابد أن ننظم العمل بالمزرعة ونجعل فيه نظام يحدد لكل فرد  في المزرعة مهام محددة يؤديها هى مهام وظيفته Jop duty  كان هذا أحد المصطلحات التي نطق بها لمرؤوسه المهندس حديث التخرج ..

وواصل معه الحوار ملتفتاً للمقعد الخلفي لي.. وهو يلوي عنقه ليواصل  الحوار التعليمي الذي يجريه مع ذلك المهندس ..!

 وما زلت أقرأ كتاب زكي نجيب وهو ينظر شذرا للكتاب .. ويواصل حديثه للمهندس الشاب ويستطرد قائلاً له:  عندما نصل للمزرعة لابد أن نقوم بعمل تعديلات في نظام العمل.. فيؤدي كل فرد مهام وظيفته فيها.. ، ماذا يعمل موظف الكومبيوتر؟ قال له إن

 إنه لا يعمل أعمالا مهمة وربما يلعب جيمز كثيرا من الوقت لأنه لا يكلف بعمل معين يوميا.! قال له رئيس الفريق: لابد أن نكلفه بأعمال ومهام يومية تخص تفاصيل العمل والاشراف على الزرع والشتلات.. (شتلات البرتقال والعنب) لابد والكلام للمهندس : أن تكتب تقريراً يوميا بمرورك على كل جورة و شتلة من شتلات شجر المزرعة  بصورة علمية ومركزة ودقيقة الوصف  وتذهب بهذا التقرير للموظف الكومبيوتر (الكومبيوترست) وتطلب منه أن يسجل التقارير اليومية في ملفات ويحفظها  يقدمها لنا عندما نطلب منه ذلك.

 ثم لابد أن نبدأ العمل العلمي والمنظم بالمرور على مخزن السماد والمبيدات .. فهما أهم ما في المزرعة لابد من جرد الموارد المتاحة والمخزون الأساسي والاحتياطي بمخزن السماد والمبيدات،  ويا بني لابد من تقليل وتخفيض استخدام كلا من السماد والمبيدات إلى الحد الأدنى في الاستعمال .. وذلك أملا في التصدير عندما يثمر شجر المزرعة.. حتى لا يتم رفض صفقات ورسالات التصدير من الأوربيين والعالم المتقدم بسبب زيادة نسبة السماد الكميائي ، وزيادة نسبة المبيدات الحشرية عن الحد المسموح به عالمياً ، فلابد أن نراعي هذه المعايير ولانكون سبباً في خسارة صاحب ومالك المزرعة.

ليس هذا فقط يا باشمهندس ما أريده منك.! أريد أن نعامل عمال المزرعة بكل تقدير وحفظا لكرامتهم فمع أنهم عمال زراعيين (فلاحين) فلابد أن نحسن معاملتهم ونطلب منهم أن يؤدوا أعمالهم باتقان التي نكلفهم بها في المزرعة وحول التعامل مع شتلات المزرعة من الشتلات البرتقال والعنب.الخ. ولابد من إحسان معاملتهم  وحفظ كرامتهم فأنا عندي  الانسان هو أهم ما في الكون.. فالانسان ــ ظل الله في الأرض ــ !! هنا استوقفني هذا التعبير وامتعضت منه.. وتوقفت دقائق لا أعلم عددها عن متابعة قراءتي لكتاب (أيام في أمريكا) ..

  وواصل  نحن لا نتكبر على هؤلاء المزارعين .. لكن لابد أن يكون هناك نظام نؤسسه ونتبعه ونطبقه في التعامل مع إخوتنا هؤلاء..

  نعم يمكنهم أن يأكلوا معنا في مكان واحد .. لكن بنظام معين وهو أننا لا يجب أن نأكل على الحصيرة (الأرض) بل لابد أن نأكل على ترابيزة السفرة فلا مانع من أن يشاركونا نحن المهندسين والفنيين مكان الطعام على السفرة . فلا يليق بنا أن نجلس ونفرش على الأرض ونأكل مثلهم العامة البسطاء.. فليس هذا من اللياقة والاتيكيت..

  ثم أنهم لايجب أن يدخنوا في مكان السفرة .. وخصوصا الشيشة .. فلا يليق بنا أن نسمح لهم أن يدخنوا الشيشة في المطعم الذي أنشأناه وتعبنا فيه .. نحن لن نمنعهم من تدخين الشيشة .. لكن يجب أن يختاروا مكاناً بعيداً عن مكان السفرة.. ويدخنوا كيفما شاءوا..! فنحن مع حريتهم الشخصية لكن في حدود اللياقة والأصول في علاقة العمل.

   وأطلب منك  أن تُشيّك Check upعلى عملك يومياً فأنت مهندس شاب وكلك نشطا وهمة.. وإفعل ما أنصحك به وهو :

أن تمر يومياً على جميع جورات (جمع جورة) وشتلات (جمع شتلة)  في المزرعة وتسجل ملاحظاتك العملية العلمية بدقة وببساطة شديدة.. ولأعملك كيف يكون تسجيلك لهذا العمل:

يكون بيديك بلوك نوت .. وتسجل فيه المرور وتكبت في لحظة المشاهدة ما رأته عينيك بدون مبالغة أو لامبالاة..

فمثلاً :  حقول المزرعة هى عبارة عن جورات .. فتصف عدد الجورات بالمزرعة في كل فدان والمسافة بين كل جورة وأختها من جميع الجهات ثم تصف مساحتها وارتفاع حائطها والتبة التي حول الجورة.. وكيف يمر الخرطوم المثقوب الذي يروي الجورة  هل يمر في قلب الجور وبجوار مركزها أو على أحد الأطرافها  .. ولابد أن تصف لي قاع الجورة وأرضيتها هل بها أملاح ظاهرة على أرضيتها أم لا.. هل الآملاح على قاع الجورة أم على التبة التي تحيط بالجورة..

 ثم بعد ذلك .. تصف لي ما بداخل الجورة (الفسيلة) أو شجرة البرتقال أو العنب المزروعة بداخل الجورة ولتعمل متوسط عام لوصفك العملي .. فلابد أن تكون معك (مازورة)  تقيس بها أجزاء شجرة البرتقال أو العنب.. فهى تتكون من جذر وساق وأفرع بها أوراق وفي نهاية الفرع توجد البراعم.

   ويجب أن تتعلم كيف تصف الجذر .. هل جذور الشتلة جزء منها مكشوف  للعراء وخارج التربة.. هل هى خارج الجورة أم في نطاق الجورة..  هل  توجد أحد الاصابات التي تصيب الجذر موجودة أم لا.؟

ثم تترك حوالي أربعة سم  بعد نهاية الجذر وتقيس ديامتر الساق (القطر)  وتدونه في أجندتك..  وتصف طول الساق كم سنتمتر وهو الجزء قبل أن يتفرع إلى فروع الشتلة.. ثم تذكر عدد تلك الأفرع وطول كل فرع .. ثم تصف عدد الأوراق بكل فرع.. .. ثم بعد ذلك تصف حالة الأوراق في كل فرع هل يوجد بها إصفرار أم أن لونها كله متجانس من ناحية اللون الأخضر .. ثم اوصف درجات اللون في كل ورقة .. وأخيرا البراعم في  قمة كل فرع فروع الشتلة.. بدون مبالغة أو عدم مبالاة..

 دون كل ذلك واذهب به إلى الكومبيوترست ليكتبه (وورد) ويسجله في ملفات  وتسميها بأسماء الشتلات.. وتكون جاهزة للسيمنار.. اليومي.. فلابد أن يكون هناك نصف ساعة على الأقل يوميا .. يجلس فيه مهندسي المزرعة يناقشوا حال الشتلات  والمشكلات التي تواجهنا وأنا أوافيكم بالحلول العلمية لكل مشكلية واشرف عليها..

 ولابد أن يجلس معنا بعض العمال والمزارعين النابهين لحضور تلك الجلسات العلمية وتفيهمهم كيف يشخص الشتلة المصابة ويخبرنا بما يشاهده أو يرصده على الفور لو أننا غفلنا عن أحد هذه الشتلات..

إلى هنا أقفلت كتاب الدكتور زكي نجيب محمود وكان جاري في المقعد يراقبني .. وعندها أنهى حديثه مع المهندس الشاب  وتوجه إليّ بالحديث فسألني عن مهنتي وعن مقر عملي فأجبته أنا طبيب بشري  واسمي محمد . و سألني ثانيا وأين تعمل : أجبته: بالوادي الجديد ..

وبادلته السؤالين بسؤالين.. ومن أنت؟ قال لي أنا أستاذ علوم الري الحديث بكلية الزراعة في إحدى جامعات مصر. وماذا تعمل؟  قال :أعمل  خبيراً ومستشاراً بمزرعة الأخوة التي تقع بعد (الحيز) بعشرين كليومتر وقبل الفرافرة بمائة وأربعين كيلو متر..

في المقال القادم أستكمل الحوار العملي المثمر مع عالم من علماء طرق الري الحديث.

اجمالي القراءات 13158