من أكثر من عشرين كنت أحذّر من حمّى إنشاء المساجد السّنية الوهابية الأيدلوجية ، لأنها كانت تأكل أموال الناس بالباطل ، وتضل الشباب . وها نحن الآن نرى النتيجة المروعة لمن تخرجوا فى هذه المساجد . نراهم فى مظاهرات السلفيين بالذات ، جماهير شباب غاضبة صاخبة بلا عقل وبلا تمييز ..تعالوا نقرأ هذا المقال الذى نشرته جريدة ( الأحرار ) بتاريخ 16 سبتمبر 1991 . لم يصل صوتنا وقتها .. فهل سيصل اليوم ..
جريدة الأحرار 16/9/1991 . قال الراوي :
الفك المفترس
* زارني بعض الأصدقاء يتحدثون معي حول مقال " تبرع يا أخي لبناء مسجد نفق شبرا " الذي نشرته الأحرار من قبل . وانبرى أحد الأصدقاء يعتب على هجومي على جامعي التبرعات واتهامهم بالثراء لأن بعضهم يقوم بهذا العمل مخلصا ولا يتخذه تجارة ..
وكان عليً أن أوضح لهم موقفي بالتفصيل .
* قلت لهم : لنفترض جدلا بأن هناك من ينقطع عن عمله لكي يظل يقول " تبرع يا أخي لبناء مسجد " طيلة اليوم بدون مقابل مادي ، أقول لنفترض جدلا أنه يقوم بهذا العمل المرهق تطوعا لأن الحقيقة أنه يأخذ مقابلا سخيا تأسيسا على قوله تعالى في توزيع الصدقات ".. والعاملين عليها.." فهم يعتبرون أنفسهم من العاملين على جمع الصدقات ولهم فيها نسبة في المحصول تتحدد حسب الظروف التي لا محل لمناقشتها الآن، ولكن دعنا نغمض عيوننا عن هذه الحقيقة ونقول أن القائمين على هذه المشروعات يعملون متطوعين مخلصين ، حينئذ يكون من حقنا أن ننبه إلى شيء هام وهو أن عدد المساجد في القاهرة ليس قليلا إلي الحد الذي ينهض فيه أولئك الأخوة الأبرار المخلصون في حملة منظمة تستمر سنوات طوالا يجمعون فيها أموال الناس – ومنهم أكثرية محدودة الدخل – وتكون النتيجة أن تتكاثر المساجد إلى درجة تقترب من عدد المصلين . ولا يوجد في القاهرة مسجد يكتمل فيه الصف الأول إلا نادرا . إذن هي كثرة من المساجد تفوق المطلوب ، هذا إذا كانت تلك المساجد للصلاة فحسب ، والواقع أنها مشروعات استثمارية تختفي خلف عباءة الدين.
* وقلت لهم : إن الإسلام في عصوره المزدهرة الأولى لم يعرف هذه الكثرة في المساجد ، إذ كان يكفي مسجد جامع في كل مدينة ، وقد نهى عمر بن الخطاب عن زخرفة المساجد، ورأى أن توجيه تكاليف الزخرفة إلى إطعام المساكين أفضل وأهم.. وفي هذه العصور النقية لم يخرج على الناس أحد الأبرار يقول تبرع يا أخي لبناء بيت من بيوت الله .. وبسبب اقتصار المسلمين في كل مدينة على مسجد واحد يجتمع فيه المسلمون للصلاة كان وصف المسجد بأنه " جامع ".. وغني عن الذكر أن أحدا لم يفكر وقتها في استغلال المسجد لمشروعات استثمارية تجارية لصالح الأبرار وحدهم ..!!
* وقلت لهم : إن القرآن الكريم حفل بالآيات الكثيرة التي تحض على رعاية الفقراء والمساكين وأبناء السبيل ، ومع ذلك لا نجد فيه هذا الاهتمام بإقامة المساجد والدعوة إلى تأثيثها، ذلك أن المسلم يصلي لله تعالى في أي مكان ولكن ينبغي أن يكون مخلصا لله تعالى في عبادته ، وكلمة المسجد في الأصل هي موضع السجود لله على أي مكان طاهر في الأرض، لذا يقول تعالى " وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين: الأعراف 29 ". أي علينا أن نصلي لله تعالى في أي مسجد ولكن ينبغي أن نقيم لله وحده وجهنا مخلصين له الدين . وحين دعا القرآن الكريم لتعمير المساجد بالمؤمنين وصفها بأنها بيوت " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة : النور 36: 37" فأولئك الرجال لا يجمعون أموال المسلمين بحجة بناء المساجد ثم يقيمون من خلالها مشروعات استثمارية لصالحهم ، ولكنهم رجال من نوع آخر قلوبهم معلقة ببيوت الله يمارسون التجارة خارج المسجد ولكن هذه التجارة لا تلهيهم عن إقامة الصلاة وإخراج الزكاة من واقع كسبهم الحلال من تلك التجارة ، وهم يسبحون لله تعالى في هذه البيوت بالغدو والآصال . هنا تحدث القرآن عن " بيوت " في إشارة لطيفة إلى جواز الصلاة والتسبيح والاعتكاف في أي بيت على الأرض طالما تعمره بالصلاة والخشوع .
* وقلت لهم إن قريش المشركة احترفت التجارة بالدين وكانت تقيم مساجد تعبر فيها أولياء بدعوى أنها تقربهم لله زلفى ، وقد نهاهم الله تعالى عن ذلك وقال " وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا : الجن 18". ولكنهم أصروا على هذه النوعية من التجارة عمروا مساجدهم بالزينة والضجيج وخربوا قلوبهم بالزيف وتقديس الأولياء فقال تعالى فيهم " ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله : التوبة 17: 18 ".
إذن ليس المهم إقامة المساجد وتعميرها وإنما الأهم نقاء العقيدة وصفاؤها .
* وقلت لهم إن هؤلاء أهدروا حق ابن السبيل في عصرنا .
إن " ابن السبيل" هو في الأصل ذلك الغريب الذي يأتي إلي بلد مسلم ، ولا يجد فيها المأوى ، وقد جعل القرآن له حقا في الصدقة التطوعية وفي الزكاة وفي الفيء أي ما يفيء إلي بيت المال ، ومن حق ابن السبيل حتى لو كان غنيا أن توفر له الدولة الإسلامية سائر احتياجاته طالما بقى غريبا . وفي عصرنا الراهن – حيث تقدمت المواصلات وتقاربت المسافات-أصبح المفهوم التقليدي لابن السبيل نادر الحدوث ، فالمسافر إلي مكان يستطيع غالبا أن يعود إلي بلدته في نفس اليوم - وليس مضطرا كما كان يحدث من قبل لأن يقضي أسابيع وشهورا في السفر يكون فيها غريبا وابن سبيل في المدن التي يمر بها ، ومع ذلك فإن عصرنا أتحفنا بنماذج أشد بؤسا لأبناء السبيل الذين لا يجدون المأوى ويعيشون على الكفاف يبيتون على الأرصفة وفي خيام لا تسترهم وفي منازل آيلة للسقوط وفي أعشاش خربة ، هذا بالإضافة إلى ملايين من أبنائنا الشباب والشابات ذوى الأحلام المؤجلة في الزواج بسبب أزمة السكن .. وأولئك جميعا أبناء سبيل لهم علينا كمجتمع وكدولة أن نوفر لهم المأوى.
* وسكت عن الكلام ..وقال أحد الأصدقاء : هيا بنا نصلي في مسجد(...) لتعرفوا الرد العملي في الموضوع .. وذهبنا .. وبعد الصلاة جلسنا . ولفت نظري شخص يجلس ، آسف إنه يبدو مجموعة من الأشخاص قد تجمعوا معا في شخص واحد .. لا تستطيع أن تتبين ملامحه بصعوبة وسط هذا الكم الهائل من الشحم واللحم ..
ولم أكن الوحيد الذي انبهر بهذا المنظر الفريد ، وابتسم صديقنا وقال إنه الأستاذ (...) ويعمل وكيلا لأحد المدارس الثانوية . وقد زاملته منذ عشر سنين فنحن خريجو نفس الدفعة ، وكان في بدايته نحيف القدر والمقدار مثلنا . ولكنه بعد أن تولى أمانة الصندوق في هذا الجامع منذ عدة سنوات وصل حجمه إلى ما ترى.
* وقال صديقنا : إن مرتبه 160 جنيها شهريا ، ولكنه يأكل على الغذاء كل يوم 4 كيلو من الجمبري الفاخر ، ثمن الكيلو منه أربعون جنيها ، أي أنه يستهلك كل يوم وجبة واحدة ما يعادل مرتبه الشهري ، وقلت لنفسي إذا كان هذا الفك المفترس يلتهم هذا القدر من الجمبري كل يوم فكيف به في سائر الأطعمة الأخرى ؟!!
* وقلت لنفسي إنه سيأتي بعون الله اليوم الذي يصحو فيه الناس وتختفي فيه تلك التجارة بالدين وأولئك الناس المترفون ، وحينئذ يعود الفك المفترس نباتيا مثلنا يأكل الطعمية والفول والكشري ..