لماذا قطع الإخوان المسلمون شعرة معاوية المتبقية بينهم وبين سائر الفصائل السياسية المصرية بإقدامهم الانتحاري على ترشيح نائب المرشد لرئاسة الجمهورية، وهي الضربة القاصمة التي وجهوها لمن كان لا يظل حتى الآن يتصور ثمة مصداقية لجماعة احترفت التلون والمرواغة على مدى تاريخها كله؟!. . هل حقيقة أن تغير الظروف الوطنية والسياسية بمصر هو ما دفع الإخوان إلى التراجع عن قرارهم بعدم تقديم مرشح للرئاسة، أم أنهم لم يتراجعوا حقيقة عن موقف أو رؤية لهم، وما القرار المشار إليه والمتراجع عنه غير ضباب كانوا قد أطلقوه لتغطية نواياهم، تطميناً للثوار وللعالم الخارجي إبان الثورة، وقد حل الآن وقت انقشاع الضباب، وقد أغرتهم الشعبية التي تبدت في الانتخابات البرلمانية على الظهور بحقيقتهم المتربصة المهيمنة؟!
لماذا انتهت البقية المتبقية مما سمي التحالف الديموقراطي، الذي قادته جماعة الإخوان قبل الانتخابات التشريعية، وانهار تدريجياً حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، بعد انسحاب حزب الكرامة إثر "غزوة تأسيسية الدستور"، والتي ظهرت فيها النيات الحقيقية لجماعة الإخوان المسلمين التي تدعي انتهاج التوافق وليس المغالبة؟!
لماذا لا يتم التقارب السياسي بين تيار الإسلام السياسي والأقباط عبر حزب الحرية والعدالة والأحزاب التي يشارك فيها الأقباط مثل المصريين الأحرار والديموقراطي الاجتماعي وغيرها، ليتم الحوار على أسس سياسية عقلانية، بدلاً من زيارات قادة جماعة دعوية كالإخوان المسلمين للكنائس لتبويس اللحى، بما يشي بتواطؤ المتحدثين بسم الإله على الشعب الذي قاموا بتغييبه؟!!
لماذا رغم التنافس الذي يبدو للمراقب وكأنه وصل إلى درجة الصراع بين الإخوان والسلفيين، عبر ما يقدم لنا على أنه مسافة كبيرة بين طبيعة خطاب الجماعتين ودرجة استنارة كل منهما، نجد أن الأمر على أرض الواقع والمواقف المفصلية هو تحالف بينهما، ما قد تجلى في قاعة البرلمان وفي تشكيل اللجنة التأسيسية للدستور؟
أعتقد أن إجابة هذه التساؤلات هي محور إشكالية التوافق في المجتمع المصري، وبالتحديد توافق دعاة الدولة والمرجعية الدينية مع دعاة الدولة العلمانية الحديثة. . قد يبدو الأمر ظاهرياً وكأنه مجرد تعثرات متوقعة في أي مسيرة للتوافق، قد تنتج عن حاجة إلى العثور على المنهج الأفضل لتحقيقه، لكن الأمر أعقد من ذلك كثيراً، وفي معرض محاولتنا وضع اليد على جذور المسألة نواجه أكثر من تساؤل ابتدائي.
أول تلك التساؤلات هو مدى جدية الرغبة في الحوار، وبالأخص لدى الطرف الأقوى، والذي هو هنا تيار الإسلام السياسي صاحب الأغلبية البرلمانية، وصاحب الخطاب الذي يدعي الحديث باسم الله وباسم الإسلام، والموجه إلى أمة 90% منها من المسلمين المتدينين بالسليقة. . هل يرغب الإخوان بالفعل في إجراء حوار مع الآخر، أم أن المراد حقيقة هو الظهور بمظهر الساعي للحوار لا أكثر، فيما هم ينظرون للجميع باستهانة وازدراء، باعتبارهم كيانات هامشية كلامية معدومة الحول والقوة، وبالتالي لا بأس من قبيل التجمل (الذي لن يقدم أو يؤخر) من التظاهر بالاهتمام بالتحاور معها، بالتوازي مع إطلاق دانات تكفيرها واتهامها بالعداء لله ولرسوله، أو بخروجها عما هو معلوم من الدين بالضرورة!!
الرغبة الجادة من أي طرف في الحوار مع آخر لا تأتي من قبيل مكارم الأخلاق، خاصة في بيئة تفتقد احترام حق الآخر في الحياة أساساً، وليس فقط حقه في التعبير عن رأيه، لذا فإن جدية الرغبة في الحوار تفرضها موازين القوى في المجتمع، فالقوي لن يتفاوض ويتحاور إلا مع قوى أخرى يجد أنها قد تسبب له إزعاجاً وتهديداً بالانتقاص من نفوذه، فيضطر إلى الحوار معها تمكيناً لنفسه من السيادة بأقل قدر من التكلفة، فهل وضع الإخوان الآن في نطاق ميزان القوى السياسية يدفعهم حقيقة للحوار؟
الوضع في الساحة المصرية يحتم فعلاً على أصحاب الأغلبية الحوار مع سائر الأطراف، فما يفوق 25% من الناخبين لم يصوتوا لتيار الإسلام السياسي، علاوة على المواقع السياسية والاقتصادية والإدارية والإعلامية التي يحتلها دعاة الدولة المدنية، غير وضع الأقلية القبطية التي يراقب العالم الحر مصيرها الآن، في ظل ارتفاع الأصوات بطلب الحماية الدولية لهم، علاوة على أن إدارة البلاد تحتاج إلى كل هؤلاء المتواجدين على الشاطئ الآخر، لكن هل يعي الإخوان بكافة قياداتهم هذه الحقيقية، وبالقدر الكافي من الوضوح؟
هذا سؤال آخر نستطيع الاستدلال على إجابته مما يصدر عن العديد من قادة تلك الجماعة من تصريحات وتحركات، والتي يدل تنوعها وتناقضها على حقيقة أن البعض الذي يتفضل علينا بمعسول الكلام والتطمينات يدرك أهمية الحوار، وأن البعض الآخر سادر في استشعارة القوة والتمكين، ويضرب عرض الحائط بكل آخر، فيما بعض يشن هجمات عنترية تكفيرية واستئصالية لكل مختلف في الرأي أو الدين.
إذا أتينا لمن يرون أهمية بقدر أو بآخر للحوار، سنجد أنفسنا نتساءل عن نوع أو هدف الحوار الذي ينشدون. . هناك حوار حقيقي يتم فيه الأخذ والعطاء، بداية لإزالة أي سوء فهم وتفهم متبادل، تليه مرحلة النقاش في نقاط الاختلاف، ومحاولة التوصل لتحجيمها واختزالها عبر التراضي المتبادل، وليس من المتوقع بالطبع من أي حوار نموذجي أن يخرج الفرقاء منه متطابقين في الآراء والمواقف. . يتسم مثل هذا النوع من الحوار بالمصارحة، ويخلو من المجاملة حياء أو تقية، كما لابد وأن يخلو مما احترفه الإخوان المسلمون مثلاً مما يطلقون هم عليه الإيهام في القول.
إذا كانت الساحة السياسية المصرية تكاد تخلو الآن تماماً من مثل هذا النوع من الحوار، فإننا نأتي إلى النوع الآخر الذي نرصده في زيارات راغبي الترشح لرئاسة الجمهورية من رموز التيار الإسلامي، وكذا الزيارات التي يقوم بها الآن المرشد العام للجماعة للكنائس القبطية، فطبيعة هذه اللقاءات أبعد ما تكون عن أن تسمى حوار، هي لقاءات لتقبيل اللحى وتبادل عبارات المجاملة وأنخاب الشاي والجنزبيل والسحلب، يخرج منها الطرف الأقوى وهو قادة الإسلام السياسي باعتراف ضمني من الطرف الأضعف وهو قيادات الأقباط الدينية بخنوعهم لحقائق الأمر الواقع، مهما كان مجحفاً بالطائفة التي يمثلونها وينصبون من أنفسهم قادة سياسيين لها دون تفويض حقيقي.
لا نقول بالطبع أن القادة الدينيين للأقباط يكونون في مثل هذه الحالات مرغمين تماماً على الخضوع لما يفرض على رعيتهم من هيمنة نتيجة لمعادلة القوى بالمجتمع، فنصيبهم من كعكة الهيمنة على الناس "في الحفظ والصون" كما يقولون، فالقناعة التي يتميزون بها تجعل القسمة تبدو لهم عادلة، بأن يسيطر المتأسلمون على كل البلاد سياسياً وأخلاقياً وثقافياً، كما يسيطرون على المسلمين دينياً، ليتبقى لقادة الأقباط السيطرة الدينية على طوائفهم، وهذا بالنسبة لهم جل المراد من رب العباد، فما تجلبه تلك السيطرة من سلطة وتقديس وثروات دونها ثروة قارون تكفيهم تماماً!!
هذا المنهج أبعد ما يكون عن معالجة الشروخ الخطيرة بالبناء الوطني، هو يلقى وروداً ويرش روائح عطرية على تربة تفوح منها روائح الجروح التي تعفنت بصديدها، وهو ذات منهج التعمية والتجاهل والإنكار الذي ساد الحقبة المباركية، وأدى في النهاية إلى ما شاهدناه من ثورة أطاحت بالرؤوس المتربعة على العروش، ومادمنا نحجم عن معالجة مشاكلنا الجوهرية، فليس مطروحاً إذن غير القبضة البوليسية لمحاولة السيطرة على البلاد، وهذا هو أيضاً ذات النهج المباركي اللعين. . غير منطقي إن كان للمنطق مجال في رؤوسنا ورؤيتنا للعالم، أن يعيد السادة الجدد إنتاج مثيل لذات النظام والمناهج التي كانوا مشاركين في الثورة أو الانقلاب عليها، ليضعوا بهذا أنفسهم بأنفسهم في ذات موقع المخلوع وصحبه!!
لو أراد الإخوان المسلمون تحديداً الحوار الحقيقي مع سائر فرقاء الوطن، لنتوصل معاً لما فيه صالح بلادنا وشعبنا، فعليهم أولاً بالحوار الداخلي لحسم خياراتهم ورؤاهم، وإعادة تقييم مرجعياتهم النظرية وتراثهم الفكري التكفيري والاستئصالي، فالإحجام عن القيام بهذه الخطوة بجسارة وإخلاص يبيقهم أسرى الماضي وأفكاره المنتهية الصلاحية، كما ينزع الصدق والمصداقية عن أي تأويلات تنحو للتوافق مع الآخر، ويترتب على هذه المراجعات الإقلاع عن منهجهم الحالي في التقية والإيهام في القول.
ها هو غياب الحوار الداخلي للجماعة قد بدأ يؤتي ثماره الوبيلة عليها، متمثلاً في تمرد وانشقاق الكثيرين من "شباب الإخوان"، ضيقاً ونفاد صبر من منهج "السمع والطاعة" الذي بدأ به حسن البنا مسيرته منذ ثمانية عقود، ولم يعد الآن صالحاً للشباب وللعصر، ويلفت النظر هنا أيضاً تمرد الشباب القبطي الذي شرع في تجاهل ما توهمه به الكنيسة بأن "ابن الطاعة تحل عليه البركة"، فخرج إلى فعاليات الثورة المصرية، وقدم الدماء سخية في ماسبيرو، تاركاً قداسة المعظم المتنيح يلقي نكاته في وعظته الأسبوعية!!. . خروج الشباب أو تمردهم على أي مؤسسة تعجز عن التطور الكفيل باستيعابهم يؤذن ببداية النهاية لهذه المؤسسة كهيئة مهيمنة، هذا بالطبع إذا بالغ عتاة القادة والحرس القديم في جمودهم وعنادهم أو تعاليهم، ورفضوا الانتباه لمتغيرات العصر.
يلزم التيار الديني أيضاً البراء من وهم أنه الممثل لإرادة الشعب المصري، مستنداً لنتائج الانتخابات البرلمانية، وأن الخلاف الذي تصاعد الآن بعد جريمة تشكيل اللجنة التأسيسية للدستور هو خلاف مع ثلة إعلاميين تحركهم يد خفية لمهاجمة الجماعة الممثلة للضمير الوطني، فنحن جميعاً نعرف أن التفويض الشعبي لهم محض هراء، فالأصوات التي حصلوا عليها هي للبسطاء الكادحين الذين أوهموهم أن الخيار هو بين الإسلام واللا إسلام، في حين أن معارضيهم العلمانيين هم صفوة وقادة المجتمع وقوته الفاعلة. . هم صوت مصر الواعي المتطلع لغد أفضل لمصر ولجموع الكادحين الذين تعرضوا لعلمية خداع وابتزاز دنيئة. . وهذه ليست حالة مصرية خاصة، رغم أن الوضع السياسي في الشارع المصري يزيدها تجسيداً، فالصفوة في كل الشعوب هي القادرة على تجسيد مطالب وآمال وتطلعات القاعدة الشعبية، رغم ما قد تتعرض له هذه الصفوة في بعض المراحل من تضليل يحرفها عن خطها المفترض، وهو ما حدث لدينا أيضاً من خلال خطاب المرحلة الناصرية العروبية.
هل يستطيع الإخوان وأذيالهم عبور البرزخ للوصول بأفكارهم إلى رؤى عقلانية معاصرة، تجعلهم جديرين بالتوافق مع المجتمع المصري، بعد التخلي عن نظرتهم الاستعلائية التي تجعلهم يرون أنفسهم معلمين للشعب وأوصياء على دينه وأخلاقه، أم أن طبيعة خطابهم وأيديولوجيتهم غير قابلة للتطويع، بحيث يكون مصيرهم هو استئصال أنفسهم من المجتمع والحياة المصرية السياسية والاجتماعية؟!
يبدو أننا قد وصلنا جميعاً إلى لحظة الحقيقة التي لا يفيد فيها خطاب الخداع أو الإيهام، فلقد أحجم جميع السذج أو أصحاب النيات المفرطة في الطيبة عن المضي لأكثر من هذا خلف سراب التوافق الذي يوهمنا به أصحاب الفكر المفارق للواقع المصري وللعصر وقيمه، فماذا سيتلو هذه اللحظة، هل هو الصراع المجتمعي الذي قد يأتي مدمراً، أم يستفيق ويتراجع السادة المجاهدين أصحاب الفضيلة؟