يقول قائل إن الإسلام وحده دين ودنيا ( أو دين ودولة , أو دين وأمة ) لأنه يحتوي على أحكام وشرائع دنيوية ( معاملات ) إلى جانب العقائد والعبادات . والحقيقة أن اليهودية أيضا بها أحكام معاملات , وامتدادا لليهودية كانت النصرانية التي جاءت تعديلا وإضافة إلى أحكام اليهودية , يقول السيد المسيح :" لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء , ما جئت لأنقض , بل جئت لأكمل" . والوصايا العشر المذكورة في ألواح موسى جاءت أيضا في أمثال إخناتون وحمورابي وهي تماثل ما جاء في سورة الأنعام الآيتين 151-152, بل وجاء في كتاب الموتى قبل زمن إخناتون على لسان المتوفَّى وهو يدافع عن نفسه أمام الإله أنه لم يقتل أو يزن ولم يطفف في الميزان ولم يخطئ في حق الناس ولم يقترف الخطايا ولم يترك أحدا يتضور جوعا . وتمثل هذه الوصايا حجر الأساس في تنظيم المعاملات بين الناس . والقصاص بالمثل وردت أصوله أيضا في قانون حمورابي والتوراة والقرآن . أي أن مضمون دين ودنيا - يصح على كل الأديان السماوية لأنها جاءت بما ينظم دنيا الناس . وانظر الآيات الكريمة :
{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ }المائدة43,
(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}المائدة 44 وحُكم هنا بمعنى القضاء وليس بمعنى الحكومة والإدارة , واسمع الله يقول :
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ }النمل78 , وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}النساء58 ,
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }المائدة47 . وقبل ذلك قال الله لداوود :" {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ص26 .
فالقضية المحورية في الدين , أي دين , وكل دين هي الحكم بين الناس بالعدل ,أي القضاء بينهم والفصل في مصالحهم بما يريده الله: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} النحل90 , ذلك هو الأمر وليس مجرد التنسك وأداء الطقوس .
وتولى موسى ومحمد صلى الله عليهما مقاليد الأمور السياسية والدنيوية , وهاجر كل منهما من المجتمع الوثني , فخرج موسى بقومه من مصر, وكانت هجرة محمد إلى يثرب وقبلها هاجر أتباعه إلى الحبشة , وذلك هروبا من النفوذ السياسي والعسكري في البلاد التي فروا منها بدينهم. وقد تعذر الهروب على عيسى فالرومان يسيطرون على البيئة التي يباشر فيها دعوته وإن كانت الأسرة المقدسة قد هربت إلى مصر خوفا من بطش الرومان وكان ذلك قبل اضطلاع السيد المسيح بالدعوة .
ووجْه الاختلاف الآخر لدعوة عيسى عليه السلام هو أنها كانت لغير وثنيين وهم اليهود (خلافا لموسى ومحمد لأن بيئتيهما وثنيتان : مصر وبلاد العرب) , الأمر الذي كانت معه الظروف أشد وأصعب فالتغيير المنوط بدعوتي موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام, تغيير جذري وشامل ونقلة نوعية هائلة من الوثنية إلى التوحيد .
والمبادئ الإسلامية الواردة في القرآن والمكوِّنة لأسس الدولة ( في ما يخص المعاملات ) هي نفسها الواردة في باقي الأديان السماوية, فكلها تدور في فلك واحد هو تأمين حقوق الناس ودرء الظلم عنهم, والحض على الفضيلة . فجاء في ألواح موسى الوصايا العشر : " لا تشرك بالرب , لا تصنع له تمثالا , لا تنطق باسم الرب آلهة أخرى , أكرم أباك وأمك , لا تقتل , لا تزني , لا تسرق , لا تشهد شهادة زور, لا تشته امرأة قريبك أو بيته أو حقله " سفر التثنية , الإصحاح الخامس .
وكذلك يقول السيد المسيح عليه السلام : " لا تقتل , لا تزن , لا تسرق , لا تشهد , بالزور ,أكرم أباك وأمك , وأحب قريبك كنفسك" متى الإصحاح التاسع عشر .
ومثل ذلك في سورة الأنعام :
" قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " الأنعام 151 - 152 .
والعقائد متماثلة في كتب الأديان الثلاثة , والعبادات (وهي ما يكون بين العبد وربه) تختلف بحسب الظرف والزمان, فأتْباع الديانات السماوية الثلاث(في الحقيقة هم دين سماوي واحد سماه الله الإسلام) يصلون ويصومون . والله يقول :
{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}الشورى13. فدين الله واحد , أرسل به الرسل للناس في أزمان متعاقبة واسماه الإسلام (دين موسى وعيسى ومحمد , وقبلهم جميع الرسل والأنبياء) , ولا يصح إيمان المسلم " من أتباع محمد " مالم يؤمن بدين الله الذي بلغه سائر الأنبياء السابقين في الأزمان الماضية , فكل " المسلمين " يؤمنون بكل الرسل وبكل الكتب , والنبي محمد نفسه يتبع ما جاء به النبي إبراهيم :{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }النحل123. والله يصف المؤمنين بأنهم : {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }البقرة4 .
ذلك هو الفهم الصحيح لوحدة دين الله , ومن ينكرها ويؤمن ببعض هذا الدين - مما جاء على يد بعض الرسل - وينكر بعضه الآخر- مما جاء على يد رسل آخرين - فقد كفر , فالله يقول :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }النساء 150- 151 .
فمن يرى أن دين الله غير واحد فقد كفر . والإيمان بكل الرسل وكتبهم شرط صحة الإيمان , فالله يقول :
{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }البقرة 285 .
ولم يكن الإيمان بالكتب السابقة فرضا , ما لم تكن مطابِقة من حيث المنهج لبعضها البعض , وكذلك الإيمان بالرسل فمنهجهم واحد , ( لا نفرق بين أحد من رسله ). .