مقدمة كتاب ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بين الاسلام والمسلمين )

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٢٧ - فبراير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا :

 ساد التعصب الدينى معظم العالم المعروف فى القرون الوسطى . مصر كانت استثناء ، إذ قام التدين المصرى على أساسين هما: الصبر والتسامح، الصبر على جور الحاكم والتسامح مع الآخر، صحيح أنه كانت هناك بعض حركات تعصب ضد أهل الكتاب، ولكنها كانت جملة اعتراضية فى التاريخ المصرى الإسلامى، علاوة على أنها كانت فى الأغلب- بفعل عامل خارجى-، مثل حاكم متعصب أو فقيه متعصب زائر، وسرعان ما تمر الأزمة ويعود الوئام، ويعود المصرى لما تعود عليه خلال تاريخه الطويل، إلى الصبر والتسامح والتندر على الظالمين وصراعاتهم وتقلب الزمن بهم صعوداً وهبوطاً.
وهذا التسامح المصرى فى العصور الوسطى كان مبعث الدهشة للرحالة والفقهاء الزائرين، خصوصاً من أتى منهم من مناطق تموج بالتعصب، وكل منهم كان يعبر عن دهشته من انصراف العابد إلى عبادته، والماجن إلى مجونه، وكيف تمتلئ المساجد بروادها والحانات بمرتاديها، ولا ينكر هذا على ذلك، وكل منهم مشغول بما هو فيه، نقرأ هذا الكلام فيما كتبه المقريزى فى الخطط عن شيخه العلامة ابن خلدون، وفيما كتبه الفقيه المغربى ابن الحاج فى "المدخل" عن شيخه العراقى، وفيما كتبه الرحالة المغربى ابن ظهيرة فى كتابه "الفضائل الباهرة فى محاسن مصر والقاهرة". )
ولذلك فإن المصريين فى العصر المملوكى لم يستجيبوا لدعوة ابن تيمية الذى لاقى رواجاً فى الشام حيث تسود الطائفية والتعصب، بل إن المذهب الحنبلى المتشدد الذى كان عالى الصوت فى الشام والعراق اختلف وضعه فى مصر، حيث تأثر بالتسامح المصرى فترك تشدده . ومن العجيب أنه فى الوقت الذى احتدم فيه الصراع المذهبى الفقهى فى الحجاز والشام والعراق فإنه كان من السهل فى مصر أن ينتقل فقيه من مذهب إلى آخر حسب أطماعه الوظيفية. وتلك الحالة عجيبة لم نر مثيلاً لها خارج مصر فى العصور الوسطى.
ولذلك فإن التصوف كان الأقرب إلى طبيعة التدين المصرى، لذا انتشر فيها وساد منذ القرن الخامس الهجرى . فقد احتوى التصوف كل العقائد المصرية القديمة وصاغها فى أشكال تحمل رموزاً إسلامية. واشترك المصريون جميعاً من أقباط ومسلمين فى تأدية نفس الطقوس وفى نفس المناسبات، كالموالد والقبور المقدسة والاعتقاد فى الأولياء والقديسين، وقد فصلنا الحديث فى ذلك فى كتابنا "شخصية مصر بعد الفتح الإسلامى". وفى هذا الإطار كان التسامح مع الآخر، و"التسليم بحالته وطريقته" هو دستور التعامل فى مصر ، بينما كان "تغيير المنكر"بالقوة هو الدستور الآخر خارج مصر، حيث كان تغيير المنكر يتحول إلى ثورات عارمة فيما بين إيران والشام.

والعجيب أن يظهر التعصب والتزمت الحنبلى فى مصر فى عصرنا الحديث ، عصر حقوق الانسان والديمقراطية والدعوة للتسامح والإخاء الدينى . والسبب هو دين الوهابية السعودية الذى ظهر فى منطقة نجد فى الجزيرة العربية.
 

ثانياً: التدين فى نجد بين الماضى والحاضر:
منطقة "نجد" فى الجزيرة العربية هى نقيض مصر الثرية بمواردها، المنفتحة على العالم بموقعها، المعتدلة بمناخها، المتسامحة بشعبها . منطقة "نجد" متطرفة فى مناخها شحيحة فى مواردها منعزلة فى صحرائها لا يرى أهلها إلا أنفسهم، ولا يرون فى الأغراب إلا مجرد ضحايا للسلب والنهب حين يمرون على صحراء نجد من العراق إلى الحجاز. فى صحراء نجد القاحلة والواسعة عاش الأعراب على قطع الطريق، وكانت تأتيهم الفرصة الكبرى حين تنشأ فيهم أو تنتشر بينهم دعوة دينية تبرر وتبيح لهم القتل والسلب للآخرين على أنه جهاد. ولذلك كان استحلال الأعراب النجديين لدماء المسلمين المسالمين وأموالهم وأعراضهم فى التاريخ الاسلامى مرتبطا بثوراة نجد الدينية، تلك الثورات التى تخصصت فى التدمير وسفك الدماء. وما عدا الثورات ومشروعات الدول الدموية فإن تاريخ نجد العادى مجرد غارات داخلية فيما بينهم أو غارات سنوية عادية على قوافل الحجاج , أى مجرد غارات "علمانية" بدون شعارات دينية. ولكن تلك الغارات المعتادة استلزمت أن تسير قوافل الحجاج فى حماية جيش كامل، ويمكن التأكد من ذلك خلال الحوليات التاريخية العراقية للعصور الوسطى خصوصاً تاريخ المنتظم لابن الجوزى ت 597 هـ. ولقد تأثر ابن خلدون بتاريخهم الدموى فقرر فى مقدمته الشهيرة أن الأعراب هم أسرع الناس للخراب، وأنهم يحتاجون إلى دعوة دينية يستطيعون من خلالها استحلال الدماء والأموال والأعراض وإسباغ الشرعية على ثوراتهم واعتدائهم. ومن نجد (قرن الشيطان ) كما يقال فى بعض الأحاديث نبعت حركة مسيلمة الكذأب ، ثم كانت نجد الرحم الذى خرج منه الخوارج ثم حركة الزنج ثم بعدها القرامطة . وأخيرا الوهابية التى ظهرت فى نفس المنطقة التى ظهر فيها من قبل مسيلمة الكذاب.

ثالثا :

1 ـ قامت الدولة السعودية ثلاث مرات وسقطت مرتين . أسقطها فى المرة الأولى الوالى على مصر محمد على باشا ، وسقطت فى المرة الثانية بسبب الصراع الداخلى فى الأسرة. ثم أعاد عبد العزيز آل سعود إنشاءها . كان إسم الوهابية ممقوتا فى مصر فعمل عبدالعزيز آل سعود على نشر الوهابية فى مصر ـ بعد استيلائه على الحجاز ـ تحت مصطلح السلفية والسّنة . كانت مصر تدين قبلها بالتصوف السّنى المعتدل ، ولكن تمكن عملاء عبد العزيز من تحويل مصر خلال 80 عاما الى التدين السّنى الحنبلى التيمى (ابن تيمية ) الوهابى . كان أخطر عملاء عبد العزيز آل سعود فى مصر : ( حافظ وهبة ( المصرى مستشار عبد العزيز آل سعود )، رشيد رضا ( السورى الذى خان منهج استاذه الامام محمد عبده)، محب الدين الخطيب ( السورى صديق رشيد رضا )، وحامد الفقى، والسبكى ( شيخ الجمعية الشرعية) . بجهدهم وخلال سنوات ( 1926 : 1928 ) : تحولت الجمعية الشرعية الى الوهابية بعد ان كانت قلعة للتصوف ، وأنشا حامد الفقى ( أنصار السّنة ) لتتفرغ للدعوة عبر مجلتها ( الهدى النبوى ) ، وأنشأ رشيد رضا ( الشبان المسلمين ) جمعية حركية تربوية للشباب ، ثم إختار رشيد رضا من بين شباب ( الشبان المسلمين ) الشاب حسن البنا ليقيم جماعة الاخوان المسلمين التى تتفرغ للعمل السياسى وإقامة دولة وهابية فى مصر تكون تابعة للدولة الأم فى الجزيرة العربية والتى حملت اسم السعودية عام 1932.

2 ـ تفرغت الجمعيات السلفية الدعوية للدعوة واخترقت بقية الجمعيات كما اخترقت الازهر ، وبدأت ببطء واصرار فى تغيير التدين المصرى الصوفى المتسامح ليكون ـ وعلى مهل ـ تدينا سنيا متشددا حنبليا وهابيا . فى نفس الوقت نجح حسن البنا فى استغلال مناخ الليبرالية وسخط الشباب خلال ( 1928 : 1949 ) فى  تشكيل 50 الف شعبة فى مصر للاخوان المسلمين ، وإنشاء التنظيم الدولى للاخوان و تكوين الجيش السّرى للاغتيالات . ولم تنتبه له السلطات فى مصر إلا بعد ان نجح فى تفجير ثورة الميثاق فى اليمن عام 1948 وقتل امامها يحيى وسرق كنوزه الذهبية . بالتالى إنتبهت السلطات المصرية للاخوان ظهرت خطورتهم خصوصا بعد اغتيال النقراشى وماهر و القاضى الخازندار .

3 ـ  أخطر ما قام به الاخوان هو تسللهم للجيش وتحالفهم مع الضباط الأحرار وكونهم الشريك الشعبى لانقلاب يولية 1952 .ولأن الاخوان لا يقبلون شريكا ولا يعترفون بالمشاركة بأى حال ـ مهما نافقوا ـ فقد اختلفوا مع عبد الناصر ، فهزمهم عبد الناصر سيياسيا ، ولكنه كحاكم عسكرى أغفل الخطورة الحقيقية للأيدلوجية الوهابية فترك ايدلوجيتهم تعمل فى نشر الوهابية فى مصر ببطء تحت اسم السلفية مكتفيا بالترويج للقومية العربية بديلا سياسيا . لذا كانت الوهابية ممثلة للاسلام فى الضمير الشعبى المصرى بعد سقوط الناصرية فى هزيمة 1967 ، والتى اعتبرها الشعرواى ـ زعيم الدعاة السلفيين ـ انتقاما من مصر وعبد الناصر بسبب سياساته وتعذيبه للاخوان .

4 ـ بمجىء السادات وتحالفه مع أمريكا والسعودية والاخوان أتيح للسلفية بجناحيها الدعوى ( الجماعات السلفية ) والسياسى الحركى ( الاخوان ) السيطرة على العقلية المصرية من خلال الأزهر ، التعليم والمساجد والأوقاف و الاعلام ، بل تسللت الى الثقافة والشرطة والجيش. وانتشرت جمعيات وجماعات دعوية فى القرى والمحافظات ، وتفرع عن الاخوان تنظيمات سرية وعلنية من حزب التحرير والتكفير والهجرة الى الجماعة الاسلامية والجهاد والشوقيين والناجون من النار ..الخ . وحين اختلفوا مع السادات قتلوه .

5 ـ  وجاء مبارك خادما للسعوديين والاسرائيليين والأمريكيين .وحتى يظل فى الحكم فقد استخدم وجود الاخوان وجماعاتهم فى تخويف الغرب وامريكا والعلمانيين والأقباط ، كما استخدم جماعات السلفية فى نشر الدين الوهابى لينتج المزيد من شباب التطرف ، ووضعهم تحت سيطرة أمن الدولة ليستغلهم ضد الأقباط والعلمانيين .

6 ـ وبعد خلع مبارك انتهت سيطرة (أمن الدولة ) على جماعات السلفية فظهرت فجأة  كمارد خرج من قمقم ، وعجّل المجلس العسكرى ـ جنرالات مبارك ـ بالانتخابات النيابية ففاز فيها الاخوان والسلفيون . وهذا يوضح سهولة الاتفاق بين العقليتين المستبدتين : العسكرية والسلفية الدينية .

7ـ  ويلعب الاخوان ببراعة بالمجلس وبالثورة ، يخدعون جنرالات مبارك من خلال صفقة بينهما يخرجون بها آمنين مثقلين بالغنائم ، وبعد تحييد جنرالات مبارك ستتم إحالتهم الى الاستيداع بحكم القانون ، ومعظمهم تجاوز الستين ، وبالتالى يفقدون مراكزهم ونفوذهم ، وعندها سينتقم منهم الاخوان ويقومون بترقية رتب عليا جديدة تدين لهم بالولاء . بعد السيطرة على الجيش سيكون سهلا عليهم احتواء الثورة والثوار وإقامة دولة دينية تستنّ بسنة فرعون أشهر مستبد سياسى دينى وصل به استبداده الى الاعلان بأنه الرب الأعلى .

هذا سيناريو متوقع نرجو ألا يحدث .

8 ـ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من أروع ما جاء فى الاسلام من تشريعات ، ولكنه تحول بالوهابية الحنبلية الى رجس من عمل الشيطان يتم تطبيقه يوميا فى السعودية ، ويأمل السلفيون تطبيقه فى مصر ، وقد أعدوا له عدته مقدما باستيراد العصى الكهربائية لتأديب المصريين والمصريات . ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد بل سيشمل سلسلة من الممنوعات والمحظورات وسلسلة من محاكم التفتيش تحاكم الناس على عقائدهم وأفكارهم وأقوالهم والمباح من أعمالهم ولكن تخالف الدين الوهابى كالتدخين و الزى و التسلية والفنون بمختلف انواعها ، بل سيصل الأمر الى تحريم السياحة والدعوة الى تدمير الآثار الفرعونية لأنها فى عقيدة الوهابية السلفية أصنام وأوثان . بإيجاز مفزع سيتم القضاء على مصر حضاريا وإنسانيا تحت لواء ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) بطريقة الحنابلة السنية ( من رأى منكم منكرا فليغيره ).

9 ـ من أجل هذا نبادر بتقديم هذا الكتاب ، وقد كان بحثا موجزا لم يسبق نشره ، وأعكف الآن على التوسع فيه ليكون بحثا أصوليا تاريخيا تحليليا لموضوع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بين الاسلام والمسلمين .

10 ـ والصورة النهائية للبحث لا يمكن القطع بها الآن . ولكن المتصوّر أن ينقسم البحث الى ثلاثة أبواب بعد هذه المقدمة .

الباب الأول عن (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بين الاسلام والمسلمين فى المستوى النظرى التقعيدى ). ويتناول الفصل الأول  لمحة عامة عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الاسلام ، ثم تأصيل مفهوم المعروف والمنكر قرآنيا وتشريعيا ومدى تطبيقه فى الدولة الاسلامية فى إطار الحرية الدينية المطلقة للفرد . ويتناول الفصل الثانى بصورة نقدية تقعيدات الدين السّنى للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من الأشعرى والملطى والماوردى الى ابن تيمية ، وكتابات الفقه الوعظى . ويتناول الفصل الثالث منهج أئمة الصوفية فى الانكار وفى تقعيد عدم الاعتراض بديلا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

الباب الثانى يسير مع الواقع التاريخى للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من عصر الخلفاء الراشدين الى العصر العثمانى ، فى فصول متتالية تبين الجذور التاريخية لصناعة حديث ( من رأى منكم منكرا ) بين موقعة دير الجماجم فى عصر عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف عام  82 او83 الى قتل أحمد ابن نصر الخزاعى عام 231 على يد الخليفة الواثق العباسى . ثم تطور سيطرة الحنابلة على الشارع والعوام فى القرنين الثالث والرابع من الهجرة تحت شعار ( من رأى منكم منكرا ..) الى أن توارى نفوذهم فى القرن السادس ليحل محله وبالتدريج نفوذ أعدائهم الصوفية الذين يتعاظم نفوذهم فى العصر المملوكى 648 : 921 / 1250: 1517 . فيضطهدون ابن تيمية فى القرن الثامن ثم البقاعى فى القرن التاسع .

وينفرد الباب الثالث والأخير بقيام الدولة الوهابية السعودية على التفسير الحنبلى لموضوع  (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر )، وتعاملها به داخليا وخارجيا خلال الدولة السعودية الأولى 1745 ـ 1818 والدولة السعودية الثالثة الراهنة والتى أسسها عبد العزيزآل سعود فى اعوام ( 1901 : 1932 ).

والله جل وعلا هو المستعان .

اجمالي القراءات 14710