روح القوانين ونصوصها

كمال غبريال في الخميس ٢٣ - فبراير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

هي واحدة من علامات حالة التردي في الثقافة المصرية، أن يجد غير متخصص في القانون مثلي نفسه مضطراً لأن يسطر كلمات بأمل أن يفهم منها جهابزة متخصصون بعض ما يفترض أن يعلموه للناس بخطابهم وأدائهم، لهذا فليس من قبيل المبالغة أو التشاؤم القول أننا نعيش الآن مرحلة انحطاط لا يبدو للشاطئ الآخر من مستنقعها أي إشارات!!
وجدت القوانين عندما ترك الإنسان مرحلة الالتقاط في الغابات، وبدأ يدخل مرحلة الرعي ثم الزراعة وما تلاها من مراحل حضارية، أي عندما ودَّع الإنسان العيش منفرداً، وبدأ يعيش في تجمعات يربط بين أفرادها علاقات، كنتيجة لظهور بوادر الاعتماد المتبادل، وكان هذا يعني ضمناً وجود قواعد أو قوانين تحكم هذه العلاقات، كما تحفظ حقوق الإنسان الفرد الشخصية وسط الجماعة، وتقي الفرد والمجموع خطر تجاوز أو تعد مارق لهذه الحدود، فكان قانون العقوبات الشفاهي أو العرفي بداية والمدون لاحقاً، عقاباً وردعاً لمثل هذا الخروج على قواعد أو قوانين الجماعة.
تطور النشاط الإنساني وانتقل من مرحلة لأخرى، وتواكب مع ذلك تزايد أعداد البشر وتضخم تجمعاتهم، بداية من قرى إلى مدن، وارتباط المدن لتشكل ولايات ثم دول وإمبراطوريات. . لم يكن الأمر بالطبع مجرد تزايد في الحجم أو الكم، وما يترتب عليه من الحاجة لتطوير القوانين لتناسب التجمعات البشرية بحجمها المتزايد، بل كان تطور النشاط الإنساني، وما صاحبه من تزايد العلاقات وتعقدها وظهور علاقات جديدة باستمرار بين الأفراد والمجموعات. . أدى هذا بالتبعية لضرورة تطور القوانين بما تشمل من قواعد وعقوبات، لكي تساير الحاجة المتطورة لتحقيق ذات الغرض الواحد الذي لم ولن يتغير، وهو "حفظ حقوق الفرد والجماعة" من أي انتهاك أو تعد.
نحن إذن أمام حالة تطور مستمر لا يتوقف ما لم يتوقف تطور البشر، ومع ذلك يبقى هنالك ثابت واحد وحيد، يمكن أن نسميه "الغاية" أو "المقصد الأعلى"، أو نسميه "إرادة الشعب والمجتمع"، كما كان هناك دائماً من يعتبره "المقاصد" أو "المشيئة الإلهية"، كما يُعَدُ الخارجون عن القانون هكذا خارجين على "المشيئة الإلهية"، وبذا يستحقون عقاباً في الحياة الآخرة، بالإضافة إلى عقابهم في هذه الحياة الدنيا. . هذا الوصف الأخير لما يحتاجه المجتمع وأفراده من حفظ لحقوقهم ومعاقبة من ينتهكها هو وصف متسق مع جوهر الفكر الإنساني والديني معاً، باعتبار الإله هو مصدر الخير وحارسه، وما الخير إلا حفظ حقوق الناس وانتظام علاقاتهم ومعاقبة وردع المنتهكين لها؟
"نصوص القوانين" إذن بما تشمل من عقوبات ليست "غاية" في ذاتها، وليست هي ذات "رغبة المجتمع" أو "الإرادة الإلهية"، لكنها مجرد "وسيلة" لتحقيق "غاية" أو مقصد أعلى، ولما كانت الحياة والعلاقات الإنسانية التي تحكمها هذه القوانين متغيرة، فإن تحقيق المقاصد العليا لا يتحقق إلا بأن تلهث القوانين خلف المتغيرات لكي تسايرها، قبل أن تصبح قوانين متحفية عاجزة عن تحقيق ما وضعت لأجله، بل وقد تصبح مع الوقت والتغيرات معوقة وربما مضادة للغاية العليا بعد أن كانت "وسيلة" لتحقيقها وتفعيلها.
نستطيع أن نسمي الغاية العليا "روح القوانين"، وأن نسمي القواعد الموضوعية "نصوص القوانين"، ليكون الثابت دائماً هو "روح القانون"، أما "النص" فمتغير لكي يتوافق دوماً مع "الروح"، وحتى في زمان ومكان محددين، يحتاج القاضي أو المُحَكِّم بالقانون إلى فهم وإدراك "روح القانون" لكي يستطيع تطبيق نصوصه التطبيق الصحيح، وافتقاد القاضي لهذا الفهم لابد وأن يترتب عليه تطبيقاً معيباً أو جائراً للقانون.
القانون ذاته عبارة عن ثلاثة أجزاء: القواعد والعقوبات والإجراءات. . "القواعد" هي التعليمات والأوامر، أو النقاط المقصودة بالحماية من التجاوز، أن أنها هي "الوسيلة" التي تحقق "الهدف"، أما "العقوبات" فهي "الوسيلة" التي يتم عن طريقها حفظ "القواعد"، كما أن "الإجراءات" هي "الوسيلة" التي تضمن عدالة ودقة توقيع "العقوبات" على من يستحقها بالفعل.
نلاحظ هنا أنه كما وجدنا أن "القوانين" أو "القواعد" ليست "غاية" في ذاتها، وإنما هي مجرد "وسيلة" لتحقيق "غاية" هي الثابت الوحيد أي "المقاصد العليا" أو "حفظ حقوق المجتمع والأفراد"، وبالتالي فلابد للقوانين أن تتغير مع تغير الظروف والأحوال والزمان والمكان، لتستطيع أن تكون "وسيلة" جيدة وفعالة في تحقيق الغاية، فإننا نجد كذلك أن "العقوبات" ليست غاية في ذاتها، وإنما هي أيضاً "وسيلة" لتحقيق غاية أعلى منها هي "حفظ القوانين"، ولكي تظل الوسيلة فعالة ومناسبة لابد هي الأخرى أن تتطور من تطور الأحوال، وإلا سوف تفشل في تحقيق الغاية وهي "حفظ القوانين، وبالتالي تفشل "القوانين" كوسيلة في حفظ وتحقيق "الغاية النهائية"، التي هي "المقاصد العليا" أو "إرادة المجتمع" أو "المشيئة الإلهية".
وكذا بالنسبة "لإجراءات الضبط"، هي الأخرى ليست غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة لغاية أعلى هي "ضمان عدالة تطبيق العقوبات"، ولابد من خضوعها لسنن التغيير لضمان كفاءتها في تحقيق غايتها القريبة، وهكذا وصولاً لذات "الغاية النهائية" الثابتة وحدها في عالم الثابت الوحيد فيه هو التغيير.
هكذا نتوجه لأولي الألباب الذين يفقهون "المقاصد العليا" الإنسانية أو الإلهية، والذين يحرصون عليها من أجل "خير الإنسان والإنسانية"، والتي يؤمن الأتقياء أنها هي ذات "المشيئة أو الإرادة الإلهية"، نقول لهم أن تحقيق هذه المشيئة يحتاج إلى "وسيلة" أي "قوانين" جيدة ومناسبة، ولكي تكون الوسيلة كذلك لابد وأن تتسق مع ظروف الحياة المتغيرة، فهي أن ظلت ثابتة ولم تواكب متغيرات الحياة ستفشل في تحقيق الغاية، بل وقد تؤدي للمضاد "للغاية" التي كانت في يوم ما تحققها، وكذا الأمر بالنسبة "للعقوبات" و"الإجراءات"، فثباتها لن يؤدي إلا إلى فشلها في تحقيق الغايات القريبة ومن ثم الفشل في تحقيق "الغاية النهائية".
لا أجد ثمة داع لأن أعقب هذه الكلمات بكلمات أخرى تضع النقاط على الحروف، فالأمر واضح لكل ذي عينين، أما من عشت عيناه وانغلق عقله وقلبه، فلا فائدة من أي كلمات مهما كانت قوية لتفتح ما انغلق من فهمه. . أتعشم أن أكون بهذه الكلمات "قد ناديت حياً"، وأن "أجد حياة فيمن أنادي"!!

 

اجمالي القراءات 7929