أولا :
1 ـ فى طفولتنا فى الخمسينيات كنا نلعب لعبة ( عسكر وحرامية ) ، ننقسم الى فرقتين ، فرقة العسكر التى تطارد الفرقة الحرامية . كنا ببراءة نعكس الواقع المصرى فى عصر عبد الناصر حيث كان العسكر المصرى الحاكم ( المستبد ) نزيها يحارب ويواجه الحرامية فى داخل مصر وفى خارجها أقليميا فى ( الرجعية العربية وملوكها فى الجزيرة العربية والاردن والمغرب التى تنهب شعوبها ) والحرامية العالميين أى الاستعمار الغربى ، وقت شراسته وبجاحته . والآن يعيش جيلى شيخوخته وهو يشهد العسكر المصرى هو نفسه الحرامية .
2 ـ الحرامى فى عهد عبد الناصر كان نشالا يسرق من الاتوبيس ووسائل المواصلات ،او سارقا للمواشى فى الريف ، أو موظفا يرتشى . وكانوا جميعا تحت سلطة القانون ، وكانوا فى الأغلب من قاع المجتمع وسقط المتاع . كان النظام الناصرى نزيها لأن عبد الناصر برغم استبداده كان شريفا نزيها . وهناك حكمة إنسانية تكررت أمثالا مختلفة الصياغة ، قالها مثلا الخليفة عمر بن عبد العزيز : ( السلطان كالسوق ..) بمعنى أن أنك حين تريد شراء جواهر وذهبا وفضة فلن تذهب الى سوق المواشى ، وحين تريد شراء بضاعة جيدة نظيفة شريفة فلن تذهب الى سوق الخردة والبضائع المسروقة . فالسلطان الشريف يجمع حوله الشرفاء ، والسلطان الوضيع الحرامى لا يطيق وجود إنسان شريف الى جانبه . والمثل الآخر يقول :
( الطيور على أشكالها تقع )، فالحمام لا يطير مع النسور واليمام لا يغرد مع الصقور ، وحتى الشحرور لا يطير مع العصفور. كل نوع من الطيوريسير مع بعضه ، وكذلك البشر ، لذا نحذّر أبناءنا من رفاق السّوء،وتستطيع أن تحكم على إنسان ما بنوعية أصدقائه وأصحابه وخلاّنه . وهكذا السلطان ، فالحاكم النزيه لا مكان عنده للحرامى إلا فى السجون ، أما الحاكم الحرامى فهو شيخ منسر تجد فى عصره الآلاف من ( على بابا ) والأربعين ألف حرامى . هذا هو الفارق بين عبد الناصر فى طفولتنا وحسنى مبارك وجنرالاته فى شيخوختنا .
3 ـ التناقض هائل بين عسكر عبد الناصر فى عزّته ونزاهته وعسكر حسنى مبارك فى خسته ودناءته . هناك حالة وسطى تتمثل فى عسكر السادات الذى شهد الانفتاح ، بلا إستعداد لتغيير البيئة التشريعية فى مصر ، وبلا استعداد لأن يواكب الانفتاح الاقتصادى أنفتاح سياسى . أدى هذا التناقض التشريعى والسياسى الى ظهور القطط السمان ثم البقرات السمان ثم الحيتان ، وهى تعبيرات راجت فى عصر السادات ترصد ظهور طبقة المفسدين وتطورها.السادات نفسه لم يعمل بالتجارة ولم يسلط ابنه وإخوته على المفسدين يشاركهم فى السرقة ، ولكنه لم يكن فى نزاهة عبد الناصر كما لم يكن فى وضاعة ودناءة حسنى مبارك . حتى الحرامية فى عصر السادات كان لديهم بعض الخطوط الحمراء لأنهم يعرفون أن السادات لم يكن مستفيدا على المستوى الشخصى من فسادهم برغم أنه فتح لهم الأبواب على مصراعيها للسرقة ، إلا إنهم أيضا يعرفون أن السادات لا يوثق به ، وممكن أن يفاجئهم بصدمة من صدماته المشهورة عنه فى تحولاته الفجائية . لذا كان عسكر السادات يمثل اللون الرمادى بين القمة فى عسكر عبد الناصر والحضيض فى عسكر مبارك .
4 ـ ملامح الحضيض فى عسكر مبارك كثيرة ، فهو أولا يختار من هم على سنّته وطريقته فى السلب والنهب والسرقة والجشع ليكونوا معاونيه وواجهات لسرقاته ووكلاء لأعماله ، ثم هو فى جمع المال لا يعرف الحدّ الأقصى ، فهو منهوم لا يشبع . ثم هو وعسكره معا لا يستحيون من أى طريقة تجلب لهم المال ، سواء فى تجارة السلاح أو سرقة القطاع العام أو مناجم مصر أو بيع الغاز المصرى لاسرائيل بأبخس الأسعار مقابل عمولة هائلة لتعيد اسرائيل تصديره لأوربا بينما يعانى المصريون من شحّ الغاز ، أو سرقة بنوك مصر وأراضيها أو بيع النفوذ فى الداخل وبيع السياسة المصرية وتركيعها إقليميا للعرب البتروليين وعالميا لأمريكا والغرب أو حتى باستجداء الهدايا من الملوك والأمراء العرب ، وفرض الاتاوات على رؤساء الشركات فى الداخل.وفى كل الأحوال تجريف الثروة المصرية وتهريب معظمها الى الخارج ، والعمل على إبقاء مصر ( خرابة ).
5 ـ هذا التطرف فى السرقة والسلب والنهب يجبر أى إنسان على أن يضرب كفّا بكف متعجبا متسائلا . ولكن هذا التطرف فى السرقة والسلب والنهب من عسكر مبارك يأتى مصحوبا بما هو أبشع منه ، وهو التعذيب للمصريين الأبرياء ومطاردة الأحرار والمصلحين واضطهادهم ، وهذا ما عانينا منه نحن أهل القرآن . وهذا التطرف فى السرقة والسلب والنهب والذى صوحب بالتعذيب والاضطهاد أسفر عن ملمح بذىء من ملامح الحضيض لعسكر مبارك ، وهو مطاردة الجمعيات المدنية العاملة فى التنوير وحقوق الانسان ، وتجريمها بحجة أنها تحصل على تمويل أجنبى من امريكا والخارج . هنا المأساة الملهاة التى تجبر أى إنسان نصف عاقل على أن يضرب رأسه فى الحائط تعجبا واستنكارا ، فالذى يسرق البلايين من عرق المصريين والذى يستجدى المعونة من العرب والغرب بالبلايين هو نفسه الذى يجرّم ويحرّم على المواطنين المصريين الحصول على فتات من التمويل تذهب لرعاية ألاف الأسر والعائلات من المثقفين الغلابة المهمومين باصلاح وطنهم و تخفيف آلام ضحايا العسكر .
6 ـ حملت الأيام الماضية خبر هجوم عسكر مبارك على بعض منظمات المجتمع المدنى فى مصر ، وبعض الفروع الأمريكية فى مصر التى تم إنشاؤها بموافقة العسكر بطبيعة الحال ، ولكن بسبب تباطؤ عسكر مبارك فى تسليم السلطة وبسبب تورطهم فى مذابح للمصريين حدث خلاف بين إدارة الرئيس الأمريكى أوباما ،والذى سبق أن حذّر المجلس العسكرى من التصدى للمظاهرات التى بدأت يوم 25 يناير وأسقطت مبارك . الأزمة محتدمة الآن بين جنرالات مبارك وأوباما ودخل فيها الكونجرس مؤيدا لأوباما ، فما كان من جنرالات مبارك إلا أن قاموا بهجمتهم تلك على بعض مؤسسات المجتمع المدنى العاملة فى مجال الحرية والديمقراطية بتهمة الحصول على تمويل أجنبى بلا موافقة . أى إن عسكر مبارك إكتشف الآن ـ وبعد ربع قرن ـ إنهم يحصلون على تمويل مخالف للقانون . هذا التمويل يبلغ عدة ملايين للترويج للديمقراطية والشفافية وحقوق الانسان ومراقبة الانتخابات، وهو يخضع لحسابات ومراجعات من الممول ومن الحكومة المصرية ، وبالاتفاق معها وبعلمها . فماذا عن التمويل الوهابى الذى يبلغ البلايين وبلا مستندات ويهدف لاحراق مصر وقتل ملايين المصريين ؟
7 ـ وقد جاء فى جريدة البديل الاليكترونية فى 8 فبرلير 2012 الآتى :
دعت منظمة العفو الدولية إلى إسقاط التهم الموجهة إلى 43 من الأشخاص العاملين فى المجتمع المدني إلى محكمة الجنايات، معتبرة أنها قائمة على قوانين قمعية تضطهد منظمات المجتمع المدني وتضيق عليها.)
8 ـ من بين من شملهم قرار الاتهام ابنى الشريف أحمد صبحى منصور ، وهو يعمل فى فريدوم هاوس ( بيت الحرية ) الأمريكى مشرفا على مكتب مصر وشمال افريقيا والشرق الأوسط . وهو معنا فى أمريكا ، ولقد نشر يوم الثلاثاء 7 فبراير هذا المقال بالانجليزية فى المجلة الأمريكية ذائعة الصيت ( فورين بوليسى / السياسة الخارجية ) . ننشر هنا ترجمته ليكون دليل اتهام للعسكر الحرامية .
9 ـ ترجمة المقال :
( التعامل مع خدعة الجنرالات
حكومة مصر العسكرية تقول أني هارب من القانون
وأنا أقول حان الوقت لدافعي الضرائب الأمريكيين التوقف عن دعم الإستبداد
بقلم :شريف منصور
في يوم الإثنين ،السادس من فبراير، رفعت وزارة العدل المصرية قضية ضدي،بالأضافة إلى 42 موظفاً من 5 منظمات غير حكومية تعمل في مصر، محولة قضايانا إلى المحكمة الجنائية. إتهموني بأني (أمريكي من أصل مصري) هارب، زاعمين أني "أدير فرعاً لمنظمة عالمية بدون ترخيص من الحكومة المصرية"، كما و "قبولي و استلامي لمبالغ مالية من منظمات دولية بغرض تنفيذ نشاطات ممنوعة قانونياً وتنتهك سيادة الدولة . للسنوات الخمس المنصرمة ، كنت موظفاً لدى مؤسسة (بيت الحرية-فريدوم هاوس) أدير برامج لتمرين و تمكين نشطاء الدعوة إلى الديمقراطية و حقوق الإنسان. ولدت في مصر ، و بدأت عملي في مجال حقوق الإنسان بالإنضمام إلى مركز إبن خلدون للدراسات الإنمائية ،أقدم منظمة لحقوق الإنسان في مصر ، حيث ترأست تحالفاً لمنظمات الغير حكومية لمراقبة إنتخابات 2005 .إنتقلت إلى الولايات المتحدة في سنة 2006 هرباً من مضايقات نظام حسني مبارك المتزايدة ،بما فيها التهجمات عبر وسائل الإعلام والمساءلات الأمنية. و مع ذلك ، وخلال السنوات العشر من عملي في مجال حقوق الإنسان ، مع ما تعرضت له من التشهير و الإتهام ظلماً ، فإن الإتهامات الأخيرة هي من أكثرها مدعاة للسخرية .
إن مزاعم الحكومة المصرية من أن هذه القضية هي عن إحترام " حكم القانون" و حماية "سيادة الدولة" , كما نشر في صحيفة الأهرام الحكومية، هي مزاعم تضليلية خطرة. القوانين التي تستعملها الحكومة ضدنا هي من مخلفات نظام مبارك السياسية ، مصممة خصيصاً لإضطهاد و إرهاب و التحكم بالمجتمع المدني. تلك القوانين أقرت من قبل برلمان (كاوتش) وصل إلى الحكم عبر إنتخابات صورية. هذه القوانين تنتهك أبسط قواعد حرية التجمع و تناقض إلتزامات مصر تجاه الميثاق العالمي للحقوق المدنية و السياسية و الموقعة عليها. (و كمثال ، فإن قانون 2002 المتعلق بالمنظمات غير الحكومية، يتطلب منها الحصول على الموافقة المقدمة من الحكومة على كل التمويلات و يعطيها الحق بمراقبة و التصديق على كل نشاطاتها).. في النظام الديمقراطي فقط ،حيث يكون للناس حكومة تمثلهم،يمكن لحكم القانون أن يكون له معتى . إن الدوافع السياسية و الطابع المتشفي خلف هذه الإتهامات ،شديدة الوضوح...إن هذه القضية ضدي و ضد بقية العاملين ضمن المنظمات الغير حكومية، صنعها المسؤول الكبير والوحيد المتبقي من حكومة نظام مبارك.
هذه التحقيقات ما هي إلا حلقة ضمن إجراءات صارمة أكبر، الهدف منها الضغط على المجتمع المدني المصري و الذي بدأ يتشكل خلال الأشهر الستة الماضية . و القضية الحالية ضد المنظمات العالمية بما فيهم بيت الحرية، تغطي خمس سنوات من النشاطات التي قدمت دعماً تقنياً و تأييداً لجماعات الديمقراطية و حقوق الإنسان المحلية في مصر . معظم هذا الدعم ساعد هؤلاء النشطاء في تحديهم في مواجهة مبارك ، هذا الرجل الذي حوله المجلس العسكري الحاكم للمحاكمة باسم الشعب المصري.
مع أنه من السهل عليّ تجاهل هذه التهم السياسية و أنا أستمتع بالجلوس في مكتبي في واشنطن ، ولكن إذا قررت الحكومة المصرية القبض على رفاقنا في المكتب المحلي و الشروع بإجراءات المحاكمة، فقد اتفقنا ، أنا و رفيقي "الهارب الآخر" من مكتب بيت الحرية في واشنطن،تشارلز ديون، على محاربة و مواجهة هذه الإدعاءات وإلى النهاية ، بما فيه الذهاب إلى مصر، ليس فقط للدفاع عن أنقسنا، ولكن للدفاع عن حقوق كل من اتهموا و حوكموا ظلماً..و بالرغم من المخاطر الواضحة و المترتبة عل هذه الخطوة من سجن أو أسوأ من ذلك ، فنحن نفضل المثول أمام محكمة مصرية من أن يحكم علينا غيابياً ،و سيكون ثمناً رخيصاً ندفعه في دعم إستقلالية المجتمع المدني المصري.
حالياً، يضاعف النشطاء عبر الجمهورية المصرية كلها جهودهم لمنع المضادين للثورة من الإستيلاء عليها وسرقتها...في أنحاء البلاد كلها ، في شوارعها ، طوعياً و بدون تردد، يدفعون الثمن من دمائهم و في بعض الأحيان بحياتهم...إنهم يناضلون كي لا تعود مصر الإستبداد..مصر الفساد إلى سابق عهدها.. سيكون من الصعب علي عدم انتهاز هكذا فرصة إذا توفرت لي...خاصة إذا دعيت بالإسم لهذا الخيار...بكل بساطة لن يكون في مقدوري النظر إلى نفسي في المرآة ، أو مجرد التفكير بمواجهة أهلي و أصدقائي ممن ضحوا بالكثير إذا لم أعمل على منع اختطاف الثورة...
سيستمر المصريون في محاولتهم الحصول على حريتهم بمساعدة أو بدون مساعدة خارجية. ما يفعله بيت الحرية و منظمات أخر هو مجرد الدعم لتحقيق هذا الهدف بطريقة سلمية و سريعة ، بتقديم الدعم من خلال التدريب ، والبرامج المتبادلة و منح بسيطة للدفاع عن الديمقراطية الحيادية غير المتحزبة و عن حقوق الإنسان ، بالإضافة إلى تبادل التجارب بين الخبراء . لقد ساعدنا المجتمع المدني المصري في أداء دوره المهم في التحول الديمقراطي.
قرابة سنة مضت، في فبراير 16 2011، كنت حاضراً عندما أطلقت وزيرة الخارجية الأمريكية ، هلاري كلنتون ،مبادرة "الحوار الإستراتيجي مع المجتمع المدني" ، والتي تطلب من الدبلوماسيين الأمريكيين حول العالم ، تواصل أفرب و مباشر مع شعوب الدول التي يخدمون فيها. قلت لها شخصياً أن مصر قد تحكم من قبل العسكر الذين لا يفهمون دور المجتمع المدني، " نريد أن نسمعها بصوت واضح و عال من وزارة الخارجية ..الذين يحصلون على المساعدات..الحكومة المصرية..ليس لهم التحكم بما يفعله المجتمع المدني أو ما يمكنه فعله"...هذا ما سجلته ...و رسالتي لم تزل كما هي اليوم.
بعد تطورات الأشهر القليلة الماضية والإستهداف الواضح لمنظمات ومواطني الولايات المتحدة ، وبالرغم من مليارات الدولارات من المساعدات العسكرية و الإقتصادية للحكومة المصرية ،تبقى الكرة في ملعب أميركا .حان الوقت لتوضيح الأمر للحكومة العسكرية المصرية أن الكونغرس و البيت الأبيض سيوقفون دعمهم للإستبداد في مصر بأموال دافعي الضرائب الأمريكيين ، بما فيه الدعم العسكري السنوي بقيمة 1.3 مليار دولار....قوة الضغط تبقى عديمة الفائدة إن لم تستعمل . الأهم من ذلك ، حان الوقت لإتخاذ موقف أخلاقي..يعتقد المجلس العسكري أن بإمكانه التصرف كيفما يشاء و الإفلات من العواقب مع الإستمرار في غرف المال الأمريكي...أنا أدعوا إلى التعامل مع خداعهم .)
أخيرا :
فى هذا المقال لمحة عن عدة أجيال : جيلى الذى اجتاز الستين من العمر ، وقدعايش استبداد العسكر من ناصر الى مبارك ، وجيل ابنى شريف الذى عايش 30 عاما من استبداد مبارك، ومن حقه أن يكتب مستقبله كما يريد . ثم هناك جيل جنرالات مبارك ،الذى يقترب من الثمانين عاما ويريد أن يظل جاثما على صدور شباب مصر ليحطمهم كما حطّم جيلنا والجيل الآتى بعدنا . ولكن جيل شباب مصر الثائر لن يسمح بهذا ولو كره الآخوان المسلمون .