هو خصم لله رب العالمين من يخلط السياسة بالدين
أولا : قريش حرّفت الاسلام مرتين
1 ـ عاون اسماعيل أباه ابراهيم فى إعادة بناء الكعبة وتطهير البيت الحرام والدعوة الى الحج اليه كأول بيت وضعه الله جل وعلا للناس . وأوصى ابراهيم أبناءه بالتمسك بالاسلام ، وكذلك فعل حفيده يعقوب ( البقرة 125 : 133)، وكذلك فعل اسماعيل الذى كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ، وتوالت أجيال أبناء ابراهيم ، وهم بنواسرائيل ( يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم ) ومن ذرية اسماعيل وهم قبائل العرب المستعربة الشمالية من مضر وربيعة . ومن قبائل مضر جاءت قريش . وخلال هذه الأجيال من ذرية الأنبياء جاء صالحون من ذرية ابراهيم واسرائيل واسماعيل ، كما خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات:(مريم 54 : 55 ، 58 : 59).
2 ـ كان البيت الحرام تحت سيطرة قبيلة جرهم القديمة التى تنتمى للعرب اليمنيين القحطانيين ، والذين تزوج منهم اسماعيل وعاش بينهم فأصبحوا أخوال القبائل من ذرية اسماعيل . ثم آلت السيطرة على البيت الحرام الى قبيلة خزاعة اليمنية ، بينما عاش فى مكة وحولها فرع من قبائل مضر ينتمى الى النضر بن كنانة ، أصبح اسمه فيما بعد قريش. تمكن فرع قريش هذا من طرد خزاعة والسيطرة على مكة والمسجد الحرام وفريضة الحج بزعامة قصى بن كلاب (400 : 480 )، وهو الجد الرابع للنبى محمد عليه السلام . وعبد مناف بن قصى أنجب توأمين ؛هاشم وعبدشمس ، وأنجب هاشم عبد المطلب جد النبى بينما أنجب عبد شمس أمية . فالأمويون والهاشميون يجمعهم جد واحد هو عبد مناف بن قصى . وتولى الهاشميون رعاية البيت الحرام والاشراف على شئون الحج ، وتولى الأمويون قيادة رحلتى الشتاء والصيف .
3 ـ وضع قصى أسس السيطرة لقريش فى مكة وخارجها، قام بتجميعهم فى مكة وبنى دار الندوة وأعاد بناء الكعبة وتنظيم الاشراف على االحج واستخدامه تجاريا فى إثراء قريش بمنع الحجاج من حمل طعام معهم الى مكة حتى يشتروا الزاد من متاجر قريش، ومنع الحجاج من تأدية المناسك فى الحج إلا بأثواب خاصة ( هى ملابس الاحرام)يشترونها من قريش.( ولا يزال هذا سائدا حتى اليوم تحت إسم الاحرام ، والتفاصيل ستأتى فى كتاب قادم عن الحج بين الاسلام والمسلمين) . ولأنّ قصى شطرا من عمره فى الشام فقد بدأ رحلة الشتاء والصيف من الشام الى اليمن ومن اليمن الى الشام عبر الجمال التى أمكن تطويعها لقطع صحراء العرب من الشام الى اليمن لتصل التجارة الشرقية بين الهند والصين شرقا وأوربا وينزنطة غربا . حل الطريق الجديد محل طريق الحرير الوعر الذى كان يشق وسط آسيا من غرب الصين الى شرق أوربا . بالطريق الجديد كانت السفن تأتى بالتجارة الشرقية من الهند والصين الى اليمن ثم تحملها قوافل قريش من اليمن الى الشام الذى كان تابعا للبيزنطيين ، ومن الشام الى أوربا ، وتعود القوافل ببضائع أوربا من الشام الى اليمن لتحملها السفن الى الهند والصين. خشيت قريش على قوافلها من إحتمال نهب القبائل العربية لها ، ورأت أن تقيدها بعهد تستخدم فيه حرمة البيت الحرام ومكانته لدى تلك القبائل . فأقنعتها بتكريم أصنامها وأنصابها بزرعها فى الحرم ليكون لهم جانب من التقديس فى شعائر الحج ، وأن تضمن قريش رعاية وصيانة هذه الأصنام مقابل ضمان القبائل لأمن القوافل القرشية . وهذا هو الايلاف. والايلاف فى داخل قريش كان يعنى توزيع رأسمال التجارة القرشية أسهما ،وتفرقة الارباح فى نهاية كل رحلة على اصحاب الأسهم . ومن هنا فإن رسول الله عليه السلام حين اعترض قوافل قريش فى معركة بدر كان صاحب حق ، لأن قريشا صادرت أموال المسلمين وممتلكاتهم واستثمرتها فى تلك التجارة .عاشت قريش فى نعمة الايلاف تتنعم بالأمن والترف بينما يعيش العرب فى جوع وخوف وتقاتل مستمر بينهم،يقول جل وعلا:(أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا )(القصص 57)،فثمرات العالم من الصين والهند وأوربا مع ارباح هائلة كانت تجبيها قريش وهى تعيش آمنة حول البيت الحرام . وقال جل وعلا فى سورة قريش: (لإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ). كسبت قريش الجاه والثروة ، ولكن على حساب ملة ابراهيم . أضاعت ملة ابراهيم حرصا على تجارتها وجاهها بين العرب.
4 ـ كان ممكنا الحفاظ على ملة ابراهيم دون تحريف ولو فى داخل مكة ؛ فالعرب المتقاتلون فيما بينهم حافظوا بنسبة كبيرة على منع القتال فى الأشهر الحرم ، لم يرتكبوا سوى النسىء الذى اعتبره رب العزة زيادة فى الكفر ، بينما نجد العرب بعد موت النبى عليه السلام ببضعة عقود قد انتهكوا كل الأشهر الحرام ، ثم تناسوها بالجملة. والعرب فى الجاهلية كانوا يصونون حرمة الحرم فلم يحدث قتال فيه ،ثم أصبح الحرم ساحة قتال بعد عدة عقود من موت النبى عليه السلام . كان يمكن لقريش أن تؤمن قوافلها عسكريا ، وسياسيا ودعائيا بإقناع القبائل فى موسم الحج بعدم التعرض لقوافلها لأنها تنفق من ريع التجارة على عمارة البيت الحرام ، ومعروف لدى العرب وقتها حرمة كل ما يمتّ للبيت الحرام من هدى وقلائد . بل أقنعت قريش وهى القائد الدينى للعرب أن تجعل الحجاج يشترون الطعام واللباس من متاجرها على ان ذلك ضمن مناسك الحج ،بل وفرضت على من لا يشترى ملابس الاحرام منهم أن يطوف بالبيت عاريا حتى لو كان من النساء . أى كان ممكنا فى ظلّ قوتهم العسكرية وسيطرتهم الدينية أن يقنعوا القبائل بعدم التعرض لقوافلهم ولكن إختارت قريش الحلّ الأسهل وهو تدنيس البيت الحرام برجس الأنصاب والأصنام لتضمن أمن قوافلها .
5 ـ بتدنيس البيت الحرام بالأصنام تكون قريش من أعرق من استخدم الدين مطية لمصالحه السياسية والاقتصادية ، إذ ضحّت قريش بملة ابراهيم أوالاسلام الحنيف القائم على أنه لا اله الا الله ، وأنه جل وعلا هو وحده الولى والشفيع والمستحق وحده للتقديس والعبادة ، وأنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. ومن ملة ابراهيم توارثت قريش الصلاة والصوم والحج والصدقات. حافظت قريش على شكل الصلاة لله جل وعلا فى الفرائض الخمس، ولكن حرفوا ملة ابراهيم فى العبادات لتتصالح مع عبادة الأولياء والقبور فأضافوا الصلاة للأولياء وحرفوا الحج وتلاعبوا بالشهر الحرم ، وأصبحوا حماة لأضرحة الأولياء وأصنامهم فى جوف الكعبة ليستخدموا قبائل العرب فى حماية رحلتى الشتاء والصيف. وهذا هو التحريف القرشى الأول للاسلام وملة ابراهيم .
6 ـ لإصلاح هذا التحريف المحلى والعالمى أرسل الله خاتم النبيين محمدا عليه السلام من فرع اسماعيل بن ابراهيم ، استجابة لدعائهما حين كانا يقيمان قواعد البيت: (البقرة 129)،ونزل القرآن يؤكد على أن محمدا متبع لملة ابراهيم:( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ )(النحل 123). وفى نفس السورة ضرب رب العزة مثلا لقريش يحذرها : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)(النحل 112 : 113). ولم تتعظ قريش فأخذهم عذاب الفتنة الكبرى.
7 ـ بتأثير القرآن تطهرت عقائد العرب من تقديس القبور وعبادة الأولياء والشفعاء ، ودخل الناس فى دين الله أفواجا. ولكن هذا الدخول السريع فى الاسلام أتاح لخروج سريع منه تجلى فى الفتوحات العربية . إن الاسلام يقوم على العدل والقسط فى التعامل مع الله جل وعلا وفى التعامل مع البشر . فالعدل مع الله يعنى ألاّ تشرك به شيئا ، فمن الظلم لرب العزة الخالق أن تجعل له من مخلوقاته شريكا له ، ومن هنا فالشرك ظلم عظيم ( لقمان 13). ولقد ركّز القرآن على فضح عقائد الشرك خصوصا فى الوحى المكّى ، وجاء بالحوار والقصص بما أقنع العرب بمهزلة تقديسهم للموتى والأحجار والقبور. وقريش نفسها أول من إقتنع بأن القرآن هدى ( القصص 57 ) فهم تجار ماكرون يحترفون الضحك على الذقون. لم تكن هناك صعوبة فى إقناع العرب بالتخلى عن تقديس البشر والحجر ، خصوصا مع رؤيتهم لرسول الله الذى كان يأتيه الوحى ويقود أمة ويقيم دولة ، وهو شخص عادى يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق. أى تحقق العدل فى التعامل مع الله جل وعلا وتقديسه وحده ، ولكن العدل فى التعامل مع الناس كان مناقضا لطبع أصيل لدى العرب فى صحرائهم، فقد اعتادوا على التقاتل فيما بينهم ونصرة أخيهم ظالما أو مظلوما،بل كان الظلم مع السلب والنهب والسبى من سمات العزّة والمنعة والشجاعة فى الثقافة العربية، فلا يسلم الشرف الرفيع عندهم من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم . تعمقت هذه الثقافة وتجذّرت وتطبّقت قرونا فى العقلية العربية بحيث يصبح من المتعذر أن تغيرها سنوات البعثة ونزول القرآن وعهد خاتم النبيين الذى لم يكمل ربع قرن. ومن هنا كان سهلا على العرب عصيان أوامر الله جل وعلا بالعدل والسلام والاحسان فى مستوى التعامل البشرى . خصوصا إذا جرى تحريف المفاهيم والتلاعب بها لتوافق ثقافة العرب فى الغارات والغزوات والسلب والنهب والسبى .ومثلا ، فالاسلام له معنى ظاهرى سلوكى هو السلام ، والمسلم سلوكيا هم المسالم بغض النظر عن عقيدته . والاسلام فى عقيدته هو الاذعان والاستسلام والطاعة والانقياد لله جل وعلا وحده . تم تحريف معنى المسلم ليكون بالعقيدة فقط ،أى من العرب الذين أسلموا ولو حتى باللسان كالمنافقين، وبالتالى أصبح غير العرب من الأمم المجاورة غير مسلمين حتى لو كانوا مسالمين لم يعتدوا على العرب المسلمين . ومفهوم الكفر السلوكى وهو الاعتداء والظلم باستغلال الدين تحول لكى ينطبق على غير العرب الذين لا شأن لهم بالقرآن أو بالرسول عليه السلام. وتبع هذا التحريف فى مفاهيم الاسلام والشرك والكفر تجاهل لتشريع القتال فى الاسلام فتناسى كبار الصحابة قوله جل وعلا (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(البقرة 190) وما بعدها فى تشريعات القتال الدفاعى فى الاسلام وتحريم الاعتداء على الغير، وتجاهلوا قوله جل وعلا (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ )(الممتحنة 8 : 9). تنوسى ذلك كله فى خلافة أبى بكر التى سيطرت عليها قريش والأمويون من خلف ستار ، وجىء بصيغة سامّة تجيز الاعتداء على الدول والأمم ، هى أن يحاصر جيش العرب المدينة ثم يخيّر أهلها بين واحد من ثلاث : إما الاسلام أو الجزية أو القتال . ليس هنا تخيير ولكن إرغام وإكراه فى الدين ، فماذا يعنى أن تحاصر قوما مسالمين معتديا عليهم ثم تخيرهم بين الحرب إو إكراههم على الاسلام أو دفع الجزية ؟
8 ـ على أن هذه الصيغة السّامة أفلحت مع العرب وقتها ، ليس فقط فى أنها تتصالح مع ثقافتهم فى السلب والنهب والسبى والاعتداء والغزو ، وليس فقط فى أنها تعطى مسوغا شرعيا لاستمرار ثقافتهم تلك تحت شعار الاسلام ، ولكنّ الأفظع هى أنهم من خلالها تلونت قراءتهم للقرآن بما يتماشى مع هذه الثقافة ، بمعنى أنهم قرءوا تشريعات القرآن فى الحضّ على الجهاد والقتال وفى ثواب الجنة والنصر أو الشهادة ـ على أنه حثّ وتحريض على تلك الفتوحات ، وتناسوا تشريعات الاسلام القرآنية فى تحريم الاعتداء وقصر القتال على الدفاع فقط ، والكفّ عن القتال بمجرد أن يكفّ المعتدى عن عدوانه. وهكذا تمت صياغة عقل الجندى البدوى على أساس جديد ومفزع، فهذا البدوى الاعرابى كان يعايش الحرمان فى الصحراء ومضطر للقتال ليأكل ويعيش ، أصبح المجال مفتوحا أمامه كى يقاتل ( الكفار ) فى الخارج يقتل ويسلب وينهب ويسبى ويغتصب ـ اى نفس ما كان يفعله فى ( الجاهلية ) ولكن تحت شعار الجهاد الاسلامى وهو يضمن إحدى الحسنيين ،إمّا النصر وإما الشهادة. وهو فى كل الأحوال سيخرج من كونه راعى إبل وشاة فى جفاء الصحراء ليصبح سيّدا عالى الشأن فى مصر والشام والعراق وفارس ، يتمتع بالثروة والنساء والجاه.
ثانيا : قريش تتزعم العالم عدة قرون
1ـ هذه الصيغة القرشية السّامة مكّنت العرب فى خلال جيلين وحوالى ثمانين عاما من احتلال بلاد وأمم من تخوم الهند والصين شرقا الى جنوب فرنسا غربا،مع جزر البحرالمتوسط وجنوب إيطاليا . ومن جنوب القسطنطينية شمالا شمالا الى الصحراء الأفريقية الكبرى جنوبا. هذه الصيغة السامة هى التى غيّرت تاريخ العالم ، وأظهرت قريش والعرب قادة فى القرون الوسطى،وهى التى جعلت قريش تحكم معظم العالم فى الخلافة ( الراشدة ) والأموية والعباسية والفاطمية. ولا تزال عائلات من قريش تحكم الاردن والمغرب . هذه الصيغة السامة التى أضاعت الاسلام هى نفسها التى رفعت قريش كأشهر قبيلة فى العالم. قبل هذه الفتوحات العربية القرشية كان العالم ينقسم الى قوتين متصارعتين ، الامبراطورية الفارسية الكسروية والامبراطورية الرومانية البيزنطية. دمرت الفتوحات امبراطورية الفرس بل وتجاوزتها شرقا الى آسيا الوسطى وحدود الصين ، وهزمت الروم وحاصرت عاصمتهم القسطنطينية واحتلت مستعمراتهم فى الشام ومصر وشمال أفريقيا.
2 ـ أدّت هذه الفتوحات الى تغييرات عالمية سياسية ودينية . فقد انقسم العالم الى معسكرين متصارعين : معسكر قريش الذى يحمل اسم الاسلام ، ومعسكر أوربا الذى يحمل الصليب المسيحى ، واستمر الصراع بين المعسكرين ..ولا زلنا نعيش بعض آثاره. ومع هذا الصراع الخارجى دار صراع داخل معسكر قريش ، إذ نمت وتطورت الانقسامات والنزاعات والحروب ليس فقط بين قريش والأعراب فى الفتنة الكبرى بل بين قريش الأمويين وأبناء الأمم المحتلة الذين تحولوا الى رعايا لقريش من الدرجة الثانية مثل (موالى الفرس)وأقباط مصر وبربر شمال أفريقيا . وكانت قريش الأموية تحارب بقوة بفتوحاتها شرقا وغربا ، وتحارب باستماتة فى الداخل الأعراب الخوارج وتواجه ثورات الشيعة وآل البيت والموالى والأقباط وقلاقل البربر فى شمال أفريقيا والاندلس .
3 ـ وكالعادة تم توظيف الدين فى هذه الصراعات . خارجيا ، أصبح الصراع الحربى بين قريش والروم صراعا بين الاسلام والمسيحية ، كما تحولت الصراعات السياسية الحربية الى تأليف أيدلوجيات دينية لها،فتأسّس دين السّنة الأرضى معبرا عن الهيمنة العربية القرشية فى العصرين الأموى والعباسى، وقام مناهضا له الدين الشيعى يحمل كراهية الفرس المقدسة لأبى بكر وعمر وعثمان والأمويين لأنهم دمّروا الامبراطورية الفارسية، ويجعلهم ممثلين لآلهة الشّر والظلام فى العقائد الفارسية ، ويوجب التبرى منهم وموالاة آلهة النور والخير :(على ) وآل البيت. وأسفرت ثورات الأقباط المصريين فى النهاية عن عودة الدين الأرضى المصرى العتيد تحت إسم التصوف، وكان الرائد الأكبر للتصوف هو ذو النون المصرى. حتى الخوارج البدو مع انتهائهم سياسيا وحربيا مع خصومهم الأمويين فقد نمت لهم ايدلوجيات دينية وفرقا تعبر عن دين أرضى ينتمى للخوارج.
4 ـ وبالفتوحات العربية تحكمت قريش تماما فى التجارة الشرقية،فهى التى تسيطر على قلب آسيا والبحر المتوسط والبحر الأحمر وبحر(العرب ) والمحيط الهندى، أى تسيطر على كل الطرق البحرية والبرية معا ، وتقف حاجزا بين أوربا والصين والهند. وليس أمام معسكر الصليب إلاّ أن يستجدى التجارة الشرقية من عدوه العربى القرشى ويدفع أعتى الضرائب.
ثالثا : تدهور معسكر قريش امام معسكر أوربا
1 ـ وما لبث أن تراجعت قوة العرب العسكرية فى المعسكر القرشى ،واكتفت قريش فى الخلافة العباسية بالسيطرة الاسمية المظهرية بينما يتحكم فى الدولة العباسية عناصر مسلحة آتية من الشرق الآسيوى كالأتراك والبويهيين والسلاجقة والفراغنة. وبدأ إنحسار النفوذ القرشى من بغداد العباسية الى القاهرة الفاطمية والأندلس الأموية ، وارتبط هذا الانحسار بقيام حركات استرداد أوربية حملت راية الصليب الدينية فى الحرب الصليبية التى تمكنت من إقامة دول لها فى الشام وآسيا الصغرى.
2 ـ وبعد تدميرغرناطة آخر معاقل الأندلس وتوحيد الأندلس تحت حكم فريدناند وايزابيلا قامت حركة الكشوف الجغرافية تحمل راية الصليب ، وتهدف الى الوصول الى الهند والتسلل الى التحكم فى التجارة الشرقية بعيدا عن سيطرة المسلمين ، والاتصال بمملكة الحبشة المسيحية والتحالف معها لغزو قريش فى عقر دارها فى مكة والمدينة . أى هو نفس الاستخدام القرشى للدين استعملته إسبانيا ضد قريش.
3 ـ وأسفرت الكشوف الجغرافية عن إكتشاف العالم الجديد واستعماره مع جزر ودول فى آسيا وأفريقيا .وبالسيطرة على التجارة الشرقية نمت فى أوربا طبقة البرجوازية وفكرها العلمانى لتحلّ محل سيطرة الكنسية والملكيات الاقطاعية والفرسان والنبلاء، وقيام شركات تجارية تمثل بريطانيا تضاهى رحلة الشتاء والصيف القرشية، مع الدخول فى عصر العلم والمكتشفات العلمية وتطبيقاته التكنولوجية ، ومنها السفن البخارية التى تحولت بها البرجوازية الأوربية المحلية الى رأسمالية عالمية تنشىء مستعمرات لها لتكون ركيزة لاحتلال قادم .
4 ـ وشهدت هذه المرحلة ضعف الدولة العثمانية التى حلّت محل قريش وحملت شعار الخلافة بعدها . ثم أصبح العثمانيون ( رجل أوربا المريض) الذى كان لا يزال يستخدم ثقافة العصور الوسطى فى النظم الحربية الاقطاعية وخلط الدين بالسياسة. وبسبب التنافس على أملاك العثمانيين وبقية المستعمرات وعوامل أخرى انقسمت أوربا الى تكتلات مسلحة أدت الى قيام الحربين العالميتين ووقوع معظم بلاد المسلمين تحت الاستعمار الأوربى.
رابعا : السلفيون الوهابيون على سنّة قريش
1 ـ ضعف المسلمين أمام التسلط الأوربى دفع بهم للبحث عن حلول . جاء الحلّ المصرى على يد محمد على باشا بالانفتاح على الغرب العلمانى والتعلم منه . وقبله جاء الحل الوهابى بالرجوع للسلف القرشى واستعادة ثقافة العصور الوسطى من تقسيم العالم الى معسكرين ، وتزعم الوهابية السلفية معسكر المسلمين لتقاتل معسكر الكفر الأوربى .
2 ـ أى قامت الدولة السعودية لتجدد السّنة القرشية مع فارق يتجلى فى ملمحين :الأول أن القائمين على الوهابية السنيّة ليسوا من قريش ،بل هم أعراب نجد الأعداء التقليديون للقرشيين وهيمنتهم . أى حلّت الأسرة السعودية محل قريش، بل أن منشىء الدولة السعودية الثالثة الراهنة هو الذى أطاح بالشريف حسين ( القرشى )واستولى على الحجاز . الثانى ، أن قريش فى خلطها السياسة بالدين وتكوينها دولا دينية كانت متسقة مع ثقافة عصرها ، فى القرون الوسطى ، وهذا عكس السعوديين والوهابيين الذين استخدموا سنّة قريش القرن أوسطية فى عصرنا الحديث وهو عصر العلمانية وفصل الدين عن الدولة وحقوق الانسان وكرامته والديمقراطية والعدل الاجتماعى.
3 ـ وبتأثير الوهابية قامت نظم حكم عسكرية مستبدة فى مصر وغيرها أجهضت التحول الديمقراطى للعرب عقودا من الزمن . وحين ظهر الربيع العربى يحقق أملنا فى الديمقراطية وحقوق الانسان تباعد الحلم بسبب السلفية الوهابية وفلول الاستبداد .
أخيرا :
1 ـ ضاع الاسلام الحق فى كل هذا الصراع . القرآن مهجور وقد حلّت محله أديان المسلمين الأرضية التى لا تزال اليوم تتقاتل فى العراق واليمن والسودان ، وربما ستتقاتل غدا فى سوريا والأردن ومصر وغيرها. وهى تفعل كل تلك المخازى باسم الاسلام .!!
2 ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .!!