وماذا عن هؤلاء المستضعفين الذين أمرهم الله بالقتال لمناهضة ما حاق بهم من ظلم ولكنهم تقاعسوا ولم يحركوا ساكنا ورأوا أن كونهم مستضعفين يسقط مسئوليتهم عن الامتثال للظلم ويعفيهم من التقصير في مناهضة الظالم ؟ اسمع الله وهو يقول لهم متوعدا وفي نفس السورة :
" إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا "[1]. فالهجرة بمعناها الواسع هو مغادرة أرض الاستضعاف حيث يُسلب المرء حريته وكرامته , إلى حيث يعيش حرا كريما, والعقوبة لا تكون إلا مع تجريم , والجرم هنا هو الامتثال للظلم والقهر, فإن لم يتيسر للمظلوم وسائل القوة لدفع هذا الظلم , وجب عليه تحرير نفسه ولو بالهروب منه , أما الامتثال للظلم بدعوى الضعف أو طاعة ولي الأمر فذلك باطل باطل , والله يحرِّم ذلك ويجرِّمه . وهؤلاء الضعفاء المتهاونون لا يعاتبهم الله مجرد عتاب وإنما يفاجئهم بأن مأواهم جهنم , فجريمتهم نكراء , لذا يستثني الله من هذا العقاب من لهم عذر قهري من الأطفال والنساء وغير القادرين من الرجال وذلك في الآيتين التاليتين مباشرة فيقول :
" إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا" .
ولما روَّج فقهاء السلطان فكرة قبول الظلم لأنه قدَر الله والطاعة واجبة كما جاء في القرآن , كانوا بذلك كمن يرمي الدين بالنقص والظلم , إذ لا يشرِّع اللهُ إلا ما يكفل للناس- كل الناس - حقوقهم دون محاباة أو محسوبية . والآية التالية في السياق جديرة بالتأمل والربط بما سبقها من آيات , واسمع معي الله إذ يقول :
" وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا :"[2].
ذلك هو كلام الله تعالى , ومن أصدق من الله حديثا ؟
والخروج في سبيل الله ليس المقصود به الغزو والقتال فقط كما يفهم الكثيرون , ولكنه أيضا المضي في سبيل الخير والبر والسلام والكرامة والحق والعدالة بكل ما تعنيه هذه الكلمات من معان , ,وليس المقصود بالهجرة في سبيل الله أنها الهجرة فقط إلى المدينة, ولكنها أيضا المضي فى سبيل الخير أي خير , كل الخير .
ولكن الفقيه يفسر هذه الآية بأن أحد المسلمين هاجر من مكة إلى المدينة , فمات قبل بلوغها , فنزلت الآية لبيان أن أجره على الله ! ورأَى فقهاء آخرون أن هذه الهجرة المشار إليها في الآية هي الخروج من الأرض التي يُسب فيها الصحابة ! أو التي غلب عليها الحرام والبدعة وأوجبوا الهجرة فرارا من الأذية في البدن أو المال [3].
والفقيه السلطاني هنا يواصل تخبطه كالحائر في ظلام دامس محاولا صرف معاني الآيات بعيدا عن مرادها فيقول عن الخروج أنه من الأرض التي يُسب فيها الصحابة , وفاته أن الصحابة لم يسن سُنَّة سبهم غير (الصحابي !) معاوية بن أبي سفيان الذي أمر بسب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه , من فوق منابر المساجد, وسب الشيعةُ فيما بعد الشيخين أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما , أي بعد وفاة النبي وانقطاع الوحي وتمام نزول القرآن بحوالي ثلاثين سنة .
ولم ير أحد من فقهائنا أن الآية حض واضح على مناهضة المستبد ودفع الظلم , وذلك بربط الآيات من 97-100 من سورة النساء .
وضلل الفقهاءُ الناسَ ولم يعلموهم أن الدين جاء في المقام الأول لتحرير الناس من الفقر والجهل والعبودية لغير الله . وصرفوا الناس عن مناهضة الظالم السارق وأوهموهم أن العبادة هي أداء الشعائرفقط , وهي في حد ذاتها لا تغير المجتمعات ولا ترد الحقوق المسلوبة ولا تكف الظالم عن ظلمه . فالشعائر مجرد علاقة بين العبد وربه , والعبادة الحقيقية في طاعة الله في منهجه كله. ويرى الفقيه أن الغاية من خلق الإنسان هي العكوف على أداء الشعائر , ذلك فهمه من الآية الكريمة :" {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات56.