توقفنا في المقال السابق عن وقوع الملك لويس فريسة للمرض ولم يستطع أن يمتطي صهرة جواده بعد ذلك ووجده المماليك فجذبوه من فراش مرضه فصفدوه بالأغلال وأخذوه أسيراً ووضعوه في منزل خاص بالمنصورة .
وكان عدد الأسرى المسيحيين كبيراً جداً لدرجة أن توران شاه أحس أنه لن يستطيع إطعامهم وأمر بقتل كل الضعفاء والذين أوهنتهم الجراح والحمى .
واستبقى الباقين من جيش الملك لويس طلباً للفدية . وكانت شروطه قاسية . كان على لويس أن يتنازل عن دمياط مقابل حياته ، وأن يدفع فدية لجيشه نصف مليون من الجنيهات . وكان هذا مبلغاً كبيراً ولكنه وافق من أجل رجاله . وبعث في الحال برسالة إلى الملكة مرجريت في دمياط يطلب منها أن تجمع المال بأسرع ما تسطيع وأن تستمسك بدمياط بأي ثمن حتى يمكن التنازل عنها إلى توران شاه كفدية له .
ولنا تعليق على هذه الجريمة المنكرة التي ارتكبها توران شاه في حق الأسرى الضعفاء والجرحى أين حقوق الأسير ففي القرآن الكريم تعلمنا حقوق الأسير فاين هم من هذه الحقوق فهذه هى الأية الكريمة التي نتعلم منها بعض من حقوق الأسير {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }الأنفال70 . نفهم من سياق الآية أن الأسرى الذين وقعوا في أيدى المسلمين في الحرب يجب أن يعظهم القائد كما فعل الرسول عليه السلام بتقوى الله سبحانه وتعالى ، وعدم الاعتداء مرة أخرى على ديار المسلمين وأنهم إن صدقوا في ذلك فسوف يبدلهم الله بخوفهم أمناً وبخسارتهم خيراً وهذا الخير يتمثل في الإطعام والرعاية الصحية والدعوة إلى الإسلام وإطلاق سراحهم في النهاية لو أرادوا العودة إلى ديارهم التي أتوا منها وهذه هى المعاملة التي عاملها الرسول عليه السلام لجميع الأسرى في معاركه التي خاضها دفاعا عن حدود دولة المدينة التي كان يقيم فيها وكان زعيمها .
وقوله تعالى{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً }8. {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً }الإنسان9. فالأسير كان يتم إطعامه لوجه الله بكل حب واحتياج للطعام فما بالنا بمن يمنع عنهم الطعام بل ويقتل الضعفاء والجرحى منهم !!!
وكانت أنباء هزيمة الصليبيين الفادحة قد وصلت إلى دمياط فعلاً . وبعد ثلاثة أيام من وصولها ، وضعت مرجريت طفلها وكان ولداً ، وكان يرافقها عجوز فقط ، وقد عمدته باسم جون ترسترام (( طفل الأحزان )) وكانت مريضــة وضعيفة ولكن بمجرد أن سمعت أن الإيطاليين كانوا يعتزمون مغادرة الميناء حتى أستدعت في نفس ذلك اليوم قوادهم إلى جانب فراشها . أنهم إذا رفعوا مراسيهم وتركوا المدينة الجائعة غير المحصنة فإن المدينة تسقط لا محالة وسوف يفقد لويس حياته مقابل فديته . وقد سألتهم لو أستطاعت أن تشتري الطعام الباقي في المدينة وتوزعه على الجميع ، فهل يبقون في هذه الحالة ؟ .
ونجحت توسلاتها واستمالت بإقتراحها العملي أهل بيزا وأهل جنوا العنيدين فوافقوا على البقاء ، وما إن اصبحت حالتها الصحية ملائمة للسفر حتى أبحرت إلى عكا لتجمع الفدية النقدية للجيش .
وكانت الفدية متوقفة على الملكة مرجريت .
الملكة شجرة الدر والملكة مرجريت .
وبالرغم من أن الملكة مرجريت والملكة شجرة الدر لم يلتقيا أبداً فإن مصير الملكتين الشابتين كانا متشابكين .
واعتمادا على نبل وشرف وشجاعة إحداهما كانت تتوقف حياة الرجل الذي تحبه الأخرى.
وكانت سعادة مرجريت أميرة بروفانس موضوعة في أيدي شجرة الدر.
وأخيراً جاءت الأنباء بأن الفدية النقدية قد وصلت إلى دمياط وأنها سوف تٌدفع ، وأن المدينة سوف تٌسلم إلى المسلمين عند وصول الملك لويس وفرسانه .
أما باقي الجيش فسيطلق سراحه وسيسافر فيما بعد.
واستخدمت شجرة الدر نفوذها فقبلوا تخفيض جزء من الفدية.
واكتسب الملك لويس خلال فترة أسره بصبره الرائع ووقاره الهادئ احترام أعدائه فلم يناقش القرار حتى اشد المماليك قسوة وسلمت دمياط رسمياً إلى السلطات المصرية وأبحر الملك لويس إلى عكا ومعه أخواه الباقيان والفرسان والنبلاء الآخرون بعد أن أطلق سراحهم أخيراً.
انتهت الحملة الصليبية واصبح سانت لويس والملكة مرجريت سالمين وإلى جانب بعضهما البعض .
بعكس ما حدث للملكة شجرة الدر التي فقدت زوجها الملك الصالح الذي كان يحبها وتحبه وفي نهاية المطاف فقدت حياتها بطريقة مٌهينة بعد مشاحنات بينها وبين من يحقدون عليها بسبب وصولها كجارية وكامرأة لهذا المنصب وبسبب أطماعهم في الحكم.
لقد أنقذت شجرة الدر مصر من الغزو الأجنبي ولكنها كانت أبعد ما تكون عن السعادة .
لقد أحضر توران شاه محاسيبه ونحاها هى وخليل جانباً كما لو أصبحت جارية مرة أخرى ، واصبحت بعد أن كانت لا تطيق صبراً على أن تكون لها منافسة في الحريم أصبحت تعامل بازدراء من نسوة حمقاوات يأخذن مثالهن من الموقف الوقح الذي كان يقفه منها السلطان وقد ازداد خوفها على نفسها وعلى ابنها الصغير ، وقد وصلت الأمور إلى ذروة السوء عندما اتهمها توران شاه بتبديد ثروة أبيه وكانت الاتهامات رغم كونها ابعد ما تكون عن الحقيقة تحمل تهديداً صريحا لها ، وكان الوحيدون الذين تستطيع شجرة الدر أن تتجه إليهم لنجدتها هم رفقاؤها القدامى في الاسترقاق وهم المماليك البحرية الذين كانوا يدينون بمركزهم وولائهم لزوجها الملك الصالح ، فارسلت إليهم رسالة سرية طالبة حمايتهم ، وكانت تعلم أيضاً أنهم اصبحوا يكرهون سيدهم الجديد لطبعه المتقلب وسلوكه المهين لهم ، وفي إحدى الليالي اقتحم عليه الغرفة جماعة من المماليك البحرية يقودهم بيبرس الذي ضرب السلطان الصربة الأولى وأكمل باقي المماليك قتله .
ومات الملك الشاب الذي اكتسب كراهية الجميع ، واتفق المماليك على تولية شجرة الدر ملكة عليهم وهكذا انضمت شجرة الدر إلى ملكات مصر وقيل أنها حكمت ستة أشهر ملقبة نفسها في وثائق الدولة الرسمية ب(أم خليل)
دائما مصرع الرؤساء والملوك والزعماء الساسيين يكون على أيدي البطانة الموالية له والتي تزين له سوء عمله فيراه حسناً حتى يخر صريعاً على أيدي أعدائه الذين ظلمهم بقبضة تملكه لزمام الحكم والسلطة ، وهناك أمثلة عديدة في تاريخ المسلمين تؤكد وتوضح هذه الرؤية ومن أشهرها ما حدث لشجرة الدر حيث كان قصرها المهيب محاطا بالحراس الأقوياء من الخارج والبطانة المقربة من الداخل وهى تلك البطانة التي توسوس وتهمس لشجرة الدر بأفكار وقرارات أدت إلى أن تلقى حتفها على يدى غريمتها زوجة أيبك القائد الذي تزوجها حيث ولاء البطانة المقربة لشجرة الدر من حراس القصر الداخليين للجناح السلطاني المسمى بالحرملك وولاء الجواري المخصصين لخدمة ورعاية شجرة الدر وعلى وجه الخصوص وصيفتها الأولى مملوكتها شويكار التي كانت من اصل أرميني أيضاً مثل شجرة الدر
لقد برهنت شجرة الدر في حياتها أن النضال مهمة المرأة مثلما هي مهمة الرجل في الدفاع عن بلادها وعن كرامتها وحقوقها ، ويجب علينا كمصريات وكمسلمات أن نحذوا حذوها هى ومثيلاتها التي ذكرهن التاريخ وذكرهن القرآن الكريم لنا كمثل وقدوة يجب الاقتداء بهن ، فقد قادت شجرة الدرالبلاد بقدرة عالية و بحكمة نادرة و بتبصر حكيم و كانت أقوى امرأة شهدها العصر الاسلامي و قال عنها الكتاب: لم تكن شجرة الدر بالملاك المعطر و لا بالمرأة التي تخلبها الزينة و تحجبها عن الحقيقة , و انما كان لها عقل يدبر و يفكر و يقدر , قادت معركة المنصورة الخالدة في أحلك الظروف, و حققت النصر الساحق على الأعداء , إنها امرأة تستحق التقدير و الثناء , دخلت التاريخ من أوسع أبوابه.
وقلما يعرف أهل الغرب الآن شيئا عن شجرة الدر . ولكنها بالنسبة للعرب إحدى بطلات العالم وامتلأت قصصهم بمدائحها : شجرة الدر الجارية السابقة والزوجة والأم المخلصة ومنقذة مصر وملكتها المسلمة الوحيدة.
وهذا إن دا على شيء فإنه يدل على أن المرأة المصرية مظلومة عبر تاريخ مصر الإسلامية ، فلو نظرنا إلى عدد الملكات اللاتي حكمن مصر في العصر الفرعوني والبطلمي فسوف نجدهم أضعافاً مضاعفة بالنسبة للفترة الزمنية التي تحولت فيها مصر لولاية إسلامية ثم دولة إسلامية بعد ذلك .
أما في الألف وأربعمائة سنة الأخيرة من تاريخ مصر وهى تحت الحكم الإسلامي العربي فالوضع قد اختلف تماماً فهى ملكة وحيدة وقد تولت لظروف قهريه لوفاة زوجها الملك الصالح ووجود الصليبيين على مشارف البلاد ولم يدم حكمها إلا ثمانين يوماً .
معنى ذلك أن المرأة المصرية لم تأخذ وضعها وفرصتها لتولي حكم مصر في عهدها الإسلامي ولم تكن نداً له في الحكم إلا لمدة ثمانين يوما من تاريخ مصر الإسلامية - كما جاء في بعض المصادر - وقد تم إزاحة شجرة الدر عن حكم مصر بناءا على تحريض من رجال الدين وأشهرهم العز بن عبد السلام ذلك الشيخ الصوفي السني الذي تزعم الممانعة الدينية لاستمرار شجرة الدر في الحكم ، كما كانت البطانة المقربة سبباً أساسياً في تأليب الخليفة العباسي على تولي شجرة الدر عرش مصر فهم من أوعزوا للخليفة العباسي بأن يرفض استمرارتولي شجرة الدر عرش مصر وقال كلمته المشهورة (إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فابعثوا لنا نسير لكم رجل من عندنا)
سلافة وسحبان .
من الأسباب القوية التي ساعدت في عزل شجرة الدر عن الحكم كانت سلافة تلك المرأة التي كانت كردية الأصل وكانت زوجة الملك الصالح السابقة عن شجرة الدر ، فقد أكلتها الغيرة عندما تزوج الملك الصالح شجرة الدر وكانت من منغصات الحياة على شجرة الدر قبل وبعد وفاة الملك الصالح .
وكان سحبان هذا التاجر الثرى الخبير في جلب أفخر أنواع الحلي والحرير وعرضها على الملك الصالح بثمن زهيد ليهديها الملك الصالح إلى زوجاته وجواريه المميزات .
فبعد أن وقع سحبان في غرام شجرة الدر وبعد أن أصبحت زوجة للملك الصالح كان يحضر في بهو القصر ومعه أفضل بضاعته من الحلي والحرير ويعرضها على شجرة الدر في حضور زوجها بثمن بخس ، وكان الملك الصالح يعتقد أن هذا كان تكريما من سحبان له بينما سحبان كان في نيته تقدير آخر وهو لشجرة الدر .
وبعد أن تولت شجرة الدر عرش مصر بعد وفاة زوجها الملك الصالح شعر سحبان بالحسرة وأنه لن يستطع أن يكون نداً لشجرة الدر كزوج، فقرر التعاون مع سلافة للكيد لشجرة الدر والنيل منها فأوعزا إلى الخليفة العباسي وقتها بأن يأمر قواد المماليك بأن يزيحوها عن العرش ،
خطأ فاردح قد وقعت فيه شجرة الدر عندما أقدمت على اغتيال زوجها القائد عز الدين أيبك ذو الشخصية العنيدة والتي تنكر لفضلها بأن أصبح سلطاناً لمصر وكانت تأمل أن تستمر في حكم مصر من خلال السيطرة عليه ، ولما فشلت في ذلك أقدمت على ارتكاب جريمة قتله بجانب أسباب أخرى وهذه الفعلة دفعت طليقة عز الدين أيبك أن تنتقم لقتل زوجها السابق ووالد طفلها الوحيد المنصور فقامت بالتخطيط لاغتيال وقتل شجرة الدر
كانت نهاية شجرة الدر مفجعة علاوة على ما تقدم ،وبعد أن ازداد أيبك طموحاً بمرور الوقت وأرسل إلى طلب يد إبنة أمير الموصل ليتزوجها وهذا من أحد الأسباب التي دفعت شجرة الدر إلى قتل توران شاه إضافة للأسباب الأخرى وهكذا مات أيبك .
وحاولت شجرة الدر أن تنقل أخبار وفاته إلى الأمراء بأنه مات ميتة طبيعية ولكن أصدقاء أيبك وقفوا على الحقيقة من عبيدها . وكان أولئك الأمراء على درجة كافية من القوة جعلتهم يتهمونها ويسجنونها في البرج الأحمر بالقلعة . وكانت تعرف أنها لن تغادر وهي على قيد الحياة ، ولهذا سحقت في هاون كل عقود لآلئها الثمينة والجواهر الأخرى
التي أهداها اليها الملك الصالح فأحالتها إلى ذرات حتى لا يستفيد منها أحد ولا يٌتاح لأى امرأة أخرى أن تتزين بها.
وكانت لحظة سقوط الملكة هى اللحظة التي كانت تنتظرها مطلقة أيبك فأرسلت جواريها إلى البرج ليحضرونها إلى المكان التي كانت فيه وهناك قتلتها بقباقيب الحمام الخشبية.
وهكذا ماتت شجرة الدر التي كانت دائماً سيدة وملكة الحريم والتي لم تقوى عليها دسائسه ومؤامراته العادية ، ماتت في النهاية بيد الحريم . ولكن بالرغم من أن مطلقة أيبك قد قتلت جسدها فإنها لم تستطع أن تقتل شهرتها ، ومن الممكن زيارة مقبرتها الفاخرة التي تشبه اللؤلؤة في جمالها بين مقابر المماليك تحت القلعة، وقد تغنى الشعراء العرب بقصة حياتها وإخلاصها لمصر .
المصادر شجرة الدر للمؤلف جرجي زيدان.
كانت ملكة على مصر للكاتبة الانجليزية ونفرد هولمز.