حكايا محرّمة في البخاري
الجزء الرابع
} الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِين} "الحجر91"
بعد أن خسر الناس صوتهم، وخسروا مكانهم يتدافعون من أجل الصف الأول للصلاة وراء الفقيه يوم الجمعة الساكتة عن إيضاح الحق والحقيقة، ووفق فتوى لا طائل منها مفادها كون أصحاب الصف الأول سيكونون الأقرب الى الله، منذ ذلك الحين بدأً من عصر معاوية والفقيه يتحدّث دونما مللٍ معتمداً على وجود مجتمعٍ يرهف السمع لكلماته السحريّة، ومن هؤلاء قطعاً صديقنا الجبان الذي يختبأ وراء أسماء رمزيةٍ لا يملك الجرأة على الدفاع عن رأيه أمام الناس علناً، ليعلن عن صوته كما فعلت، لكن الحجّة هي ما يفتقد هؤلاء جميعاً، كلماتٌ يصعب أن تقال هي كلمات الاعتراف بضخامة الخدعة، فثقافتنا الدينية المعاصرة في واقع الأمر محض خرافاتٍ وترّهاتٍ لا تمت للدين بصلةٍ، سوى أن من رسّخها باسم الدين كان مجرد فقيهٍ عاطلٍ عن العمل، أخرج الدين عن واقع الناس وأقحمه داخل كتبٍ مليئةٍ بالطلاسم والتناقضات معلناً أنّه سيقتل كل من يخالفه الرأي، يرد في الفتاوى الكبرى لابن تيمية، في مسألة رجلٍ يصلّي يشوّش على الصفوف التي حواليه بالجهر بالنيّة، أنّه قال: (... ان ادّعى أنّه من دين الله وأنّه واجب فإنه يجب تعريفه بالشريعة، واستتابته من هذا القول، وإن أصرّ على ذلك قُتل..)، ياللهول ألهذه الدرجة فقد الفقيه القدرة على الحوار و قبول الاختلاف و التي يكفلها النص القرآني { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} "الإسراء 110"، { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب} "الشورى 10"، ألهذه الدرجة أصبح الفقيه كرجل العصابات لا يعرف إلا صوته أو موت من يخالفه من يمتلك صوتاً آخر، مثل هذه التفاصيل الصغيرة والنصوص المدسوسة داخل كتب الطلاسم و التي يصعب فكّها دون الاستعانة بمجلّدات وكتب الفقه الملغمة بالفخاخ، مثل هذه التفاصيل هي التي تفشل في العبور أمام المؤمن إلا عبر باب الخوف من سلطة الفقهاء لا عبر يقين الإيمان الراسخ خلال باب الشك، لكن ما بال هؤلاء لم يجرأ أحدً منهم للحديث عن التدليس الذي يملأ كتب الفقهاء وهي تدّعي الحديث بصوت الرسول، بينما في واقع الأمر فإن هذه النصوص لا تمت للرسول بصلةٍ، ورغم أنف الجميع تبقى داخل كتبٍ كصحيح أحاديث الرسول أو معجزات الرسول ترد قصصٌ لا نفهم الغاية منها، يرد في صحيح البخاري باب أيام الجاهليّة: (... حدثنا نعيم بن حماد: حدثنا هشيم، عن حصين، عن عمرو بن ميمون قال: رأيت في الجاهلية قردة اجتمع قردة، قد زنت، فرجموها، فرجمتها معهم)، أولاً أين الرسول في هذه القصّة !!؟، فعمرو ابن ميمون ليس هو الرسول، ما بال القصة ترد في كتاب صحيح البخاري!!؟، وثانياً ما المغزى من حشرها بين أقول تُنسب للرسول ! !؟، هل الغاية التأكيد على كون القرآن ينقص آية رجم المحصن الزاني، أو كما يرد في بعض نصوص الإسلام التاريخي !!؟، يرد في سنن ابن ماجة نصٌ آخر ليس للرسول وجودٌ فيه: (... عن عائشة: لقد نزلت آية الرجم، ورضاعه الكبير عشرا، ولقد كان في صحيفةٍ تحت سريرى، فلما مات رسول الله وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها)، ويرد في صحيح البخاري قصّةً تقول أن الرسول طبق على اليهود (شريعتهم )، والتي نسخها القرآن عندما نزلت آية جلد الزاني و الزانية: (أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله: (ما تجدون في التوراة في شأن الرجم)، فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله فرجما، قال عبد الله: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة)، ويرد أيضاً عن عمر بن الخطاب في ذات الصحيح في نصٍّ ينقص الرسول أنّ عمر قال: (... إنَّ الله بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلُّوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البيِّنة...)، وهنا نقرأ أن هذه النصوص لم تصدر عن الرسول (وكما أوردنا هي عادةٌ ملازمةٌ للبخاري في صحيحه الذي يفتقد الى مقدارٍ كبيرٍ من الصحّة)، بل أن البخاري يقول أن عمراً يقول أنّ القرآن ناقص بنقص آية الرجم رغم كون النص القرآني لا يقول بحد الرجم مطلقاً، بل هو فعلٌ همجيٌّ متوحشٌّ (دون الدخول في التفاصيل التي أقرّها الفقيه، حيث يجوز وفق أحد المذاهب الإسلاميّة السماح للرجل بالفرار أثناء الرجم، بينما توضع المرأة في حفرةٍ لا قرار لها وترجم حتّى الموت!!؟)، فمن يرجم في القرآن هم المشركون فقط في خمسة مواقع:
1-{قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} "هود 91".
2-{إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} "الكهف 20".
3-{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّا} "مريم 46".
4-{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيم} "يس 18".
5- {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُون} "الدخان 20".
كل هذه الأحاديث المنمّقة كانت تهيئةً لهذا القول الذي يناقض القرآن مرّاتٍ عديدة متهمّاً النص القرآني والعياذ بالله بالكتمان والنقصان تارةً، وبالخطأ والتناقض تارةٍ أخرى :
1- {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيد} "فصلت 42".
2- {ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} "النحل 89".
3- {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين} المائدة 67.
4- {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون} "الأعراف 3".
5- {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيما} "النساء 105".
6- {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّه} "النور 2".
7- {فانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم} "النساء 25".
إنّها أسئلةً تفوح من إجابتها رائحة الخديعة، تذكّرني هذه النصوص بكتاب (صحيح معجزات الرسول) لابن كثير بتخريجٍ للألباني، والذي يحوي قصصاً ومعجزات ليس الرسول طرفاً فيها لا بالفعل ولا بالإخبار، لكنّها ترد وفق مسلسل الخداع في كتبٍ تُنسب للرسول وفق منهج كتب الإسلام التاريخي: (قال الحافظ البيهقي: أنا أبو صالح أبي طاهر العنبري، أنا جدّي يحي ابن منصور القاضي، ثنا أبو علي بن محمد بن عمرو بن كشمرد، أنا القعتبي، أنا سليمان بن بلال يحيى ابن سعيد عن سعيد عن المسيب أن زيد بن خارجة الأنصاري ثن من بني عبد الحارث بن الخزرج توفيّ زمن عثمان بن عفّان فسجّي ثوبه، ثم أنّهم سمعوا جلجلةً في صدره ثم تكلّم، ثمّ قال: أحمدٌ أحمد في الكتاب الأول، صدق، صدق أبو بكر الضعيف في نفسه القوي فيأمر الله، في الكتاب الأول، صدق عمر بن الخطاب القوي الأمين في الكتاب الأول، صدق صدق عثمان بن عفّان على مناهجهم مضت أربع وبقيت ثنتان أتت بالفتن، وأكل الشديد الضعيف وقامت الساعة، وسيأتيكم عن جيشكم خبر، بئر أريس، قال يحيى: قال سعيد: ثم هلك رجلٌ من بني خطمة فسجيّ ثوبه، فسمع جلجلةٍ في صدره، ثم تكلّم فقال: إن أخا بني الحارث ابن الخزرج صدق صدق)، وهذا النص يضعنا أمام ثلاث حقائق غير قابلةٍ للشك:
ــ أولاً: القصّة حدثت بعد وفاة عثمان أي أنها ليست من معجزات الرسول، و ورودها في كتابٍ يتحدّث عن معجزات الرسول تدليسٌ لا شك فيه.
ــ ثانياً: فإن القصة غير قابلةٍ للتصديق فالله لا يحيي النفس بعد موتها إلا يوم القيامة يوم الحشر بغية الحساب {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِير} "ق 44".
ــ ثالثاً: فإن الحديث عن كون الرسول يملك معجزاتٍ ملموسةً يناقض النص القرآني الصريح الذي ينكر معجزات الرسول خلاف القرآن {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً، وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً، وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولا} "الاسراء 88/ 93".
يرد في صحيح البخاري باب الصراط جسر جهنم: (... قال أناس: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟، فقال: (هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب)، قالوا: لا يا رسول الله، قال: (هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب)، قالوا: لا يا رسول الله، قال: (فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك، يجمع الله الناس، فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتَّبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتَّبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه، ويضرب جسر جهنم...)، إلهي ما هي الصورة التي يعرفونك بها!!؟، هل منكم من يعرف الله بصورةٍ أو على صورةٍ بعينها!!؟، ما هذه الترّهات، موضوع رؤيا الله من عدمه موضوعٌ جدليٌّ وفق تفسير النص القرآني {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} "القيامة 23"، حيث يقول الشيعة والإباضيّة أن المقصود هو الإنتظار كما يرد في نص: {قالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِين} "الأعراف 15"، لكن أن يلجأ فقهاء السنّة نحو التزوير والحديث باسم الرسول في نصٍّ يقولون أن الناس يعرفون الله على صورةٍ بعينها، وذلك لتأييد حجّتهم فإن الأمر يحتاج الى وقفةٍ طويلةٍ، فسواء أخطأ أو أصاب، أو العكس، فإن الأمر لا يعني شيئاً حقيقةً ما دام لا أحد يملك القدرة على منح الطائفة المخطئة حقّ التظاهر في الجنة، فما الذي سينفع الناس أو يضرّهم في حال أعتقدوا أو لم يعتقدوا بصواب أو خطأ أحد الرأيين، فكلٌّ من الرأيين يعتمد على جملة حقائق مستمدّةٍ من العالم المعروف (الحياة الدنيا) لا تمت للعالم غير المعروف (الحياة الآخرة) بصلةٍ.
يوجد في البخاري بابان عن صفة الجنّة كونها مخلوقةٌ والنار كونها مخلوقةٌ أيضاً، لكن مرّة أخرى يستغل الفقيه جهل الجميع بما فيهم هو، جهله بالعالم غير المعروف (عالم الغيب) مدّعياً معرفة هذا العالم بخفاياه وأسراره عبر لغة الأسرار، ليخلق هالةً من الوهم يختبأ خلفها معتمداً على جهل الجماعة الساكتة، ليؤجج الصراع التاريخي بين المعتزلة والأشاعرة، وهذه المسألة مستحدثةٌ لم يتحدّث فيها القرآن بصريح النصّ أو الرسول عبر ما وصل من كتب الإسلام التاريخي، لكن الفقيه استغل هذه النقطة كي يجر الأمة وراء السلطان معارضاً المعتزلة من يقولون بجواز الخروج عن طاعة ولي الأمر الظالم في لعبةٍ سياسيّةٍ ترد عبر كتب الإسلام التاريخي ذاته، بينما يقول المولى في كتابه {ما يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون} "الأنبياء 2"، {وما يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِين} "الشعراء 5"، {يا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} "النساء 171"، فعيسى كلمة الله وهو مخلوق، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} "الأنعام 73"، السماوات والأرض مخلوقة، وكن كلمة الله، سيبقى هذا الجدل يسحبنا نحو الوراء حتى قيام الساعة، كلٌّ متمسّكٌ برأيه، لكن الكارثة ليست الاختلاف، بل الكارثة هي ممارسة الخداع والاعتماد على قداسة وأقوال رجالٍ لا يملكون من القداسة والعصمة شيئاً، والحديث هنا عن مؤيدي هذه الأفكار الجدليّة والخلافيّة أو معارضيها من سنّة، شيعةٍ وإباضيّة اختلفوا في هذا الشأن، ويبقى الحكم لله، فمن يقول أن القائل كافرٌ، ليس هو الله وليس رسوله قطعاً يملك بين يديه مفاتيح الحكمة، وبناءً عليه تكون هذه الكلمات مجرّد مرسومٍ يكتبه موظّف في خدمة السلطان، فلا وجود لشيءٍ اسمه فتنة، بل الفتنة هي فتنة طاعة الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله {والَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون} "الشورى 38"، يرد في باب السمع و الطاعة للإمام: (اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة)، وفي حديثٍ آخر: (اسمع وأطع ولو أخذ مالك وجلد ظهرك)، أمّا الحديث الأول فالرسول منزّه عن هذا القول {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} "القلم 4"، فكيف نوافق هذا القول الذي يقول أن الرسول كان يعتبر الزنوج برؤوسٍ كالزبيبة!!؟، أما الحديث الآخر فهو مناقض للمبدأ القرآني الأول (الشورى).
نعبر منعطفاً موازياً لحديثنا هذا، ففي الإسلام لا تذكر العقائد إلا صراحةً في القرآن، ليس فيها إجمالٌ أو إشاراتٌ كما يأتي في بعض الأحكام الفقهية أو الأوصاف العلمية، أما العقائد فواضحةٌ صراحةً لا لبس فيها، الله حق، الساعة حقّ، الجنّة والنار حقّ، لكن ما بال البخاري يكثر من الحديث عن (عذاب القبر) في أبواب منها باب التعوّذ من عذاب القبر وقت الكسوف، باب ما جاء من عذاب القبر، رغم كون لم يذكر هذا العذاب في القرآن، فالتسلسل المعروف الوارد في القرآن يمتدّ عبر المسار الواضح الذي نقرأه على لسان عيسى ابن مريم {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} "مريم 33"، (والذي لم يتحدّث لا عن عودته الوهميّة أو عن جنة القبر أو عذابه الوهميّين أيضاً)، هذا التسلسل يمر عبر مراحل محدّدة:
ــ الموت: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُون} "الزمر30"، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} "الرحمن 26"، {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون} "النحل 21". وهذه الآية قطعية الدلالة على عدم وجود مرحلةٍ وسطى بين الموت والبعث، أو ما يعرف بعذاب القبر وفق نصوص خارج دائرة النص الرئيسيّة "القرآن".
ــ البرزخ: {بيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَان} "الرحمن20"، والبرزخ هنا هو الفاصل بين الشيئين لا يلتقيان، {ومِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون} "المؤمنون 100"، الفاصل بين الموت والبعث ولم يذكر فيه حديثٌ عن عودة الروح الى الجسد لتعذّب قبل أن تُحاسب في البرزخ، ففي هذا اتهامٌ لله كون غير عادلٍ، فالله لا يعذّب قبل أن يحاسب، والبرزخ في علم الله لم يطلع عليه أحداً.
ــ البعث: {قالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون} "الأعراف 14"، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُون} "يس 52".
ــ الحشر: {واتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُون} "البقرة 203"، {ويَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون} "سبأ 40"، {يوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} "مريم 85"، {يوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} "طه 102".
ــ الحساب: {أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب} "البقرة 02"، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} "الغاشية 26".
ــ الثواب أو العقاب: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه} "الانشقاق 7"، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ} "الانشقاق 10".
ــ الخلودّ في الجنّة أو في النار: {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} "البينة 8"، {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} "التوبة 68".
حسب الديانة الزرادشتيّة (وهو ما يُقرأ في ترانيم زردشت) تقود الداينا (الروح) الميت نحو جسر جنيفات (الصراط) وهو يعلم مصيره أمام الرب مسبقاً: (... تجثم روح الميّت في القبر ثلاثة أيّامٍ، روح الإنسان الصالح تنعم هذه الفترة بما يهب عليها من روائح طيبة، وبعد انتهاء هذه الفترة، تأتي الروح الى مكانٍ جميلٍ حيث تستقبلها فتاةٌ جميلةٌ تقدّم لها الشكر، وهي صبيّةٌ جميلةٌ متألّقةٌ ذات ذراعين بضين، ومظهرٍ أنيق، وجسدٍ مستقيمٍ، وذات نهدٍ بارزٍ لها خمسة عشر عاماً، وبكشف هويّتها تضيف قائلةً: محبوبةً كما كنت، لقد جعلتني محبوبةً بأفكارك الحسنة، وبكلماتك الحسنة، وبأفعالك الحسنة، وبدينك الجيّد، جميلةٌ أعدتني أيضاً أكثر جمالاً، مرغوبةً أيضاً مرغوبةً أكثر، ثم بأربع خطواتٍ تجتاز الروح الأفلاك السماوية وتصل للأنوار التي لا بداية لها في الفردوس، أمّا بالنسبة للروح الشريرة، فإن الفتاة التي تقابله في اليوم الرابع قبيحةٌ وتتقدّم نحوه بعد رياحٍ وأعاصير شديدةٍ، وتخبره لكلامٍ ينمّ عن سيّئاتٍ وذنوب ارتكبها أثناء حياته..)، هنا نرى التطابق بين الفكرتين، الفكرة الزرادشتيّة ونص عذاب القبر المزعوم، المشكلة هي عدم فهم الفقيه لفكرة موت الإنسان وانقطاع علاقته بالمكان والزمان (الحياة الدنيا)، وأن القبر لا يحوي سوى جسداً لا يمثل الإنسان، فالعظام سوف تجمع {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُون} "الصافات 16"، والجسد فسيتحلّل عبر الزمان والمكان، أما الروح "النفس" فعند بارئها غير مرتبطةٍ لا بالمكان ولا بالزمان، وهنا سؤالٌ مركزيٌّ يرد مفاده، مادام القبر حفرةً من حفر النار أو جنةً من نعيم الجنّة، لماذا يتم تجاهل الحالة الأخرى وفق مبدأ الترغيب والترهيب ولم يتحدّث الرسول عن الدعاء بنعيم القبر ما دام طلب التعوّذ من عذابه!!؟، يرد في باب ما جاء في عذاب القبر: (... عن عائشة: أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة عنها رسول الله عن عذاب القبر، فقال: (نعم، عذاب القبر حق)، قالت عائشة عنها: فما رأيت رسول الله بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر).
هل الرسول أيضاً و هو ميتٌ في قبره يناله شيءٌ من هذا النعيم!!؟، وما هي حقيقة القصّة الواردة في مسند أحمد بن حنبل (... عن أبي هريرة عن رسول الله قال: ما من أحدٍ يسلّم علي إلا ردّ الله عز و جل علي روحي حتى أرد عليه السلام)، فما دام الرسول ينعم في قبره بالنعيم، كيف تعود له الروح وهو حيٌّ في قبره أصلاً!!؟، وفي حال لم يكن حيّاً كي تعود له الروح كي يرد السلام، إذا هو لا ينعم بنعيم القبر!!؟، وماذا عن من لا قبر له ولم يدفن، كحال الشعوب التي تحرق موتاها محتفظة بالرفات، أو الغريق الذي ابتلعه البحر، كيف ينتقل الى الحياة الآخر دون المرور عبر هذا الباب، فعذاب القبر مرتبطٌ بالقبر لأنه عذابه، ومن لا قبر له، لا عذاب له!!؟، الفكرة معقّدةٌ جداً بل وشديدة التعقيد، فالفقيه لا يزال يربط الميت بالمكان والزمان معتقداً أنه بعد الموت سينتظر الميت آلاف السنين حتى تقوم الساعة عبر أفكار ونصوص مفبركةٍ تستغل فقط جهل وغباء من يُنصت إليها بسمعه وقلبه فقط، بينما يحاول مجهداً أن يسحبنا معه نحو الجنون بإلغاء العقل عن دين العقل.
لست أحاول أن أعبر بالملايين نحو غايةٍ أريدها، ولست أملك أن أغير شيئاً من حال الأمّة المتأزم، لكن فصاحتي وسعة معارفي تجعلني الذي لا اخجل من رأيي، تجعلني أجد نفسي مرغماً أطرح أسئلةً تحوي داخلها إجابةً مخيفةً مفادها أنّنا حقاً نعيش عالماً مليئاً بالترّهات والحمقى في ذات الوقت، يحتفل المسلمون كل عامٍ بأعيادهم كلٌّ منهم يتربّص بالآخر ليكون الإسلام هو الضحيّة الأولى والأخيرة لهذا الحقد الدفين بين الفقهاء، وتعلن وسائل الإعلام كل يومٍ أخبار مفرحةٍ مفادها أن الإسلام ينتشر في الغرب كانتشار النار في الهشيم، وما ترفض إعلانه هذه الوسائل هو كون هؤلاء المسلمين الجدد لن يمر وقتٌ طويلٌ حتى يصابوا بالجنون بعد أن يحاولوا فهم الإسلام وهم يسبحون في بحر كتب الفقهاء، ليزداد عدد المجانين في العالم بازدياد عدد المسلمين، لأنهم لن يفهموا ما الذي حدث كي يصبح كل فقيهٍ يعلن إسلاماً آخر خلاف الفقيه الذي يجاوره، كل مذهبٍ وكل طائفةٍ تبتدع حجّةً يتشبّث بها الفقيه بيديه وأسنانه، وفي حال حاول أن يعلن أنّه لا يعترف سوى بكتاب الله (قرآنه)، فستنهال عليه التهم ويقام عليه الحد، ليجد نفسه إمّا مجنوناً يفجّر نفسه في الحانات ودور العبادة، وإمّا منعزلاً أو معتزلاً كلاهما جميعاً.