لقد حبت الطبيعة أرض مصر حدودا طبيعية جعلتها في الأزمان الغابرة منعزلة عن العالم الذي يحيط بها مما جعل إغارة جيرانها عليها من أشق الأمور وأصعبها، فقد كانت صحراء لوبيا (ليبيا) سدا منيعاً لكل غارة من جهة الحدود الغربية، على حين ان سواحل مصر الشمالية لم تعرضها لأي خطر، إذ في ذلك العهد من تاريخها، لم يكن لها أعداء لهم أساطيل تمخر عباب البحر، يخشى من غاراتها، أما الأقوام الذين يقطنون وراء حدودها الشرقية والجنوبية فإنهم كانوا أقل من مصر ثقافة ومدنية، فكان خطرهم على تهديد سلامتها شئ لا يحسب له حساب.
من أجل ذلك بقيت بلاد مصر فترة طويلة من الزمن هادئة مطمئنة في عقر دارها، مما جعل أهلها بطبيعة الحال يشتغلون بالزراعة، وسيظلون كذلك طوال حياتهم ، وأهم عمل لهم فلاحة الأرض واستثمارها.
على أن كل ذلك لايعني أن المصري القديم لم يكن بالرجل المحارب عند الحاجة، إذ برهنت الأحوال على أن الجندي المصري في ساحة المعارك والوغى يعد من أحسن جنود العالم وأشجعها وأكثرها صبراً ، فقد جاء على مصر فترة من الزمن في تاريخها كانت هى سيدة ممالك العالم المتمدن، وذلك بقوة جيوشها وانتصاراتهم العظيمة التي وضعتهم في قمة أمم الشرق ردحا من الزمن غير قصير.
عصر ما قبل التاريخ
ورغم ما ذكر فإني لاأقصد أن مصر كانت معفاة من الحروب الداخلية والخارجية منذ ما قبل الأسرات، لأن ذلك ينافي طبيعة البشر وسنن الرقي، فقد عثر على ألواح من عصر ما قبل التاريخ يستدل منها على قيام حروب بين المصريين وبدو الصحراء وأهل بلاد النوبة. وكانت تدل الأثار الأولى على قيام حروب مستمرة بين سكان مصر أنفسهم، وبخاصة بين الوجه القبلي والوجه البحري، وبقى النزاع قائما إلى أن وُحِّدتْ الأرضان في عهد الفرعون أو القائد العسكري مينا على قول معظم المؤرخين، وكانت تلك هى:
الحروب الأولى:
التي خاضها المصريين فكانت بين بعضهم البعض.. وهذا ثابت تاريخياً.
كما أن هناك من الوثائق القليلة التي تلقي الضوءعلى اشتباك المصريين مع الأسيويين في حروب، وكذلك على قيام حرب بين مصر العليا ومصر السفلى، ولا أدل على ذلك من المناظر التي نشاهدها على لوحة الملك "نعرمر" وكذلك على رأس دبوس الملك "العقرب" فعلى هذين الأثرين نجد مناظر تدل على اشتباك المصريين معاً في قتال عنيف.
الحرب بين الوجه القبلي والبحري:
وكذلك اشتراك الأسيويين مع أحد الخصمين لمساعدته. يضاف إلى ذلك أنه عثر على رأس دبوس ممثلة عليها حملة قام بها ملك الكاب " نخن " (الوجه القبلي) ، وتعد من الحملات الهامة جدا ضد بلاد الدلتا، فقد حُطمت الكتائب المصرية التي جمعها ملك الوجه البحري لصد هذا الهجوم، وكذلك قضت الحملة على جيش أنصار ملك الدلتا من الأسيويين جيرانه وحلفائه، وقد عثر في "نخن" (هراكنبوليس) على نقوش ملونة يرجع عهدها إلى عصر ما قبل الأسرات وهى موجودة الآن في المتحف المصري، يشاهد عليها بعض المحاربين القدماء وهم في ساحات القتال وتدل كيفية تسليحهم دلالة واضحة على تقدمهم في فنون الحرب مما يشعر بوجود جيش في البلاد.
إذ نجد أن المحارب كان مسلحاً بحربة في نهايتها قطعة من الظران الحاد المدبب، أو من العاج وكان يحمي الجندي سهم زرد ودرع مصنوع من جلد الفهد.
كما تدل المعلومات التي اكتشفها الأثري الدكتور أحمد فخري والدكتور سليم حسن إلى أن بلاد القطر المصري كانت مقسمة إلى مقاطعات تكاد تكون كل واحدة منها مستقلة في حكم ذاتي .
حتى وحد "مينا" القطرين وبقى هذا النظام شائعاً في عهد الأسرتين الأوليين حتى قضى عليه آخر ملوك الأسرة الثانية تدريجاً وكان الفضل في القضاء على هذا النظام يرجع إلى الملك أو الفرعون كما هو معروف في التاريخ (خع سخموي) ومنذ ذلك العهد أصبحت كل المقاطعات المصرية في يد الملك.
ولهذا بدأ يكون للبلاد جيشا ثابتا منظماً منذ أوئل الأسرة الثالثة ، وليس هناك ما يثبت أنه كان هناك جيش موحد لكل البلاد قبل عهد "زوسر" وذلك لقلة المصادر.
ومما لا نزاع فيه أنه كان لملك الدلتا جيش، وكذلك كان لملك مصر العليا جيش، ولكن يغلب على الظن أن جنود كل جيش لم يكونوا خاضعين للملك. بل كانوا يجندون من المقاطعات، التي كانت مقسمة إليها البلاد في هذا العصر، وكان يقود جند كل مقاطعة حاكمها لمساعدة مليكه وقت الحرب.
الأسرة الثالثة: "زوسر يؤسس جيشاً نظامياً لحماية البلاد..!
ولما تولى زوسر حكم البلاد، ووطد السلطة الاداريةفي يده كان لابد له من جيش نظامي قائم في البلادليمكنه من القبص على على ناصية الحال في داخل البلاد وخارجها، ولقد عثر على نقوش تدل على أن في عصره ثبت وجود مصلحة خاصة لإدارة شئون الجيش،
وكان اهم ما عنى به هو حماية البلاد من الغارات الأجنبية ، التي كانت تجتاح البلاد من أطرافها، وبخاصة أهل البدو, ولذلك قسم حدود البلاد إلى مناطق أطلق عليها اسم (أبواب المملكة) وجعل في كل منها حامية، وهذا التسمية تنم عما يقصد بها أنها كانت المواطن التي يمكن أن ينفذ منها العدو إلى داخل القطر.
وقد نصب وعين على كل من هذه المناطق حاكم خاص بلقب (مرشد الأرض) "سشم تا" وقد كان لهؤلاء الحكام العسكريين الكلمة العليا على حكام المقاطعات المدنيين..!! وكان في يدهم إدارة الشرطة كل في منطقته، ولذلك كانوا مسئولين عن النظام والأمن في هذه المناطق التي لا يمكن للبلاد أن تعيش في أمان إلا في ظلها.
وهكذا عرفت مصر الحكم العسكري بجيش نظامي بيده كل السلطات في عهد زوسر أشهر ملوك الأسرة الثالثة .. وباني الهرم المدرج الشهير بمنطقة سقارة.. والمعروف باسم (هرم زوسر المدرج)
وإلى لقاء في جزء آخر .