( كتب ، وكتاب ) فى القرآن الكريم(6/ 6) آلية كتابة العمل

آحمد صبحي منصور في الأحد ١١ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

جزء حتمى مكتوب عليك فى الدنيا هو الحتميات الأربع، وجزء أنت حرّ فيه هو أعمالك وأقوالك ، وهو جزء تتم كتابته وتسجيله ليكون لك أو عليك يوم القيامة

أولا : التكنولوجيا الراهنة والمستقبلية تساعد على فهم آلية تسجيل وكتابة العمل

1 ـ وصلت التكنولوجيا الحديثة فى تقنية التصوير والتسجيل والاتصالات الى مرحلة الخيال ، وهى فى تطور مذهل يجعلنا نتساءل عن مستواها بعد خمسين عاما . ولكن دعنا نتصور أن هناك كاميرا تسجل تحركاتك اليومية منفردا ومع الناس بالدقيقة والثانية ، وهذه تكنولوجيا بسيطة ومطبقة منذ سنوات ،  وتخيل بعد موتك وقد تم تجميع تلك الأفلام مع بعضها مرتبة حسب الزمن ، ألا يعد هذا إرشيفا لحياتك ؟أو بالتعبير القرآنى ( حفظا ) لتاريخ حياتك ؟ أو كتابة بالصوت والصورة والألوان الطبيعية لأقوالك وأفعالك ؟ هذا تخيل ممكن ومستطاع تحقيقه بيد البشر، فما بالك بخالق البشر وخالق السماوات والأرض جل وعلا ؟  وإذا كان بامكان البشر تسجيل دقائق أعمالهم وأصواتهم بآلات مصنوعة فكيف بالخالق جل وعلا؟

2 ـ حسب علمى فهناك كاميرات شديدة الحساسية الى حد أنها تقوم بتصوير ـ ليس الجسد فقط ـ بل ما يصدر عنه من أشعة غير مرئية ـ وما يقال عن وجود هالة تحيط بالرأس . ولوصحّ هذا فهو تصوير لانفعالات النفس وليس مجرد حركات الجسد . ونقول مجددا ،إنه لو كانت لتكنولوجيا البشر تصوير ما لايمكن رؤيته من أشعة تصدر عن مشاعر الانسان وأحاسيسه فكيف بخالق الكون جل وعلا؟

3 ـ من موسوعة ويكيبديا ننقل بعض ما جاء عن الفيمتوثانية ، أنها جزء من مليون مليار جزء من الثانية أي (عشرة مرفوعة للقوة -15) والنسبة بين الثانية والفيمتو ثانية هي النسبة بين الثانية و32 مليون سنة.واول استخدام عملى لهذه الوحدة كان ابتكار نظام تصوير ـ من قبل هو العالم المصرى أحمد زويل  ـ يرصد حركة الجزيئات عند نشوئها وعند التحام بعضها ببعض، والوحدة الزمنية التي تلتقط فيها هذه الصورة هي الفيمتو ثانية، وذلك حينما أراد أن يصور بالضبط ما يحصل خلال التفاعلات الكيميائية. وقد كان هذا الشئ مستحيلا قبلا لأن هذه التفاعلات تحدث بسرعة كبيرة جداً وعند تسليط  الضوء على هذه التفاعلات يسبب الضوء تشتت الإلكترونات فلا يمكن حينها تصوير تفكك الروابط بين المركبات أو إعادة ترابطها معا ، ولكن د أحمد زويل تمكن من تسليط أشعة الليزر على التفاعلات وتصويرها بكاميرات دقيقة تمكنت من التقاط ما يحدث في جزء من مليون مليار جزء من الثانية. فتح هذا الاختراع الباب على مصراعيه من أجل التقدم والبحث ، ولعل أفضل العلوم التي ظهرت حديثا عقب اختراع أحمد زويل هو علم الفيمتو كيمياء femtochemistry.وببساطة فإن علم الفيمتو كيمياء حول تخيلات العلماء للتفاعلات الكيميائية إلى مشاهدة على أرض الواقع عن طريق تلك الكاميرا التي تصور التفاعلات الكيميائية بدقة كانت تعتبر قديماً من باب المستحيلات.). أى سندخل  فى عصر التكنولوجيا الدقيقة بالغة الصغر حيث يمكن تصوير ما هو أدق من التفاعلات الكيماوية بين العناصر والمواد ، أى سندخل الى تصوير دقائق الوجه الآخر للمادة وهى الطاقة ، والمادة والطاقة معا يحكمها سرعة الضوء ، وهو أساس التصوير . ولكن توجد عوالم أخرى ذات سرعات هائلة لا نتصورها ، وهى تتداخل مع عالمنا وفق ما أشارت اليه نظرية الأوتار الفائقة . نقول إنه عالم أو عوالم البرزخ ، والذى تنتمى اليه النفس والجن والملائكة والشياطين ، وإذا كان البشر قد سخّر لهم ما فى السماوات وما فى الأرض جميعا منه (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الجاثية 13)، فليس مستبعدا أن نتعرف ونستخدم علميا بعض ملامح تلك المستويات من العوالم خصوصا وهى ضمن ما أخضعه رب العزة أو سخّره لنا . وطالما دخلت تكنولوجيا الانسان فى أزمنة بالغة الضآلة ( فيمتوثانية ) فقد دخلت فى الفضاء الداخلى لعوالم الطاقة فى كوننا،وممكن أن تدخل عوالم برزخية مسموح لنا أن ننتفع بها وفق معنى التسخير .على أن هناك فارقا بين التسخير ورؤية ما سخره الله جل وعلا لنا،فمستحيل أن   نرى فى حياتنا الدنيا الملائكة المسخرة لكتابة أعمالنا أو لقبض النفس وهى فى عالم البرزخ، كما أننا نستفيد من الكهرباء والجاذبية التى سخرها الله جل وعلا لنا ولكن لا نستطيع رؤية الكهرباء أو الجاذبية.  ثانيا : محاولة لفهم آلية تسجيل العمل أو كتابة العمل من خلال القرآن الكريم :

1 ـ يقول جل وعلا:( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (الاسراء 13). يستطيع المتخصصون فى العلم والتكنولوجيا تدبر هذه الآية الكريمة بصورة أفضل . ولكن نقول بثقافتنا القرآنية المتواضعة إن كل ما (يطير) عن الانسان من عمل يتم تسجيله ويتم ربطه بعنق صاحبه . وهذا الذى يطير هو نسخة العمل نفسه ، وهذا العمل هو طاقة تخرج من الجسد البشرى ـ أى جزء كان من الجسد البشرى ـ ولكن يطير عنه ، فيتم تسجيله وحفظه فى البرزخ بيد ملكى تسجيل الأعمال ( رقيب وعتيد ). ويستمر هذا التسجيل طالما بقى الانسان حيا يسعى بجسده ونفسه. وبالموت يفنى الجسد ولكن يبقى تسجيل سعيه فى كتاب عمله ، ويوم الحساب يخرج له كتاب أعماله منشورا أمامه موثقا ومسجلا كل سعيه فى حياته الدنيا : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً) (الاسراء 13)،ويقال له:(اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبا)(الاسراء 14). ويقال أن كل حركة تصدر عن الانسان تحدث شعاعا يمكن تصويره ، فلو حرّكت (ذراعك ) فإن هذه الحركة  يطير عنها ما يمكن أن نسميه شعاعا بصورة الذراع يمكن تسجيله وتصويره. وتعبير (طائره) يعنى أن ما ينتج عن حركة (الذراع ) يطير أى يتحرك بسرعة فائقة ، وربما تستطيع كاميرات المستقبل تصوير هذا . ولكن ما جاء فى القرآن الكريم يتجاوز (التصوير) الى الحفظ والكتابة ، أى حفظ السعى نفسه ونسخا منه وليس مجرد تصويره . ويقال أن هناك كاميرا تسجل بأثر رجعى ، أى يمكن أن تدخل غرفة كان ينام فيها عشيقان ثم خرجا ،فيمكن أن تلتقط تلك الكاميرا ما كان يحدث من دقائق مضت، ويقال أن هناك محاولات لتسجيل أصوات بعد صدورها من أصحابها ، يعنى أن تتكلم وبعد عدة دقائق يمكن تسجيل ما قلته قبل أن يضيع ويتشتت فى الهواء ، ويقال إن كل ما يصدر (من) صوت أو ما يصدر (عن ) حركة لا يفنى ويظل موجودا ،أى قد يمكن استرجاعه وتسجيله بعد صدوره من صاحبه . ولو لم نصل الى هذه التكنولوجيا فى عصرنا فسنصل اليها فى المستقبل القريب. ولكن الاشارة عنها جاءت فى القرآن الكريم عن تسجيل العمل .

2 ـ ويقول جل وعلا:(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)( يس 12 ). أى إن ما نعمله فى الدنيا هو فى الحقيقة ما نقدمه ليوم الدين لأننا سنراه يوم الدين.وهذا الذى   نقدمه من عمل يتم كتابته وتسجيله، وهذا الذى نعمله ونقدمه ويتم كتابته وتسجيله هو الآثار التى ستبقى منا ، فقد مات الجسد وفنى ولم يبق منه إلا آثاره وهى ما (طار) عنه من عمل ، وكل أعمال البشر سيتم إحصاؤها فى كتاب أعمال جماعى لكل مجتمع وكل جيل وكل قوم عاشوا معا فى نفس الزمان والمكان وتفاعلوا فيما بينهم. وسيكون هذا الكتاب الجماعى معرضا أمامهم يعرض أعمالهم بوضوح،أو هو: (إِمَامٍ مُبِينٍ).يقول جل وعلا :(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)( الكهف 47 : 49 ) 3 ـ ويقول جل وعلا:(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) (الانعام 60 ـ ).أى إن ربنا جل وعلا يتوفانا بالليل بالنوم ثم يبعثنا بالنهار يقظة ويعلم ما فعلته جوارحنا طيلة اليقظة ، ويظل هذا الى الموت فى الأجل المسمى لكل فرد ، ثم نأتى يوم القيامة فيخبرنا ربنا جل وعلا بما كنا نعمل فى الدنيا . وفى هذه الدنيا فهناك ملائكة يحفظون أعمالنا وتظل مهمة ملكى الحفظ الى أن يموت الفرد الذى يحفظان ويسجلان أعماله ، ثم نأتى يوم الحساب أمام الواحد القهار.

فى آلية كتابة العمل نتوقف مع قوله جل وعلا :(وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم ). ( جرحتم ) أى ما فعلته جوارحكم ، والجوارح هى أعضاء الجسد ،والتعبير عن العمل بكلمة (جرحتم) يعنى أن كل حركة تقوم بها جوارح أو أعضاء الانسان يتم نسخها كما هى . نحن هنا لا نتحدث عن صورة بل عن نسخة من نفس الجارحة او العضو فى جسد الانسان. ثم بموت الجسد وجوارحه تتبقى آثاره ، وهى تلك النسخ المحفوظة من جوارحه فى كتاب أعماله .وهنا نتكلم بمعلوماتنا الضئيلة على أمل أن يصحح لنا المتخصصون . المادة والطاقة وجهان لنفس العملة ، ويتحول أحدهما الى الآخر داخل الانسان وحوله . أنت تأكل الطعام وهو مادة ، فيتحول فى داخلك الى طاقة مادية هى الدهون والشحوم ، وبما تقوم به من مجهود و ( سعى ) تتحول الدهون المادية الى طاقة. أى إن جسدك المادى تخرج منه طاقة حين يسعى ويتحرك ، وهذه الطاقة جزء أصيل من الجسد مع أنها تفارقه . أى إن العضو فى الجسد البشرى حين يتحرك تصدر عنه طاقة هى جزء منه ، وهذا معنى ( جرحتم ). وهذه الطاقة المنبعثة من الجوارح والتى هى نسخة من الجوارح يتم حفظها وتسجيلها . أى أن كل أعمالنا التى تصدر عنا يتم أسرها والقبض عليها ،والامساك بها،وتسجيلها بعلمنا أو دون علمنا فى كتاب أعمالنا. وهذا معنى أن الله جل وعلا هو القاهر فوق عباده : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ )، ثم بمرور الزمن وبانتهاء الجسد موتا يبقى لنا تلك النسخة الارشيفية الموثقة عن جسدنا الذى كان وما فعله من خير أو شرّ.

ومن تلك النسخة الأرشيفية يتم نسخ العديد من النسخ ، منها نسخة تضم الفرد وسعيه يالخير والشر خلال مجتمعه ، ونسخة خاصة بسعيه وحده فى خلوته ومع مجتمعه ، ونسخة بيد رقيب وعتيد ، ونسخة للمفلحين بأعمالهم الصالحة تصعد لرب العزة . نسخ تلك النسخ يتم فى الدنيا فى حياة كل فرد ، ثم يوم العرض على الله جل وعلا تأتى كل أمة تجثو عندما يأتيها النداء لترى كتاب أعمالها الجماعى الذى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، ويقال لكل أمة إن كتاب أعمالها ينطق عليها بالحق ، وإنه كان يتم نسخ نسخ من كل عمل يعملونه ، يقول جل وعلا : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ   فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ ) ( الجاثية 27 : 31 ).

4 ـ ويقول جل وعلا:(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ )(كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُون)(المطففين 7: 9 ، 18 : 21 ). يهمنا هنا وصف كتاب الأعمال للمجرمين وللأبرار بأنه (كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ). أى التسجيل بالارقام والأعداد على مستوى الزمن والسرعة والوزن الكيمائى الى آخر ما يعرفه المتخصصون . وقد سبقت الاشارة فى مقالة سابقة عن التقدير الالهى المحكم فى الخلق وفى الميزان والحساب . وهذا يسرى أيضا على تسجيل الأعمال وعلى البعث وأحداث يوم القيامة . فى الكاميرا الفيديو العادية تجد تاريخ اللقطة المصورة ،أى إن تلك الكاميرا قامت بتحديد زمن اللقطة وربطها بالحدث الذى تم فيه . وما قامت به تلك الكاميرا مبنى على حسابات الاهية فى سرعة الضوء وتفاعلات كيماوية تتأسس على معادلات وأرقام وأوزان ، وهذا فى عالمنا المادى ، وقد سبقت الاشارة الى الفيمتوثانية والآفاق التى فتحتها أمام العلم والتكنولوجيا . وإذن فما بالنا بالتسجيل الالهى فى عالم البرزخ والتى يحملها رقيب وعتيد الموكلان بكل فرد بشرى ؟ .

5 ـ إن هناك بصمة وراثية لكل انسان (  The DNA Fingerprint) تجعله فريدا ومختلفا عن غيره من البشر . هى داخل ( مادة ) الخلية فى سلمها الوراثى، وتنتقل الى ما يصدر عن الانسان من مخلفات ودماء ولعاب . وبالتالى فإنها تلحق أيضا بكل ما يصدر عن الانسان من طاقة ، وقد قلنا إن المادة والطاقة وجهان لعملة واحدة ، فالطعام المادى يدخل جسم الانسان ويصبح شحوما تحمل شفرته الوراثية ، وحين تتحول الشحوم الى طاقة يبذلها الانسان بسعيه فإن هذه الطاقة وذلك الجهد وذلك السعى يحمل أيضا بصمته الوراثية الخاصة به . وبالتالى فإن كتاب أعماله يكون ( مرقوما ) بتلك الشفرة الوراثية الخاصة بصاحب العمل نفسه ، بحيث لا يحمل أحد عمل أحد ولا تزر وازرة وزر أخرى:(وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى )( فاطر  18 )، وبحيث يكون كل منا أسير عمله أو رهين عمله:(كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)(الطور 21 )(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ )( المدثر 38 ).

 ثالثا : من التسجيل الى دخول الجنة أو النار

1 ـ تسجيل عمل الانسان طبقا لبصمته الوراثية يتم فى البرزخ حيث تتداخل ملائكة التسجيل مع الجسد البشرى ، وبموت الانسان وانتهاء التسجيل يتم حفظ كتاب العمل فى البرزخ بدرجاته او طبقاته السّت فى الارضين الستة من الأرض التى تتكون من سبع أرضين . ويتم البعث بنفس طريقة النبات ، حيث ينزل الماء على التربة وفيها البذور فتنبت البذور ، وهكذا البعث والنشور:( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ  ) ( الأعراف 57 )( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ) (فاطر 9 ). تلك البذرة التى يتم على أساسها بعث كل فرد هى نفس بصمته الوراثية التى تم حفظها فى البرزخ ، وهى أيضا بصمة كتاب أعماله(المرقوم ).

2 ـ ونتوقف أيضا مع وصف مقام الأبرار وكتاب أعمالهم فهو فى عليين وهم فى عليين : (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ) الأبرار هنا موصوفون أيضا بالمقربين ( يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُون ).يعنى المقربون من الله جل وعلا يوم القيامة . ولتوضيح هذا نقول : إن العمل الصالح يتم رفعه الى رب العزة فى عليين،يقول جل وعلا :( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)(فاطر10). ويوم الحساب يأتى الفرد المؤمن ومعه ملكا تسجيل عمله ، كانا رقيب وعتيد فأصبحا ( سائق وشهيد )، ولأن كتاب أعماله يحمل الصلاح والنور ولأن الله جل وعلا هو صاحب الاذن بالشفاعة على أساس علمه بما بين أيدينا وما خلفنا لذا فإنه جل وعلا يغفر يوم الحساب للمؤمن ويأذن بتقديم كتاب أعماله ، فيشهد كتاب أعمال المؤمن (لذلك المؤمن ) و( شهد لفلان ) أى شفع فيه ودافع عنه ،أما (شهد على فلان ) أى شهد ضده . وبذلك تتحول رحمة الله جل وعلا الى حقيقة حسية أو مادية حسب العمل الصالح ،بمعنى أنه بمقدار عملك الصالح تغمرك رحمة الله جل وعلا ، وبمقدار رحمة الله لك يكون قربك من الله جل وعلا ، (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) ( ىالأعراف 56 )، وتنجو من النار.

3 ـ ويقول جل وعلا :(وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)( الواقعة 7 : 11)،أى سيكون البشر يوم القيامة ثلاث درجات : أصحاب الجنة قسمان وهما السابقون المقربون من الله جل وعلا ،أو الأكثر قربا منه جل وعلا ، وبالتالى فمقدرا رحمته بهم تكون أكثر وهم فى المرتبة العليا عند مليك مقتدر ، ثم اصحاب اليمين ، وهم أقل منزلة ولكن تتغمدهم رحمة الله جل وعلا فتنجيهم من النار . بعد أصحاب اليمين يكون أصحاب الشمال . وبسبب قرب اصحاب اليمين من أصحاب النار سيدور حوار بينهم يسألهم أصحاب اليمين عن سبب دخولهم النار: (إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) ( المدثر 39 : 43 ).

4 ـ وكتاب الأعمال هو الفيصل . ونسترجع سورة المطففين (7 : 16 ): (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ) الشاهد هنا أن من أدمن المعصية وصدأ بها قلبه وأظلم بها كتاب أعماله لن يكون له مكان لتصل اليه رحمة الله جل وعلا يوم القيامة ،بل سيكون محجوبا عن رحمة ربه فيصلى الجحيم (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ).

أخيرا : التقوى هى مفتاح النجاح :

1 ـ هذه الدنيا هى رحلة سفر ، بدايته الميلاد ونهايته الموت . وهى إختبار لحياة خالدة يوم القيامة ، إما أن تنجح فيه وتفوز بالجنة ، وإما أن تخسر فتخلد فى العذاب . وفى سفرنا هذا يجب أن نتزود بالتقوى حتى نفلح يوم الدين ، وجواز السفر الى الجنة هو كتاب أعمالنا الملىء بالصالحات والايمان الخالص بالله جل وعلا الاها لاشريك له.( وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ) ( البقرة 197 )

2 ـ فى الدنيا تزين جسدك المادى بأغلى الثياب لو أمكنك هذا ، وليس كل فرد يستطيع أن يرتدى أفخر الثياب ، ولكن يستطيع كل فرد أن يجعل نفسه ـ وليس جسده ـ ترتدى أفخر و أطهر وأزكى ثياب ، وهو ثوب التقوى. إن إرتدت ثوب التقوى بكتاب أعمالها أصبحت فى مقعد صدق عند مليك مقتدر . يقول جل وعلا عن أفضل لباس ترتديه النفس :(وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ)(الاعراف 26 ).

ودائما..صدق الله العظيم ..!

اجمالي القراءات 15781