رسالة إلى الرئيس التونسي منصف المرزوقي

محمد عبد المجيد في الثلاثاء ٢٩ - نوفمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

فخامة الرئيس الدكتور منصف المرزوقي

رئيس الجمهورية التونسية،

 

كثيرٌ من أحلامي تحقق في هذا العام، وأكثر منها ينتظر لعل اللــهَّ يُحْدِثُ بعد ذلك أمراً.

أكثرُ أحلامي التي لا تغادرني حتى في اليقظــة هي التي يسقط فيها طاغيةٌ، أو يثور شعبٌ، أو يتمرد سجناءٌ، أو يصرخ أناسٌ بعد تكميم أفواهـِهم.

عدة مرات تخيلتـُك زعيماً لتونس بعد الاطاحة بالجنرال الطاغية، وتمنيت هذا في واحد من كليبات الفيديو التي وضعت لها عنوان ( مشروع المئة فيديو كليب )، ولم تكن تمنياتي تلك نابعةً من فراغ، إنما هي الثقة العميقة من خلال متابعتي إياك كمناضلٍ عنيد، يتصادم مع الطــغاة فلا ينكسر، يرسلونه إلى معتقلات لعله يركع فيزداد صلابة.

هل تتذكر لقاءَنا الأولَ في مؤتمر ( الكراهية ) بالعاصمة النرويجية أوسلو؟

كنت أنت ثالثَ ثلاثة من العرب الذين غاب ثالثـُهم، الدكتور بطرس غالي سكرتير عام الأمم المتحدة، وجاء حنا سنيورة من فلسطين، ولم أكن أعرفك من قبل إلا من خلال كتاب فرنسي قديم.

عندما جاء دورُك لالقاء كلمة، ووقفت كأنك عاشقٌ صُلـْبٌ يـُلقي قصيدةَ حبٍ في العالم العربي، فأفـَضْتَ، وشـَرَحْتَ، وتسللت إلى مواطن القوة والاشراق في حضارتنا العربية والإسلامية، وعرضت ما أدهش سامعيك فأنصتوا، وحبسوا أنفاسَهم، فالخطيبُ عربيٌ من بلدٍ يقبض ديكتاتور علىَ رقابِ شعبـِه، فيبتسم الغربُ، ويصمت الشرقُ، ويختفي السجناءُ في أقبيةِ معتقلاتـِه الأكثر عدداً من فنادق تونس الخضراء ومعقـِل السياحة العربية.

كنتُ أستمع إليك، وتنتابني رغبةٌ شديدة أن أنهض فجأة، وأخاطب الحاضرين قائلا: هذا الرجل من وطني العربي، والحقيقة أن الرغبة العكسية انتابتهم هم أيضا وكأنهم وقفوا فجأة ليسألوني: أهذا الرجل عربيٌ حقاً.

عندما جلست كانت الرهبة تسري في القاعة كلها، فأنا في حضرة الكبار.. جيمي كارتر، فاكلاف هافل، إيلي فيسيل، جرو هارلم برنتلاند رئيسة وزراء النرويج آنئذ، الأديبة نادين جوردمير، يو بينكوف رئيس البرلمان النرويجي، وقطــعا من اختطف الأضواء من الجميع .. نيلسون مانديلا.

ولما قطعت أنت شوطاً طويلا من محاضرتك بدت الأمور أكثر طبيعية لي، فممثل تونس لا يقل عن أي من الحاضرين، وصورة العرب المشرقة رسمتها أنت تاريخيا وجغرافيا فكبرنا بك، وانسحبت رهبتنا من الكبار.

فخامة الدكتور الرئيس منصف المرزوقي،

اثنان لم يسقطــاً خلال المؤتمر في مصيدة جعل الشرق الأوسط منبع الكراهية، نيلسون مانديلا ومنصف المرزوقي، فهناك أيضا امريكا اللاتينية والغرب ودول أفريقية.

وعندما لم ترق لك كلمة امتدحت إسرائيل على حساب العرب، خرجت أنت رافعاً رأسك، محتجاً بشموخ، معترضاً بإباء، فشهد الحاضرون صورة لم يألفوها من قبل لعربي بينهم جاء ومعه تاريخ العرب والمسلمين وفضْلـُهم على الحضارة الغربية.

خشيت أن تساوي بين القاتل والقتيل، فجنرال تونس يقف مع الغزو العراقي للكويت، وصحافة تونس تلعق حذاء الديكتاتور قبل أن تصدر الطبعة الأولى من الصحف اليومية، فوقفت أنت مندداً بالغزو في كل صوره، الاسرائيلية والعربية والأمريكية والغربية، فالاعتداء على الغير أدنى مراحل اللأخلاقيات في السياسة الدولية.

تضاعف احترامي لك في وقت قصير أضعافاً كثيرة.

هل تتذكر عندما طلبت مني أن ألتقط لك صورة مع المناضل نيلسون مانديلا؟

قمت أنا أيضا باجراء حديث معه بعد ذلك، وقال لي بأنه يعرف أن العرب يحبونه وهو يبادلهم نفس الحب والاحترام، وأنه يجد في نفسه القدرة على السفر فوراً، واقناع صدام حسين بالانسحاب من الكويت.

 

أرسلت حديثي الذي أجريته مع مانديلا بالفاكس إلى صحيقة ( الشرق ) القطرية، التي نشرته في اليوم التالي على صدر صفحاتها، لكن العرب لا يكترثون للوساطــة السمراء، فهم يبحثون عن وسطاء بيض الوجوه عليها أعين زرق.

بعد فترة أرسلت إليك في الجامعة بتونس خطابا رقيقا أجدد فيه فخري واعتزازي بك، وأرفقت به الصور التي ألتقطــها لك مع المناضل نيلسون مانديلا، وكانت المفاجأة عندما تلقيت منك رداً فاق فحواه خيالي عن متزلفي الصحافة في تونس لجنرالهم الديكتاتور.

كتبت لي بأن خطابي نزل عليكَ بردا وسلاما، فعندما عدت إلى الوطن وعلـِمَ زين العابدين بن علي أنك طالبت بانسحاب عراقي عاجل من الكويت، وأنك ألقيت كلمة في المؤتمر، أوحى إلى رجاله في كل وسائل الإعلام أن يقوموا بتشويه صورتك، والزعم كذبا أنك كنت في مؤتمر صهيوني، وتلقف زملاؤك الأكاديميون في الجامعة حديث الإفك وتولوّا ترويجه، فقاموا بالتضحية بزميلهم من أجل رضا الجنرال اللعين.. طاغــية تونس.

وجاء خطابي ، مصادفة، فبـُهتوا، وأسعدك.

ثم ظللت أتابع أخبارَك، ونضالك الرائع من أجل حقوق الإنسان في تونس، ومتاعبَك مع الطاغية ومخابراته وأجهزة القمع التي نثرها في كل أرجاء الوطن السجن.

وحاصروك، وسجونك، وهددوا القريبين منك بالانتقام، لكنك ظللت هذا المرزوقي الذي رأيته لأول مرة أكبر من الكبار، فتحديّت بن علي في انتخابات الرئاسة.

والجنرالات يفكرون بأحذيتهم، ولا يُصَدّقون أن أحدا يستطيع أن ينظر في عيونهم.

عندما اِسْتُدْعِيَتْ أسرة لصحفي سوداني كبير لالقاء التحية على صدام حسين، صافحهم جميعاً، فلما جاء الدور على خالة الصحفي وهي سيدة مُسِنّة، وبسيطــة، ولا تفهم في قواعد اللقاء مع الكبار، نظر الطاغية العراقي في عينيها، فبحلقت في عينيه، ولم تُخفضها، وهو لا يستطيع أن يزيح عينيه قبلها.

انتهى اللقاء، وعادوا إلى الفندق، وبعد قليل جاء مندوب من الرئاسة في بغداد يبلغهم أن الزيارة انتهت، وعليهم مغادرة بغداد براً إلى الأردن .. مساء نفس اليوم!

الطاغية يتلذذ بانتظار الكبار له ساعات .. وساعات، وعندما تأخر أنور السادات ساعتين عن الاجتماع حينما كان رئيساً لمجلس الأمة، غضبت الدكتورة نوال السعداوي، فعاتبته، ولم ينس لها هذا العتاب حتى لقي مصرعَه.

لهذا انتفض المشير طنطاوي غضبا وعناداً وعزة نفسٍ عسكرية عندما قيل له بأن مئات الآلاف من شباب الثورة يرفضون الثمانيني كمال الجنزوري، فهو من العهد البائد، وخدم مبارك عدة أعوام، وبلع كرامته أمام جمال مبارك في حادث بورسعيد، فمليون شاب لو اجتمعوا على رأي لما تساوى بعبقرية المشير.

فخامة الدكتور الرئيس منصف المرزوقي،

وصلتني عدة رسائل شفوية وأنت في باريس تفيد بمتابعتك لمقالاتي، فهي معركة واحدة رغم أنها، وصدقني إذا قلت لك بأنني أحمل هموم الوطن العربي بمساواة شبه كاملة، وشهداء سوريا كشهداء اليمن، وسجناء السودان كالمعتقلين في الأردن، والمفقودون في الجزائر ليسوا أرخص عندي من المفقودين في بلدي .. مصر.

كان نظام الجنرال الطاغية شرِساً في التعامل مع كتاباتي، ومنع مواقع عدة على النت لنشرها مقالات بقلمي، وغضب غضبا شديدا من مقالي ( دماء على أنياب الرئيس التونسي) فاحتج سفيره لدى حكومة دولة خليجية لأنني كنت ضيفا غير مرغوب فيه من السفير رغم أنه هو أيضا .. ضيف!

وكانت صرخات الموجوعين في تونس توقظني على مبعدة آلاف الأميال فكتبت:

وقائع محاكمة الرئيس زين العابدين بن علي

الرئيس التونسي يجدد للشعب ولاية خامسة

الجنرال يعتقل تونس، فمتي يغضب التونسيون؟

التونسيون يتنفسون بأمر الرئيس!

متى ينفد صبر التونسيين من الرئيس؟

الانقلاب العسكري القادم في تونس!

خالص العزاء لشعبنا التونسي .. ربع قرن تحت حذاء الرئيس

 

ومقالات أخرى لا أتذكرها الآن، لهذا كانت فرحتي بانتصار الثورة التونسية العظيمة كبيرة، فرأيت فيها مبارك يتهاوى بعد الجنرال، وشاهدت الطاغية المهرج في ليبيا يسقط بعدهما ..

وأنتظر بصبر نافد شنق بشار الأسد في نفس المكان الذي شهد إعدام إيلي كوهين، فكل واحد منهما آذى الشعب السوري، الأول طاغية سفاح والثاني جاسوس إسرائيلي وصل إلى أن يصبح الرجل المقرّب لقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي.

وأتعجل يوم عيد اليمن السعيد عندما يثأر اليمنيون من جزارهم المعتوه قبل أن يقضي فترة نقاهة في إحدى المستشفيات الأمريكية ثم يعود إلى السعودية ، وينفق من أموال شعبنا اليمني، ويثير بها المتاعب بشراء زعماء القبائل.

 

فخامة الرئيس منصف المرزوقي،

ثقتي كبيرة في أنك الرجل المناسب في المكان المناسب، وأن تونس ستشهد في عهدك ثورة ضد الفساد ، وأخرى من أجل نضالك لثلث عمرك.. أي حقوق المواطن التونسي.

كم تمنيت أن يكون بديلُ طاغيتنا المخلوع في مصر مرزوقاً آخر يحمي الثورة، ويرفع رأس الوطن، ويطلق ابداعات التطور والتنمية والتقدم.

محظوظ شعبنا التونسي بك، فتاريخُك هو أنصع مشهد لمناهضة طاغية عنيد، وعودتك لم تكن سرقة ثورة كما تحاول قوى عدة أن تفعل بالينايريين الأبطال في مصر، لكنها عودة مجاهد تصادم عشرات المرات مع الجنرال السفاح، ودفع ثمنا بعضه في السجن، وبعضه في الغربة.

ومن المطار إلى قلوب التونسيين، ثم إلى صناديق الاقتراع، وأخيرا إلى رئاسة الجمهورية.

أتمنى أن لا يُغيّرك القصر، ولا يختلس المنصبُ من تواضعك، ولا يلتف حولك من ركعوا لبن علي، ولا يتسلق على كتفيك من يتلوّنون في كل العهود، ومع كل زعيم يدخل قرطاج.

لا تترك بن علي في منفاه السعودي يأكل، ويشرب، ويتمتع بمنهوبات شعبنا التونسي، ولكن عليك أن تطارده في المحاكم الدولية، وأن تطلب احياء القضية التي رفعتها محكمة سويسرية ضده، وابعث بجرائمه موثقة لأوكامبو في لاهاي لعله يستطيع أن يستعيده بدلا من سيف الإسلام الليبي، ويسترده عوضاً عن عمر البشير السوداني.

أعود مرة أخرى إلى لقائي الأول بك، واعتزازي بصلابتك، وفخري بمحاضرتك، وسعادتي بإبائك وأنت ترفع رأس العرب كلهم أمام زعماء وعلماء وأدباء وسياسيين.

أغلب الظن أن يوم انتخابك رئيسا لتونس كبر الطاغية بن علي عشر سنوات، وزادت أحزانه أضعافاً مضاعفة.

عاشت تونس، وعاش نضال شعبها العظيم، وعاشت ثورتها التي أشعلت ربيع العرب.

 

محمد عبد المجيد

 طائر الشمال

أوسلو في 29 نوفمبر 2011

Taeralshmal@gmail.com

اجمالي القراءات 11185