خمسُ ساعات مع بعض القوى السياسية التي لا يستطيع عدد منها أن يقوم بزيارة ميدان التحرير، وبعد ذلك وقبله مناقشات مستفيضة بين المشير وأعضاء المجلس، ثم تأتي شفاه المستشارين تهمس في أذنه بالنصائح، والاقتراحات، وتنقل له نبض الشعب، وتــُقـْسـِم له أن غضب الغاضبين سيكون مضاعــَفاً هذه المرّة.
والجنرال يظن أن هويتــَه في هيئتــِه، وأن نيـَتــَه في هيــّبـَتــِه، وأنه لا يقف أمام الجماهير ليــُقـُدِّم كشف حساب، إنما تقف الملايين أمامه لتهتف: تمام يا أفندم.
لا أدري من الذي أوحى للمشير بأن ملايين الشباب ينتظرون طلعته البهية بخوف ووجل شديدين، فإذا تحدث، وهشّ عليهم بعصا المارشالية، عادوا إلى عششهم، وثكناتهم، ومعسكراتهم، بعدما يقومون بتقديم اعتذار لأنهم سهروا حتى الصباح في الميدان دون تصريح من قائد المعسكر!
أغلب الظن أن أقرب المقربين له نــَصــَحه من باب القرابة والدلال أن يعتذر عن سقوط مئات المصابين، وعشرات الشهداء، وأن تقترب الكاميرا من وجهه الأسمر النوبي فنشاهد دموعاً تتساقط فوق الوجه، ثم يُقسم بالله وبالوطن وبضميره العسكري أنه لن يترك القتلة يفقأون عيونا جديدة، فهو لم ينم ليلــَه إلا قليلا، وسيتولى بنفسه التأكد من مثول كل القــَتــَلة أمام محكمة عادلة، وعاجلة لا يترأسها المستشار أحمد رفعت!
وأغلب الظن أيضا أن المشير لم يستوعب حرفا واحداً له علاقة من قريب أو من بعيد بالاعتذار، فمبارك هو الشخص الوحيد الذي اعتذر إليه المشير مئات المرات في عشرين عاما، ولما اِسْتـُدْعِيَ إلى الشهادة كانت أكثر ردوده .. لا أعرف!
ربما اقترب منه مسؤول كبير في جماعة الإخوان المسلمين ليؤكد له أن الجماعة لا تتحدي ولي الأمر، وهدية السماء التي انتظروها ثمانين عاما ستأتيهم في انتخابات هزلية على طبق من ذهب، حتى لو كان الذهب حراماً على ذكورهم، وأن نتيجة صناديق الاقتراع ستحسم زواجاً سعيداً بين المجلس الأعلى والمرشد الأعلى لتولــَد الخلافة من جديد .. من قاهرة المعز والمشير والمرشد!
الجنرالات لا يعتذرون لشاب مصري فقد عيناً في الثورة الأخرى، وفقأ له العينَ الأخرى حيوانٌ هائج قال له رؤساؤه في الداخلية، بأن أوامر رؤسائهم في المجلس العسكري أنهم سيغضمون عيونهم عن كل ما يقوم به ضد الشباب الإسرائيلي المتواجد في ميدان التحرير.
وجاء الحيوان فأقنعوه أن المجرمين بعد غياب مبارك لا تتم معاقبتهم، وأن اخوانه من البلطجية وأصحاب السوابق يمارسون عملهم بكل حرية وأمان في أكثر شوارع مصر وحواريها، وأن زعيمهم يشاهد في مشفاه ثلاثة تلفزيونات مفلطحة في نفس الوقت، والمجلس الأعلى قام بتسليمه صورياً إلى محكمة يعرف رئيسها مسبقا بأن ثلاثين عاماً من انتهاك كرامة المصريين خط أحمرلا ينبغي محاكمة الطاغية عنها، فالشهود لا يعرفون غير ثلاثة أسابيع يستطيع فريد الديب أن يجعل المخلوع وولديه ينسلون منها كما ينسل الفأر بخفة من تحت أقدامنا.
هل رأيت أمريكياً يلعب برشاشه في أجساد الفيتناميين الضعيفة وهم يهربون عراياً في أدغال هانوي؟
ثم يأتي ابنــُه بعد ذلك بثلاثين عاما ليلعب بسلاح حديث فيطلق رشــَّاشه الديجيتالي في النصف الأسفل من سيارات شحن واقفة يختبيء داخلها مئات من الأفغان الخائفين، فيصرع ثلاثمئة منهم دون أن يرف له جفن.
ثم يأتي صديقُ زميلــِه فيمارس نفس اللعبة كأنه أمام بلاي ستيشن خارجة لتوّها من الشركة، فيقتل عدة مئات في ساعة واحدة لعله ينافس يانكياً آخر أوقعه حُسن حظه في لعبة أكبر، فسجنُ أبو غريب سمح له أن يــُجبر العراقيين السجناء على أن يغتصبوا بعضهم البعض أمامه.
وفي مصر العظيمة .. مصر الثورة يتلقى الكلابُ الأوامرَ من أسيادهم بأن يمارسوا نفس اللعبة التي مارسها اليانكي.. صوِّبوا في العيون.. في القلوب.. في الرؤوس، استخدِموا الغازاتِ السامةَ أسّوة بجنود علي عبد الله صالح، اسحبوا جثث شباب مصر إلى أقرب مقلب للقمامة كما يفعل شبيحة الأسد، لا تخشوا المحاكمة والعقوبة والسجن والعزل فمبارك يظللكم بحمايته بفضل ولاء رجاله سواء كان في القصر أو السجن.
الجنرالات لا يعتذرون مثل ديجول وسوار الذهب وبومبيدو، لكن أرواحهم مؤلفة بينهم، جان بيدل بوكاسا، موسوليني، بينوشيه، منجستوهيلامريم، فرانكو، سوموزا، بول بوت، ونا موك ( الذي قتل بمفرده مائة ألف شخص في المعسكر 21 في كمبوديا)،نورييجا في بنما، وبن علي في تونس، سالازار، والجنرال طبيب العيون سفاح الشام، والبشير والنميري في السودان، وجنرالات الجزائر .. وعشرات غيرهم ومعهم العقيد المهرج!
الجنرالات لا يعتذرون فهم لا يُصَدِّقون أن هؤلاء( العيال النواعم) يتحمّلون ساعتين أو خمس ساعات في ميدان التحرير فهم سيعودون إلى بيوتهم مرهــَقين، ومتعجـّلين طعام عشاء ساخن قبل الشات على النت.
الجنرالات لا يعتذرون، فمن يعتذر يقرأ، واليونيفورم والكتاب في العالم العربي شيئان متناقضان، ومن يقرأ يعرف، لكن الثكنة العسكرية تسقط أوتادُها لو عرف الكتابُ طريقــَه إلى الضباط.
منذ عام 1928 والإخوان المسلمون مقتنعون بأنهم على مرمى حجر من اعلان الدولة الدينية الكبرى، وحينئذ سيأتيهم الجن والإنس صاغرين، وجاءت الفرصة فنزلوا بمئات الآلاف ليبعثوا برسالة للمجلس العسكري بأنهم جــُند الله والمرشد الروحي، وانسحبوا قبل التاسعة مساءً، كما هو متفق مسبقا، فيوم النزول كان أيضا تصويتاً قبل الموعد بعشرة أيام.
لكنهم اعتذروا عن نداء الوطن مع مليونية شباب الثورة، فأنْ يتم فقأ عيون كل المصريين فهو أمرٌ لا قيمة له في ميزان الوصولية، والإخوان المسلمون استعرضوا عضلاتهم الميليشية مرة واحدة، فسحبهم العادلي من لحاهم لأن تقسيم الأدوار لا خلاف عليه، أنتم تختبئون خلف الدين، ونحن نلوّح لمنتقدينا بأننا نمثل جيش العبور.
وخسر الإخوان المسلمون ما لا يمكن تعويضه قبل ثمانين عاماً قادمة، ومن لا يفهم حِكمة الله في تدبير شؤون الكون، فليتأمل هذا المشهد.
المشير لم يفهم بعد سبب تواجد ملايين المصريين في الشوارع والميادين متوعدين إياه باللحاق برئيسه السابق.
المشير لا يجد سببا في الاعتذار فالشهداء لم يصل عددهم بعد إلى مئة ألف، والمصابون يحتاجون لعامين من نهش كلاب الأمن أجسادهم حتى يصل العدد إلى مليونين أو أكثر، فلماذا تعاتبونه على عدم اعتذاره.
المشير لم يشر إلى التعجيل في محاكمة المخلوع، أو الوعد باسترداد مليارات من أموال الشعب المنهوبة، أو بسط الأمن على أرض مصر كلها ولو اقتضى الأمر اعتقال كل المجرمين والهاربين من السجون والمسجلين خطراً على الشعب!
الجنرالات لا يعتذرون عن قتل أولادِنا، والمطلوب أن يعتذر المصريون لأنهم عكــَّروا صفوَ هدوءِ المجلس الأعلى، وأزعجوا النسورَ النائمة فوق الأكتاف!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 23 نوفمبر 2011
Taeralshmal@gmail.com