مقدمة : لم أحظ بمعرفة شخصية بالاستاذ الدكتور حسن عبد اللطيف ، وإن كنت أتمناها . وهو يتفضل بإرسال أسئلة أستفيد من الرّد عليها . وتحت عنوان : ( فرض نظرى - لكنه كاشف) أرسل سؤالا مطولا موضحا بوجهة نظره ومغلفا بأدبه الجّم . وقد رددت عليه بوجهة نظرى . وتعميما للفائدة أنشر السؤال كما هو والرد عليه .
( فرض نظرى - لكنه كاشف )
أستاذنا الكريم: أسعد الله أوقاتك وأنعم عليك بالصحةوالحكمة.
نفرض أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبعث فىالقرن السابع الميلادى .. أى أن التاريخ من بعد عيسى ظل بدون أنبياء الى اليوم.. مجرد فرض نظرى. ونفرض أن موعد البعثة الشريفة للنبى الخاتم قد حانفى زمننا هذا، استيقظنا فى أحد الأيام على صوت رجل أمريكى وقور- استاذ فى جامعة جورج تاون الأمريكية (مثلا) - يدعو الناس فى العالم أجمع الى ما دعىاليه محمد صلى الله عليه وسلمبالضبط- أى الى عقيدةالتوحيد. السؤال: هل كان القرآن (المنزل عليه) سيتخذ نفسصورته الحالية ؟هل كان سيحتوى نفس أحكامه الحالية ؟الاجابة المنصفة المتوقعة - هى - لا.هل كان سيحتاج الى مفهوم الجهاد المسلح فى مواجهةجيوش الطغاة ليتمكن من ابلاغ دعوته الى العالم ؟الاجابة هى : بالعكس - فباعتباره أمرا جديدا طريفايشد انتباه الناس فان الفضائيات كانت ستتسابق لاستضافته وعمل الحوارات معه ... فهذارجل مسالم يزعم أنه نبى كموسى وابراهيم السماء تكلمه - شىء مثير جدا لفضولالمشاهدين من العامة والمفكرين ورجال الدين. هذا النبى العابد الزاهد المتبتل المتهجد الخاشع- لا يستفز السلطات فى شىء وليست له شوكة تستدعى النفور من دعوته (سواء كان صادقا أوكاذبا) - وبالتالى كان سيترك حرا يمارس دعوته فى ذلك المجتمع الديمقراطى .. فماحاجته للجهاد ؟.كانت ستعقد معه مناظرات علنية يتوجه اليه فيها كبارالمفكرين والاساتذة (وليس مشركى مكة من الجهلة والعوام) بالأسئلة الصعبة المعجزة عنمغزى نبوته وأدلة صدقه.
ما يهمنى فى هذا الفرض هو صورة القرآن فى تلكالحالة: هل كان سيعتمد على الاعجاز البلاغى فى جذب أنظارالناس ؟ لا. هل كنا سنسمع عن فرض الجزية على النصارى؟لا. هل كان سيطلب هذا النبى الحكم لنفسه ولكبار أتباعهمن بعده ؟ لا .. هذا أمر غير ضرورى - فالهدف منالرسالة - وهو تصحيح العقيدة - تم انجازه فعلا بسهولة ويسر عبر الفضائيات والانترنتوالكتابات والمحاضرات ... فوصلت الدعوة الى كل مكان فى العالم (الذى يفترض خلوه منالعنف والحروب والتخلف والجهل لخلوه من المسلمين الحاليين) - ومع وصول الدعوة الىتلك البقاع يظل الشعار هو ... من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. دونجزية.فهل كان الهدف من الرسالة هو تصحيح العقيدة (من بعدعيسى) فقطأم تصحيح الحكم وأساليبه ليصبح كماارتآه معاوية وولده ومن جاءوا من بعدهم ؟.
تتعالى الصيحات اليوم بأن القرآن ليس صالحا لكلزمان ومكان - وأنه غير عابر للقارات والقرون. ولقد قاومت فى نفسى هذا الكلام لسنوات طويلة- ولكنى بدأت أضعف ... وهذا المثال السابق أحد أسباب ضعفى.بالفعل - لو بعث محمد صلى الله عليه وسلم فينااليوم لكان القرآن مختلفا اختلافا جذريا الا من جوهره النقى الأصلى وهو تصحيح عقيدةالبشر بالتوحيد. لكنه بالقطع لم يكن ليتناول تفصيلات وأنظمة الحياةالمدنية الحديثة المعقدة بالشطب والإلغاء ليحل محلها مجموعة من الكليات والعمومياتالتى ناسبت ظرفا تاريخيا قديما - كان الناس فيه محمولين على الجهاد المسلح لنشركلمة الله. لو كان محمدا فينا اليوم ما وسعه مثلا الا أن يقرالمرأة الحديثة على ما حققته من مكاسب اجتماعية وتاريخية.ولكان قد أبدى اعجابه بما أبدعته قرائح العباقرة منالعلماء والأدباء والفنانين عبر العصور من جلائل الأعمال ولكان أول من يشجع علىالنهوض بالموسيقى السيمفونية - بعد أن ثبت أن لا صلة بينها وبين الفجور الخلقى بلالعكس هو الصحيح، ولما وسعه الا أن يشيد بأهمية بذل الجهود العلميةالمكثفة من أجل تطوير النظم السياسية والاقتصادية ورفع المعاناة عن الشعوب الفقيرةذات البيئات المحرومة من الموارد.كنا سنجد قرآنا - مختلفا اختلافا جذريا عن قرآن كانأشبه شىء برسائل يومية متجددة تعالج مشكلات مستجدة طارئة شديدة المحلية تجابهالمقاتلين فى حياتهم اليومية ومسائل أخرى كأفعال المنافقين من أهل المدينة وماحولها - ونقض اليهود للعهود - وحروب المسلمين مع المشركين - وأحاديث الغنائموالأنفال- وما يتعلق بالحياة الخاصة للنبى وأزواجه ... وغير ذلك من تفصيلات حياتيةمحلية لا شأن للمجتمعات العالمية الحديثة بها الآن - ولذلك فقد كانت رسائل أو آياتينسخ بعضها بعضا .. مع احترامى لرأيك فى قضية النسخ.
وكختام فإننى أتوقف امام الاسئلة الآتية:
هل كانت بعثة النبى الخاتم من أجل تصحيح العقيدة(التى شابها التحريف على ايدى اليهود والنصارى) أم من أجل تعليم الناس شئون دنياهممن أمور الحكم والسياسة والقضاء ؟
هل كانت الأحكام القضائية (الميراث - الطلاق- ... الخ الخ) والأحكام العسكرية (القتال - المعاهدات - الجزية - الولاء والبراء- .... الخ الخ ) وغير ذلك من مما ورد بالقرآن من أحكام - هل كانت كلها أحكامطوارىءمؤقتةتناسب ظروف الجهادالذى كان ضروريا لنشر الدعوة فى العالم أم أنها كانت أحكام سرمدية أبدية عابرةللقارات والقرون؟
استاذى الفاضل
ربما يقول قائل بأن نشر الاسلام بين الناس عمليةلا يكفيها فقط الانترنت أو المقالات أو إذاعة المحاضرات والمناظرات على الفضائيات(خصوصا فى الشعوب البسيطة التى تسودها الحياة البدائية ولا تكترث بالثقافةوالتفكير)وإنما يتطلب الأمر اندماج ومعايشة كاملة لتلك الشعوب فى حياتها اليوميةلاقامة حياة اسلامية كاملة أمامها بحيث تتغلغل تلك العقيدة الجديدة بالتدريج فىدمائها وتبدأ التفكير الجدى فى ترك معتقداتها الوثنية الفاسدة - وهذا لا يتحقق الابالغزو العسكرى الكامل واخضاع تلك الشعوب سياسيا وليس هناك حل آخر.
لكن تبقى تجربة المسيح ماثلة بشدة أمام تلكالفكرة . فتجربة المسيح عالمية - تمت بغصن زيتون- بدون معارك أو سيوف - بل ان اكتساحها للعالم كان أسرع وأوسع - بدون نقطة دم واحدة- فالدماء التى أسيلت كانت دماء تلامذة المسيح أنفسهم الذين بلغوا رسالته فى مختلفبقاع العالم حين قدموا حياتهم فداء لعقيدتهم - فهذه تجربة تاريخية تستحق الوقوفأمامها لندلل بها على عدم حتمية وقوع الفتوحات العسكرية الاسلامية. أتمنى ألا أكون قد أرهقتك وأرجو ألا تكلف نفسكعناء كتابة رد على تلك الرسالة - فأنا يكفينى متابعة كتاباتك على الحوارالمتمدن. والله معك يحفظك ويرعاك).
ثانيا : الإجابة
أهلا استاذ حسن ، وكل عام وأنتم بخير ، وأشكرك على هذا السؤال المتخيّل .
الرد على سؤالك يحتاج مقالا كاملا منى ، كما يحتاج منك الى قراءة (كل ) ما كتبته على موقعنا وليس فقط الحوار المتمدن.ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. فاسمح لى بقول (ملاحظات) سريعة:
1ـ الكتاب السماوى دائما يحتوى على عنصرين : ثابت ( وهو الدعوى للتقوى : إيمان بالاله الواحد وعمل الصالحات من عبادات وغيرها والسمو الخلقى بتزكية النفس )وعنصر متحرك يتفاعل مع القوم الذى نزل فيهم الكتاب . ولقد أشرنا لهذا فى سلسلة ( كتب وكتاب فى القرآن فى إشارة عن (أم الكتاب ). وهى سلسلة لم تكتمل بعد ، ولعلها ستعرض لسؤالك لوسمح الوقت . بالنسبة للكتاب الخاتم ( القرآن ) ففيه العنصران معا ، بل فيه تشريعات خاصة بوقتها لا يمكن تكرارها ( خاصة بالنبى ونسائه ) وفيه تشريعات انتهى عصرها ولا يمكن تطبيقها إلا إذا توفرت نفس ظروفها مثل تشريعات سورة التوبة الخاصة بالنبى والمسلمين حين اعتدى عليهم المشركون بعد فتح مكة سلميا ونقضوا العهود . ولأن القرآن هو الخاتم فإن مصطلحاته ومنهج القصص فيه يعلو فوق الزمان والمكان فلا يقال كفار مكة أو مشركو قريش أو العرب ،بل لم تأت كلمة العربية إلا وصفا للسان . كما إن القصص القرآنى مع وصفه لأحداث حدثت ونزل الوحى يعلق عليها إلا إنه يجردها من أسماء الأشخاص والتاريخ والمكان والزمان ، أى يجردها من أسس الحادثة التاريخية (أبطال وزمان ومكان ) لتصبح عبرة تصلح للوعظ فى كل زمان ومكان. وقد كتبنا فى سلسلة (القضاء ) عن منهج القاضى فى الحكم وسنكتب عن منهج التشريع القرآنى الاسلامى ونوضح فيه قلة التشريعات التفصيلية فى القرآن واعتمادها على قيم عليا وقواعد عامة ومعظم تطبيقها يرجع لضمير الفرد وليس للسلطة الحاكمة ،بل إن تنفيذ العقوبات تلغيه التوبة ..وبالتالى فالمجال الأكبر فى التشريع القرآنى متروك للعرف أو المعروف أو المتعارف على أنه قيم عليا من العدل والحرية والتيسير وتشاور الناس فيما بينهم لسنّ قوانين تحقق لهم تلك القيم العليا .وهو بالضبط ما يحدث فى الغرب الآن ..
2 ـ مبعث الخطأ هو الخلط بين الاسلام والمسلمين وتحميل الاسلام أوزار المسلمين من بيعة السقيفة وهيمنة قريش والأمويين وهم أعدى أعداء الاسلام . وكتبنا فى هذا كثيرا . والجزية فى الاسلام ليست ما فعله العرب الفاتحون تقليدا للبيزنطيين ومتابعة لتشريعاتهم الادارية فى مصر والشام وشمال أفريقيا . ولقد كتبنا فى هذا كثيرا نؤكد أنها غرامة حربية يدفعها المعتدى جزاء إعتدائه على دولة اسلامية أى مسالمة ثم ينهزم ، وعندها فمن العدل أن يدفع غرامة ، وهذا متفق مع ما يحدث فى العالم المتحضر. الواقع إن شريعتهم السنية السلفية تتناقض مع الاسلام فى المقاصد والقواعد والتفصيلات وحتى فى المصطلحات ..ولقد كتبنا فى هذا كثيرا فى موضوع السلام وحرية الفكرو المعتقد والولاء والبراء وحقوق الانسان وحقوق المرأة والأقليات . ومنهجنا مؤسس على المقارنة لاثبات التناقض بين الاسلام وتك الأديان الأرضية خصوصا السنة. وفى موسوعة التصوف التى نرجو نشرها خلال العام القادم سنثبت تناقض الاسلام مع دين التصوف فى عقيدته وشريعته. ولسنا متخصصين فى التشيع بحيث نكتب عنه بنفس التمكن .
3 ـ الواقع التاريخى يؤكد أن من دخل الاسلام بعد الفتوحات من أبناء الأمم المفتوحة هم من أبناء اليهود والنصارى والثقافات الدينية القومية من ايران الى المغرب والاندلس. وأولئك أعادوا إنتاج تقافتهم القومية الدينية من مسيحية ويهودية وزرداشتية ومزدكية وقبطية فى أديان أرضية مختلفة بقى واستمر منها السّنة و التشيع والتصوف. وفيها كلها يتم تقديس وتأليه محمد وبعض الصحابة والأئمة والأولياء . ومن عجب ان خطاب القرآن لأهل الكتاب تستنتج منه أن (أهل الكتاب ) مقصود به أيضا أولئك المسلمون الذين عبدوا محمدا والصحابة والأئمة والأولياء كما فعل من عبد المسيح والحواريين و عزير والأحبار والرهبان.
4 ـ المسيحية انتشرت لأنها خالفت رسالة المسيح ، فقد جاء المسيح برسالة تؤكد أنه (لا اله إلا الله ) فقام بولس بتحريفها لتجعل المسيح الاها . ولأن العوام يستهويهم تقديس الأبطال وعبادة الآلهة المادية فقد انتشرت المسيحية . ونسى الناس رسالة المسيح الحقيقية . وتكرر الأمر مع رسالة محمد . نسى أبناء أهل الكتاب الذين دخلوا فى الاسلام (لا اله إلا الله ) وعبدوا محمدا ،فأصبحوا (أمة محمد ) أو محمديين مثل المسيحيين واليسوعيين . وهم جميعا أغلبية الديانات الأرضية ( المسيحية بكل طوائفها والمحمديون بكل طوائفهم ).
5 ـ حين بدأت اصلاح المسلمين بالاسلام بالرجوع الى القرآن الكريم والاحتكام اليه قوبلت ومن معى باضطهاد من المحمديين لايزال حتى الآن . وهاجرت الى الغرب لأتمتع بقيم الغرب العلمانى المتمسك بقيم الاسلام (وأهمها لا إكراه فى الدين ). وفى اعتقادى وهذا لا أملّ من تكراره ـ إن الدولة الاسلامية الحقيقية توجد فى الغرب ،وأن أقرب تشريعات لشريعة الاسلام هى فى المواثيق الدولية لحقوق الانسان. ونحن ـ كأهل القرآن ـ نجمع بين كوننا نشطاء مدافعين عن الديمقراطية وحقوق الانسان ، وباحثين نكتب فى الاصلاح السلمى من داخل الاسلام ( القرآن ) وبعرض تاريخ المسلمين وتشريعاتهم على القرآن .
6 ـ وهناك حلقات سيتم نشرها فى برنامجنا ( فضح السلفية ) ستكون مختلفة ، ليست محاضرات فى العقائد والتشريعات والتاريخ فى إثبات تناقض السلفية مع الاسلام ، ولكنها سيناريو مكتوب أقرؤه بنفسى ( ولعلك تعرف أننى كاتب سيناريو أيضا ) وعنوان الحلقات ( السلفيون يحاكمون الرسول عليه السلام ) والسيناريو مبنى على إفتراض أن النبى قد بعث من قبره وجاء الى القاهرة ورأى مشهد الحسين وزار الأزهر وأعلن اعتراضه عما يحدث ومخالفة ذلك للاسلام فقبضوا عليه واتهموه بانكار السنة وازدراء الدين . وخلال الاستجواب سيعرض الحوار لكل أو معظم أوجه التناقض بين الاسلام وتشريعات السنية السلفية الوهابية وغيرها. أى هذه الحلقات تم إعدادها لتجيب على سؤالك أخى العزيز .
7 ـ واسمح أن أختلف معك بشدة فى قولك : (لكن تبقى تجربة المسيح ماثلة بشدة أمام تلكالفكرة . فتجربة المسيح عالمية - تمت بغصن زيتون- بدون معارك أو سيوف - بل ان اكتساحها للعالم كان أسرع وأوسع - بدون نقطة دم واحدة- فالدماء التى أسيلت كانت دماء تلامذة المسيح أنفسهم الذين بلغوا رسالته فى مختلفبقاع العالم حين قدموا حياتهم فداء لعقيدتهم - فهذه تجربة تاريخية تستحق الوقوفأمامها لندلل بها على عدم حتمية وقوع الفتوحات العسكرية الاسلامية. ).
وهنا إسمح لى ـ ثانيا ـ بايراد مقدمة كتاب لى لم ينشر بعد ،وهو (بين الاسلام وأديان المسلمين الأرضية : دراسة أصولية تاريخية موجزة ) . قلت فى المقدمة :
( هناك فارق بين المبدأ وتطبيقه ، فمن السهل أن تصدر الأوامر وتوضع الخطط والأفكار ، ولكن تطبيقها يخضع لظروف الزمان والمكان وأهواء الانسان.يسرى هذا على النظريات والأفكار البشرية ، فالشيوعية مثلا اختلفت رؤاها الفكرية بين لينين وتروتسكى ، واختلفت تطبيقاتها مع الأصول الفكرية لما قاله ماركس ، ثم إختلفت تطبيقاتها فيما بين الصين والاتحاد السوفيتى ويوغوسلافيا ورومانيا . الديمقراطية فكرتها واحدة ولكن تختلف تطبيقاتها فى دول أوربا وأمريكا. وحتى مصطلح العلمانية ومدى الفصل بين الدين والدولة لا يخلو من اختلاف نظرى وتطبيقى.هذا على المستوى البشرى الفكرى والعملى التطبيقى. تراه أيضا فى الدين الالهى السماوى وفى الأديان البشرية الأرضية.تراه فى المسيحية التى تتسم بالحب والتسامح والعفو والمغفرة ، ولكن تحت رايتها تمت الكشوف الجغرافية واسترقاق شعوب وابادة بعضها على يد الاسبان أكثر المسيحيين تمسكا بالمسيحية ، ثم سارت بقية شعوب أوربا المسيحية على نفس الطريق فى استعمار واستعباد وقهروسلب واستغلال شعوب العالم .فى كل ذلك التاريخ الدموى لأوربا المسيحية لم يتهم أحد المسيحية بأنها دين الارهاب والابادة الجماعية ، ولم يجعلها احد مسئولة عما فعله المسيحيون الأوربيون. المسيحية لم تتحمل وزر الاستعمار الأوربى والمذابح الغربية بدءا من استعمال السيف والرمح فى العصر الرومانى الى استعمال القنبلة الذرية فى الحرب العالمية الثانية ،والأسلحة المحرمة دوليا فى فيتنام وما بعد فيتنام.المسيحية الأوربية كان أساسها العدوان على الآخر وقهره بدءا من الرومان الى الأسبان ثم الأمريكان ثم الصرب والكروات فى عصرنا الحالى . وهذا التطبيق الأوربى للمسيحية يناقض التطبيق المصرى لها ، فالمسيحية القبطية المصرية تقوم على الصبر على الظلم والاستكانة له دون اللجوء للثورة عليه إلا عندما يبلغ الظلم مداه.
إن التطبيق البشرى لمبادىء المسيحية والاسلام يتشكل تبعا لثقافة كل دولة أو مجتمع ، ولهذا ترى فى المسيحية الأوربية ملامح أوربا ، وترى فى المسيحية المصرية القبطية ملامح الثقافة المصرية الزراعية ، كما يختلف التدين المصرى بالاسلام عن التدين الصحراوى العنيف الذى تجده فى الجزيرة العربية وأفغانستان والجزائر ، كما تجد التدين الايرانى بالاسلام ترديدا للعقائد الفارسية القديمة تحت اسم التشيع.
أى إن ما حدث فى المسيحية من تطبيقات مختلفة حدث مثله مع الاسلام.الفارق الوحيد هنا أنهم برءوا المسيحية من جرائم إرتكبتها الأكثرية من معتنقى المسيحية ، وظلت ترتكبها منذ فجر المسيحية الى منتصف القرن العشرين ، من عصر الرومان الى وقت الصرب والأمريكان ، وفى نفس الوقت جعلوا الاسلام هو المسئول عن ارهاب ارتكبته تنظيمات لا يمكن أن يصل عدد أفرادها بضع مئات الألوف ضمن تعداد للمسلمين يصل الى بليون ونصف البليون من البشر.
هذا الفكر الوهابى هو المسئول عن معظم الجرائم الارهابية ، وقد انتشر بنفوذ الدولة السعودية الراهنة ، ولا يزال يحتمى بسلطانها . هذا الارهاب الوهابى جاء ردا متأخرا على تاريخ لارهاب مستمر مارسه الاستعمار الأوربى المسيحى إمتد قرونا ، كما جاء أيضا نتيجة لاستغلال أمريكى له فى حربها ضد الشيوعية فى أفغانستان. أمريكا المسيحية هى التى تحالفت مع نشطاء هذا الفكر الوهابى واستغلتهم فى أفغانستان ضد نظامها الشيوعى ، ثم إنقلبوا عليها. اى هو استغلال سياسى لفكر وهابى يناقض الاسلام جملة وتفصيلا . ومع ذلك فقد جعلوا الاسلام هو الذى يتحمل وزر ما فعله وما يفعله الارهابيون ومن يحركهم، حيث يطلق عليهم الغربيون و العلمانيون العرب اسم ( الاسلاميون).
لقد قضيت ثلاثين عاما من عمرى أرد على هذه المقولة الخاطئة منهجيا وعلميا . ولهذا فإن من دواعى سرورى ان أحاول تلخيص جهدى فى العقود الثلاثة الماضية فى هذا الكتاب الذى أرجو أن يكون مدخلا مبسطا لفهم التناقض بين الاسلام والمسلمين عامة وبين الاسلام والفكر السنى الوهابى خصوصا.
منهج الكتاب
ولأن جوهر الكتاب يوضح التناقض بين الاسلام والمسلمين وانعكاسات هذا التناقض فيما يخص حقوق الانسان والعلاقة بالآخر ..الخ ، فإن المنهج يقتضى توضيح حقائق الاسلام من خلال القرآن الكريم لتوضيح بعض التناقض بين الاسلام وما فعله المسلمون ، وكيف تم تبرير وتسويغ وتشريع أفعال المسلمين بأحاديث وتأويلات للقرآن الكريم تحول بها الاسلام الى متهم ومسئول عما يرتكبه اولئك المسلمون برغم تناقضه معهم متناقضهم معه. شريعة القرآن قد سبقت عصرها فى تقرير الحرية والديمقراطية وحقوق المرأة وحقوق المواطنة وحقوق الانسان والتسامح ،فتناقضت مع الثقافة السائدة والمتحكمة فى العصور الوسطى فى الشرق المسلم والغرب المسيحى على السواء حيث سادت بينهما وفى داخلهما الحروب الدينية والمحاكمات الدينية والخرافات الدينية والدول الدينية والصراعات المذهبية. ولذا فقد كان حتما تغيير جوهر الاسلام ليتناسب مع ثقافة العصور الوسطى ، وحدث هذا بتحريف معانى القرآن الكريم ومصطلحاته ومفاهيمه واختراع وحى الاهى جديد تحت مسمى الأحاديث المنسوبة للنبى محمد أو لله تعالى أو للأئمة الشيعة أو الصوفية، وبهذا أقام المسلمون لهم بالتزوير أديانا أرضية تتماشى مع المألوف من ثقافة العصور الوسطى وكهنوتها حيث الاستبداد والفساد والاستعباد.
ولقد تحررت أوربا من ثقافة العصور الوسطى وسارت فى طريق الديمقراطية وحقوق الانسان ، وتأثرت بهذه النهضة الأوربية مصر فى مطلع القرن التاسع عشر فحاولت الاصلاح متبعة خطى الغرب ، ولكن برزت قبل ذلك الدعوة الوهابية التى أقامت الدولة السعودية الأولى فى منتصف القرن الثامن عشر فى صحراء نجد فى الجزيرة العربية. ووقع الصدام بين مصر الناهضة وتلك الدولة الوهابية التى تريد إرجاع المسلمين الى ثقافة العصور الوسطى بالدم والتدمير والهدم . وأسفر الصراع عن إسقاط مصر للدولة السعودية الأولى سنة 1818 .وسارت مصر فى طريق نهضتها العلمانية الاصلاحية إلا أن الظروف السياسية والدولية والاقليمية أعادت إقامة الدولة السعودية أخيرا سنة 1932 ، ثم ظهر فيها البترول وتحالفت مع أمريكا ، وبقوة البترول والدولار إنتشرت الوهابية على أنها الاسلام، ودفع الثمن ضحايا بالملايين ، منذ ظهور هذه الدعوة الوهابية الى الآن ، ولكن الاسلام هو أكبر ضحية. وبسبب النفوذ السعودى الوهابى فإن أى مفكر مسلم يتصدى لمناقشة التناقض بين الاسلام والوهابية مصيره الاضطهاد.
والغريب أن القيم العليا للغرب الآن هى نفسها التى جاءت فى القرآن الكريم .لقد قالها الامام المصلح محمد عبده حين زار أوربا وعاش فى فرنسا ، فوجد الحضارة الأوربية وقيمها العليا متفقة مع القيم العليا للاسلام ؛ تلك القيم التى أضاعها معظم المسلمين فى تاريخهم وفى ثقافتهم وسلوكياتهم ، فقال محمد عبده كلمته المشهورة : وجدت اسلاما ولم أجد مسلمين. أى أن قيم الاسلام فى الغرب بينما ( المسلمون ) بعيدون عن جوهر الاسلام وقيمه العليا رغم أنهم من حيث الاسم ( مسلمون )وهى نفس العبارة التى تجول بخاطرى وأنا أعيش لاجئا فى أمريكا متمتعا بحريتى فى الدين والمعتقد بعد اضطهاد دام ربع قرن فى مصر ( كنانة الاسلام ) وبين جنبات الأزهر الذى جعلوه (منارة للاسلام) ، وكان(الاخوان المسلمون) أبرز أعدائى بسبب آرائى وجهدى فى اصلاح المسلمين سلميا بالاسلام . كل هذا الاضطهاد لى ولغيرى من المختلف معهم فى الفكر أو فى المذهب أو فى الدين يخالف الاسلام وقيمه العليا، وهو يتفق تماما مع دينهم الأرضى وهو الوهابية الحنبلية السنية. ومنهجيا وعلميا لا بد من التفرقة بين الاسلام وتلك الملة الوهابية التى أفرزت وتفرز معظم الارهاب الموجود على الساحة فى بلاد العرب والغرب على السواء. وهذا هو منهج هذا الكتاب.
يبدأ الكتاب بتمهيد عن الاسلام و الدولة الاسلامية التى أقامها النبى محمد ، ويبحث الفصل الأول تبديل المسلمين لجوهر الاسلام مع استعمالهم لاسمه فى نفس الوقت ، ثم يتحدث الفصل الثانى عن الدولة الاسلامية العلمانية الديمقراطية وقيمها فى السلام والجهاد والعدل والتسامح وحرية الرأى والفكر والمعتقد وحقوق المرأة والأقليات فيها وتناقض ذلك مع التشريع السنى أصوليا وتاريخيا. ثم يتحدث الفصل الثالث عن تطبيق العقوبات فى الاسلام وتناقضه مع الدين السنى، وذلك بعد دراسة لفلسفة التشريع والعقوبات فى الاسلام .). إنتهى النقل ..
وختاما : أهلا بك وبأسئلتك الكاشفة ، ونتمنى أن تقرأ (كل ) مؤلفاتنا وليس بعضها ـ وهى قد تجاوزت الالف ما بين فتوى ومقال وبحث وكتاب .
خالص مودتى واحترامى .
أحمد صبحى منصور