خلال الأسبوع التالى لمذبحة ماسبيرو (١٠/١٠/٢٠١١)، التى سقط فيها سبعة وعشرون شهيداً من المصريين الأقباط، عُقدت عشرات المؤتمرات والندوات، والمسيرات، والوقفات الاحتجاجية لاستنكار ما حدث، ولتأبين الشُهداء، والغوص للمرة المائة وراء هذه النزعة لاستخدام العُنف ضد الإخوة الأقباط، سواء من مسلمين مُتعصبين، أو من «الأجهزة الأمنية»!
وقد شاركت فى عدد منها، نظمها مركز ابن خلدون، واتحاد المُحامين الليبراليين، ومركز الكلمة، كما شارك فيها بعض أقارب الشُهداء، ونشطاء حقوق الإنسان، والمُحامين المُدعين بالحق المدنى عن أسر الشهداء.
كان لافتاً أن عدداً من نشطاء الجماعة الإسلامية، وتنظيم الجهاد، الذين خرجوا لتوّهم من السجون- حرصوا على المُشاركة فى هذه الاحتجاجات ـ ومنهم على سبيل المثال الشيخ نبيل نعيم، والمُحامى السكندرى صبرة على سعيد صبرة، ومن النشطاء المُحامى محمد مُحيى الدين، من المنصورة، والمحُامى شادى طلعت من اتحاد المُحامين الليبراليين. وكنت قد زاملت بعض هؤلاء فى سجون الاستئناف، وطُرة، والمزرعة (٢٠٠٠-٢٠٠٣).
بل إن اللقاءات العائلية والفنية لم تفلت من مُناقشة نفس الأحداث، ومنها تلك التى دعت إليها الفنانة المسرحية القديرة عايدة عبدالعزيز، وزوجها المُخرج الكبير أحمد عبدالحليم، فى
مزرعتهما بطريق مصر – الإسكندرية الصحراوى، والإعلامية آمال خلوصى.
باختصار، كانت كل شرائح المجتمع مهمومة ومكلومة بما حدث فى ذلك الأحد الدامى، واسترجع العديد منهم، كما استرجعنا نحن السبت الماضى، مُسلسل ما أصبح يُعرف باسم «الفتنة الطائفية»، وهى فى الواقع ليست فتنة يُشارك فيها طرفان،
بل هى اعتداءات مُتكررة على الإخوة الأقباط، أو على كنائسهم ومُمتلكاتهم، التى تجاوزت المائتين خلال الفترة من ١٩٧٢ إلى ٢٠١١- أى من يوم حادث الخانكة، قليوبية، إلى يوم مذبحة ماسبيرو،
ورغم أن تقريراً للجنة تقصى الحقائق، كان قد صدر فى أواخر عام ١٩٧٢، وأوصى بأن يخضع بناء الكنائس لنفس القواعد العامة للبناء التى تسرى على بناء المساجد، وأن يتم إدراج «الحقبة القبطية» (سبعمائة سنة) ضمن مناهج التاريخ التى يدرسها كل التلاميذ المصريين، وأن تشغل نسبة من الأقباط كل المواقع القيادية فى المجتمع والمجالس المُنتخبة، بما يتناسب مع وزنهم العددى فى إجمالى السُكّان.
لكن- وللأسف الشديد- لم يتم تنفيذ أى من التوصيات العشر لتلك اللجنة، التى كان يرأسها المُستشار جمال العُطيفى، وكيل مجلس الشعب حينئذ، ولذلك تكررت أحداث الاحتقانات الطائفية، أكثر من مائتى مرة، خلال الأربعين سنة التالية، ونظن أنها ستستمر فى التكرار، ما دام المسؤولون فى الدولة، ليست لديهم شجاعة اتخاذ القرار.
كان مما قاله الشيخ نبيل نعيم، أحد مؤسسى تنظيم الجهاد، المسؤول عن تجنيد أيمن الظواهرى وإرساله إلى أفغانستان: «ما الذى يُضير ثمانين مليون مسلم فى مصر، إذا بنى أقباط مصر، هم ثمانية ملايين، مائة كنيسة أو حتى ألف كنيسة، كل سنة؟».
وحينما يصدر تصريح شُجاع من هذا القيادى الحركى الإسلامي، بهذا الوضوح، فلا بد أن يستحى المسؤولون فى الحكومة، والأزهر، خاصة وزارتى الداخلية، والأوقاف. فهم ما زالوا على نفس نمطِهم السلوكى بعد كل أزمة طائفية. من ذلك أنهم أنشأوا مجلساً صورياً، سمّوه «بيت العائلة»، ليكون بمثابة سيارة إطفاء «للحرائق الطائفية»، لكن «بيت العائلة» هذا، لم يُطفئ حريقاً واحداً منذ تأسيسه!
ويكفى للدلالة على أنه هيكل عقيم بلا روح، ولا سيقان، ولا أذرع، أن مصر خلال عام ٢٠١١ وحده، شهدت الأحداث الطائفية الكُبرى التالية:
- حادث كنيسة القديسين بالإسكندرية ليلة رأس السنة.
- حادث الاعتداء على كنيسة مار مينا، بمنطقة إمبابة، بمحافظة الجيزة.
- حادث قرية صول، مركز أطفيح، بمحافظة الجيزة.
- حادث هدم كنيسة الماريناب، بمحافظة أسوان.
- مذبحة ماسبيرو بالقاهرة.
والمُلاحظ هنا، أن الضحايا كانوا دائماً أقباطاً، وليسوا مسلمين، وأن المُستهدف كان دائماً كنائس ومؤسسات قبطية، وليس مساجد أو دور عبادة إسلامية.
إن هناك ثقافتين، إحداهما مُنفتحة، وتقبل الآخر، وتحتفى بالتنوع الدينى والفكرى والعرقى، وهى بهذا المعنى طريقة حياة مُتسامحة، وتوفر مناخاً للإبداع، وقد عرفت مصر هذا النوع من الثقافة خلال ما يُسميه المؤرخون العصر الليبرالى، الذى امتد من مُنتصف القرن التاسع عشر إلى مُنتصف القرن العشرين. وهو القرن الذى شهد إنشاء دار الأوبرا،
ومسرح جورج أبيض، وبديعة مصابنى، ونجيب الريحانى، وميلاد السينما المصرية، وظهور أم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، وفريد الأطرش، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس، وأعظم العُلماء العمالقة، من مصطفى مُشرّفة إلى أحمد زويل، وأعظم الشُعراء من أحمد شوقى إلى حافظ إبراهيم إلى صلاح عبدالصبور.
كانت ثورة ١٩١٩ بقيادة سعد زغلول، هى إحدى التجليات السياسية لذلك العصر الليبرالى. وكان تأسيس بنك مصر وقيادته نهضة صناعية هو أحد العناوين الاقتصادية لنفس العصر.
كان الأقباط شُركاء مُكتملين فى كل أوجه تلك النهضة، من ذلك أن مكرم عبيد باشا، وفخرى عبدالنور بك، وهما قبطيان، كانا من أقطاب ثورة ١٩١٩، واستشهد منهم العشرات برصاص الإنجليز، جنباً إلى جنب مع المصريين المسلمين، وكان من مآثر هذه الحقبة الليبرالية، نَيل الاستقلال، ومُمارسة حياة برلمانية، وتعددية حزبية،
وانتخابات دورية، وكان الأقباط فى مُعظمهم يترشّحون فى صفوف حزب الوفد، وكانوا ينجحون فى دوائر انتخابية لا يوجد فيها ناخب قبطى واحد، وذلك لأن الله حبى المصريين فى ذلك «العصر الليبرالى»، «بالعمى الطائفى»، أى أن الناخب لم يكن يسأل عن ديانة أو طائفة المُرشح، ولكن فقط عن حزبه وعن برنامجه.
ورداً على مُحاولات الوقيعة الطائفية، دبج أمير الشُعراء قصائد هزت وجدان مصر، وأصبح أحد أبياتها شعاراً للمُظاهرات الوطنية وهو: «الدين للديّان جل جلاله.. لو شاء ربك وحد الأديان».
أما الثقافة المُضادة، فهى ثقافة الانغلاق والتعصب، ورفض «الآخر»، الذى خلقه الله مُختلفاً، فلا فضل ولا ذنب لأى إنسان فى اختيار نوعه، أو جنسه، أو لونه، أو والديه، أو وطن ميلاده. ومن يُكابر حول هذه الأمور فهو مُتعصب، أو موتور، أو مأجور، فلندع الله أن يقينا شرور التعصب والفتنة، إنه على كل شىء قدير.
وعلى الله قصد السبيل