الإرادة والمشيئة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الإرادة، طلب حصول شيء (ولذلك تكون بمعنى الرغبة أو الميل إلى حدوث شيء)
والمشيئة إيجاد الشيء، فـ «الشيء» بمعنى الموجود، و"شاء" بمعنى أوجد (أي فعله وحققه).
ولأن الإرادة طلب أو رغبة، فإذا ساندها الفعل تتحول إلى مشيئة (إيجاد أو تحقق)
أي أن الإرادة إذا تحققت صارت مشيئة
والله قادر على كُل شيء
ولذلك فبمقدوره أن يُحقق إرادته (طلبه أو رغبته) فتصير مشيئة (وجودا أو فعلا مُحققا)
يقول تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} النحل40
ويقول: {إن ربك فعال لما يريد} هود 107
ولكن الإنسان غير قادر على كُل شيء
ولذلك فقد يُريد الإنسان شيئا ولا يسعي له فلا يصير مشيئة
وكذلك قد يُريد الإنسان شيئا ويسعي له ومع ذلك لا يتحقق أي لا يصير مشيئة (لقصور في سعيه أو لأن الله لم يشأ هذا)
والإرادة تكون عادة للعاقل بمعنى الرغبة في حدوث شيء
وقد تُنسب لغير العاقل بمعنى الميل إلى شيء أو يكون على وشك حدوث شيء له
يقول تعالى: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً }الكهف77
فالجدار هنا يميل إلى التهدم أو هو على وشك التهدم
وكل شيء في هذه الدنيا بمشيئة الله
ولكن الله سُبحانه شاء لنا (أي: أوجد لنا) أن تكون لنا إرادة ومشيئة
يقول تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً }الكهف29
و {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة256
و {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} يونس99
ولكن الله لم يشأ فهل يُمكنك أنت أن تُكرههم على الإيمان؟
ولذلك فقد يُريد (يطلب أو يرغب) الله منا أن نفعل شيئا ولكن لأنه أعطانا حُرية الاختيار فهو لن يشاء هذا الشيء لنا (أي يُجبرنا على فعله)
ولذلك نجد أن الله كذَّب قول المُشركين أن كُفرهم هو بمشيئة الله
آ {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ }الأنعام148
آ {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} النحل35
وفي الآية التالية نرى تضارب إرادة الله وإرادة بعض الناس
آ {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا} النساء 27
فالله يُريد (يطلب أو يرغب) أن نُؤمن كي يتوب علينا
أما الذين يتبعون الشهوات فيُريدون (يطلبون أو يرغبون) أن نكفر فنميل ميلا عظيما
وهنا نجد أن إرادة (رغبة) هؤلاء الناس عكس إرادة (رغبة) الله
فالله يُريد (يرغب) لنا الإيمان (كما في الآية السابقة)
وكما في الآية:{يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} النساء 26
ولكنه لم يشأه لنا (أي لم يُجبرنا عليه) بل ترك هذا لاختيارنا ومشيئتنا
ولذلك قال: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} النحل93
فالله يُريد (يرغب) أن نكون مُهتدين فنكون أمة واحدة ولكنه لم يشأ هذا
فهو يُضل من يشاء الضلال
ويهدي من يشاء الهداية
وهكذا يُمكننا أن نفهم آية مثل: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} الإنسان30
فلا يُمكن أن تكون لنا مشيئة لولا أن الله أعطانا حُرية الاختيار والمشيئة
وبعد أن نختار الهداية والضلال أو نُريدهما علينا بالسعي في هذا السبيل لتكون مشيئتنا
وعندها يتدخل الله (وهذا هو التوكل على الله) فيُساعدنا في مشيئتنا بزيادة الهدى أو الضلال
يقول تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} الكهف13
فهؤلاء الفتية شاءوا الإيمان فأعانهم الله وزادهم هدى
ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} محمد17
ويقول تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} البقرة10
وهؤلاء شاءوا الكفر فزادهم الله كفرا
ويقول تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ }التوبة125
ويقول:
ويقول تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }النساء88
فهؤلاء الكفار سعوا في الضلالة وكسبوها (وهذا اختيارهم ومشيئتهم) فأضلهم الله (أي ساعدهم بزيادة ضلالهم)
ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} الأنعام39
فهؤلاء كذَّبوا بآيات الله واختاروا الصمم والعمى عن آياته، ولذلك كانت مشيئة الله أن يُساعدهم فيما اختاروه، وكذلك شاء أن يُساعد من اختار الصراط المُستقيم
هذا ما أراه والله أعلم