نظرة فى حال المسلمين اليوم بمنظار قرآنى
الجزء الأول
الحياة في جو القرآن لا تعني دراسة القرآن وقراءته والاطلاع على علومه . . إن هذا ليس "جو القرآن" الذي نعنيه . . إن الذي نعنيه بالحياة في جو القرآن:هو أن يعيش الإنسان في جو وفي ظروف وفي معاناة وفي صراع وفي اهتمامات . . كالتي كان يتنزل فيها هذا القرآن . . أن يعيش الإنسان في مواجهةهذه الجاهلية التي تعم وجه الأرض اليوم وفي قلبه وفي همه وفي حركته أن "ينشى ء" الإسلام في نفسه وفي نفوس الناس وفي حياته وفي حياة الناس مرة أخرى في مواجهة هذه الجاهلية . بكل تصوراتها وكل اهتماماتها وكل تقاليدها وكل واقعها العملي وكل ضغطها كذلك عليه وحربها له ومناهضتها لعقيدتها الربانية ومنهجه الرباني وكل استجاباتها كذلك لهذا المنهج ولهذه العقيدة.
هذا هو الجو القرآني الذي يمكن أن يعيش فيه الإنسان فيتذوق هذا القرآن . . فهو في مثل هذا الجو نزل وفي مثل هذا الخضم عمل . . والذين لا يعيشون في مثل هذا الجو معزولون عن القرآن مهما استغرقوا في دراسته وقراءته والاطلاع على علومه.
دعنا نعيش مع حالة المسلمين اليوم بمنظار قرآنى حتى يتسنى لنا معرفة أسباب الجاهلية التى تعم وجه الأرض اليوم ولنجعل القرآن الكريم حكما على هذه الأمة المسلمة التى تعيش فى وسط جاهلية القرن الواحد والعشرين.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 27-6:25
أيها الأخوة والأخوات، قبل الدخول فى التفاصيل، أود أن اشير إلى نقطة هامة فى " ومنهم من يستمع إليك" فهذه الجملة القصيرة فيها حقيقة قرآنية متعلقة بالإيمان: لماذا الله إستخدم كلمة " يستمع " أو بمعنى آخر أنه سبحانه يشير إلى حاسة مهمة فى حياة الإنسان وهى حاسة السمع.
إن أول حاسة تنشأ في الإنسان هي حاسة السمع ، أما حاسة البصر فتكون بعد الولادة ، لذلك أكثر الآيات القرآنية التي ورد فيها السمع والبصر جاء السمع مقدماً على البصر ، إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى يشق سمع الإنسان قبل أن يتكون بصره، لذلك الاستماع هي الملكة الأولى في نقل الواقع إلى الإنسان ، أنت ما الذي تراه في بيتك ؟ في الغرفة التي أنت فيها تقف حاسة البصر عند الجدران ، لكن أحياناً تقول : أسمع صوتاً غريباً ، لكن الأذن تستطيع أن تكشف أية حركة في البيت ، بل في كل غرف البيت. عودة إلى السياق...
يمضي السياق يصور حال فريق من المشركين ويقرر مصيرهم في مشهد من مشاهد القيامة . . يصور حالهم وهم يستمعون القرآن معطلي الإدراك معاندين مكابرين يجادلون رسول اللهعليه السلاموهم على هذا النحو من العناد ويدَّعون على هذا القرآن الكريم أنه أساطير الأولين وينأون عن سماعه وينهون غيرهم عنه أيضا . . يصور حالهم هكذا في الدنيا في صفحة وفي الصفحة الأخرى يرسم لهم مشهدا كئيبا وهم موقوفون على النار محبوسون عليها وهي تواجههم بهول المصير وهم يتهافتون متخاذلين متحسرين يتمنون لو يردون إلى الدنيا فيكون لهم موقف غير ذلك الموقف الذي انتهى بهم إلى هذا المصير . فيردون عن هذا التمني بالتصغير والتحقير.
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (6:28
بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون . . إنهما صفحتان متقابلتان:
صفحة في الدنيا يرتسم فيها العناد والإعراض وصفحة في الآخرة يرتسم فيها الندم والحسرة . .يرسمها السياق القرآني ويعرضهما هذا العرض المؤثر الموحي لعل الركام الذي ران عليها يتساقط ولعل مغاليقها الصلدة تتفتح ولعلها تفيء إلى تدبر هذا القرآن قبل فوات الأوان.
فلنقرأ هذا النص القرآنى بشيئ من التدبر...وننظر فى حال المسلمين اليوم بمنظار قرآنى:
(ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها)
والأكنة:الأغلفة التي تحول دون أن تتفتح هذه القلوب فتفقه ، والوقر:الصمم الذي يحول دون هذه الآذان أن تؤدي وظيفتها فتسمع.
وهذه النماذج البشرية التي تستمع ولكنها لا تفقه كأن ليس لها قلوب تدرك وكأن ليس لها آذان تسمع . . نماذج تتكرر في البشرية في كل جيل وفي كل زمان وفي كل مكان . . إنهم أناسي من بني آدم . . ولكنهم يسمعون القول وكأنهم لا يسمعونه . كأن آذانهم صماء لا تؤدي وظيفتها . وكأن إدراكهم في غلاف لا تنفذ إليه مدلولات ما سمعته الآذان.
فإذا جاء شخص يؤمن بالله وآياته ليذكرهم بآيات الله الكريمات، لا يكتفوا بأن ينهون عنه وينأون عنه، أنظر ماذا يقول رب العباد الذى يعلم ما فى الصدور:
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَٰلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 22:72
وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها . حتى إذا جاؤوك يجادلونك . يقول الذين كفروا:إن هذا إلا أساطير الأولين..
فأعينهم ترى كذلك ولكن كأنها لا تبصر أ و كأن ما تبصره لا يصل إلى قلوبهم وعقولهم.
فما الذي أصاب القوم يا ترى ؟ ما الذي يحول بينهم وبين التلقي والاستجابة . بينما لهم آذان ولهم عيون ولهم عقول ؟ يقول الله سبحانه:
( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا . وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها)
وهذا يعبر عن قضاء الله فيهم بألا يتلقى إدراكهم هذا الحق ولا يفقهه وبألا تؤدي أسماعهم وظيفتها فتنقل إلى إدراكهم ما تسمع من هذا الحق فتستجيب له مهما يروا من دلائل الهدى وموحيات الإيمان.غير أنه يبقى أن نلتمس سنة الله في هذا القضاء . . إنه سبحانه يقول: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)
ويقول:(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها). . إن الله سبحانه يهدي من يجاهد ليبلغ الهدى وأن يفلح من يزكي نفسه ويطهرها . . فأما هؤلاء فلم يتوجهوا إلى الهدى ليهديهم الله ولم يحاولوا أن يستخدموا أجهزة الاستقبال الفطرية في كيانهم فيُيسر الله لهم الاستجابة . . هؤلاء عطلوا أجهزتهم الفطرية ابتداء فجعل الله بينهم وبين الهدى حجابا وجرى قضاؤه فيهم بهذا الذي جرى جزاء على فعلهم الأول ونيتهم الأولى . . وكل شيء إنما يكون بأمر الله . ومن أمر الله أن يهدي من يجاهد وأن يفلح من يتزكى ولكنهم فضلوا إتباع ما أنزل الله به من سلطان وبلا من الجهاد فى سبيل الله غيروا ما أمر به سبحانه وإتبعوا أهواؤهم وغرتهم الحياة الدنيا ويقولون إتباع الحق هو إتباع السلف، وبذلك أهملوا الخلف وعطلوا العقول وكفروا من ينادى بلا إلاه إلا الله بدون شريك.
ومن أمر الله أن يجعل على قلوب المعرضين أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها. والذين يحيلون ضلالهم وشركهم وخطاياهم على إرادة الله بهم وعلى قضائه فيهم إنما يغالطون في هذه الإحالة . والله سبحانه يجبهم بالحق وهو يحكي أقوالهم في هذا الشأن ويسفهها:(وقال الذين أشركوا:لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء . كذلك فعل الذين من قبلهم . فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ؟ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا:أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين). . فدل هذا على إنكار الله عليهم قولهم وعلى أن الضلالة إنما حقت عليهم بعد إنذارهم بفعلهم.
والذين أثاروا قضايا القضاء والقدر والجبر والاختيار وإرادة العبد وكسبه . . ليجعلوا منها مباحث لاهوتية تخضع لما تتصوره عقولهم من فروض وتقديرات إنما يجانبون منهج القرآن في عرض هذه القضية في صورتها الواقعية التقريرية البسيطة التي تقرر أن كل شيء إنما يكون بقدر من الله وأن اتجاه الإنسان على هذا النحو أو ذاك داخل في حدود فطرته التي خلقه الله عليها والتي جرى بها قدر الله فكانت على ما كانت عليه وأن اتجاهه على هذا النحو أو ذاك تترتب عليه نتائج وآثار في الدنيا والآخرة يجري بها قدر الله أيضا فتكون . . وبهذا يكون مرجع الأمر كله إلى قدر الله . . ولكن على النحو الذي يرتب على إرادة الإنسان الموهوبة له ما يوقعه قدر الله به وليس وراء هذا التقرير إلا الجدل الذي ينتهي إلى المراء.
والمشركون فى كل زمان ومكان، كانت معروضة عليهم أمارات الهدى ودلائل الحق وموحيات الإيمان في هذا القرآن الذي يلفتهم إلى آيات الله في الأنفس والآفاق وهي وحدها كانت كفيلة - لو اتجهت إليها قلوبهم - أن توقع على أوتار هذه القلوب وأن تهز فيها المدارك فتوقظها وتحييها لتتلقى وتستجيب . . إلا أنهم هم لم يجاهدوا ليهتدوا بل عطلوا فطرتهم وحوافزها وفضلوا ما ألفينا عليه آبائنا، فجعل الله بينهم وبين موحيات الهدى حجابا. أليس هذا بحال المسلمين اليوم على أرض الواقع.. سبحان الله يعلم ما يسرون وما يعلنون.
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (6:27
وإمعانا في صرف الناس عن الاستماع لهذا القرآن وتثبيت هذه الفرية . . فرية أن هذا القرآن إن هو إلا أساطير الأولين . . كان مالك بن النضر وهو يحفظ أساطير فارسية عن رستم واسفنديار من أبطال الفرس الأسطوريين يجلس مجلسا قريبا من رسول الله وهو يتلو القرآن . فيقول للناس:إن كان محمد يقص عليكم أساطير الأولين فعندي أحسن منها ! ثم يروح يقص عليهم مما عنده من الأساطير ليصرفهم عن الاستماع إلى القرآن الكريم. ولقد كانوا كذلك ينهون الناس عن الاستماع إليه - وهم كبراؤهم - وينأون هم عن الاستماع خشية التأثر والاستجابة.
تقول لهم القرآن الكريم يقولون أحاديث، تقول لهم سنة الله يقولون سنة الرسول، تقول لهم لا تتفرقوا فى الدين لأنه من يفرق فى الدين فهو مشرك بنص القرآن يقولون سنة وشيعة ومالكى وحنفى ...الخ.
(وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون)
لقد كانوا على يقين من أنه ليس أساطير الأولين . وأن مواجهته بأساطير الأولين لا تجدي لو ترك الناس يسمعون وكان كبراء قريش يخافون على أنفسهم من تأثير هذا القرآن فيها كما يخافون على أتباعهم . فلم يكن يكفي إذن في المعركة بين الحق النفاذ بسلطانه القوي والباطل الواهن المتداعي أن يجلس النضر بن الحارث يروي للناس أساطير الأولين . ومن ثم كانوا ينهون أتباعهم أن يستمعوا لهذا القرآن كما كانوا هم أنفسهم ينأون بأنفسهم - خوفا عليها أن تتأثر وتستجيب - وحكاية الأخنس بن شريق وأبي سفيان بن حرب وعمرو بن هشام وهم يقاومون جاذبية القرآن التي تشدهم شدا إلى التسمع في خفية لهذا القرآن.
وهذا الجهد كله الذي كانوا يبذلونه ليمنعوا أنفسهم ويمنعوا غيرهم من الاستماع لهذا القرآن ومن التأثر به والاستجابة له . . هذا الجهد كله إنما كانوا يبذلونه في الحقيقة لإهلاك أنفسهم - كما يقرر الله سبحانه: (وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون).
وهل يهلك إلا نفسه من يجاهد نفسه ويجاهد غيره دون الهدى والصلاح والنجاة في الدنيا والآخرة ؟
إنهم مساكين أولئك الذين يجعلون همهم كله في الحيلولة بين أنفسهم والناس معهم وبين هدى الله ! مساكين ! ولو تبدوا في ثياب الجبابرة وزي الطواغيت ! مساكين فهم لا يهلكون إلا أنفسهم في الدنيا والآخرة . وإن بدا لهم حينا من الدهر وبدا للمخدوعين بالزبد أنهم رابحون مفلحون.
فلننظر في الصفحة الأخرى المواجهة للصفحة الأولى..
(ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا:يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين)
إنه المشهد المقابل لمشهدهم في الدنيا . . مشهد الندامة والخزي والحسرة . في مقابل مشهد الإعراض والجدال والنهي والنأي.
(ولو ترى إذ وقفوا على النار)
لو ترى ذلك المشهد ، لو تراهم وقد حبسوا على النار لا يملكون الإعراض والتولي ، ولا يملكون الجدل والمغالطة.
ما أشبه اليوم بالبارحة، وما زالت الأكنة والوقر نشاهدها كل يوم، فنحن نقول لا إلآه إلا الله وحده لا شريك له وهم يقولون كفرتم، بماذا أيها السادة الأكابر، بماذا كفرنا، اقول لكم كفرنا بالروايات والخداع والكذب على الله ورسوله، كفرنا بما تتبعونه من دون الله وكتابه الكريم ورسوله الذى على خلق عظيم. إتعظوا يا أولى الأباب.
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ." سورة الجاثية الآيات 9-6
أعداء الله وكتابه ورسوله هم شياطين الإنس والجن:
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112
وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113
كذلك . . كالذي قدرناه من أن أولئك المشركين الذين يعلِّقون إيمانهم بمجيء الخوارق ويعرضون عن دلائل الهدى وموحياته في الكون والنفس لا يقع منهم الإيمان ولو جاءتهم كل آية . . كذلك الذي قدرناه في شأن هؤلاء قدرنا أن يكون لكل نبي عدوهم شياطين الإنس والجن . وقدرنا أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليخدعوهم به ويغروهم بحرب الرسل وحرب الهدى . وقدرنا أن تصغي إلى هذا الزخرف أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ويرضوه ويقترفوا ما يقترفونه من العداوة للرسل وللحق ومن الضلال والفساد في الأرض.
كل ذلك إنما جرى بقدر الله وفق مشيئته . ولو شاء ربك ما فعلوه . ولمضت مشيئته بغير هذا كله ولجرى قدره بغيرهذا الذي كان . فليس شيء من هذا كله بالمصادفة . وليس شيء من هذا كله بسلطان من البشر .
فإذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض من المعركة الناشبة التي لا تهدأ بين الرسل والحق الذي معهم وبين شياطين الإنس والجن وباطلهم وزخرفهم وغرورهم . . إذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض إنما يجري بمشيئة الله ويتحقق بقدر الله فإن المسلم ينبغي أن يتجه إذن إلى تدبر حكمة الله من وراء ما يجري في الأرض بعد أن يدرك طبيعة هذا الذي يجري والقدرة التي وراءه.
(وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً)
بإرادتنا وتقديرنا جعلنا لكل نبي عدوا . . هذا العدو هو شياطين الإنس والجن . . والشيطنة وهي التمرد والغواية والتمحض للشر صفة تلحق الإنس كما تلحق الجن . وكما أن الذي يتمرد من الجن ويتمحض للشر والغواية يسمى شيطاناً فكذلك الذي يتمرد من الإنس ويتمحض للشر والغواية . . وقد يوصف بهذه الصفة الحيوان أيضا إذا شرس وتمرد واستشرى أذاه .
هؤلاء الشياطين - من الإنس والجن - الذين قدر الله أن يكونوا عدوا لكل نبي يخدع بعضهم بعضا بالقول المزخرف الذي يوحيه بعضهم إلى بعض - ومن معاني الوحي التأثير الداخلي الذي ينتقل به الأثر من كائن إلى كائن آخر - ويغر بعضهم بعضا ويحرض بعضهم بعضاً على التمرد والغواية والشر والمعصية.
وشياطين الإنس أمرهم معروف ومشهود لنا في هذه الأرض ونماذجهم ونماذج عدائهم لكل نبي وللحق الذي معه وللمؤمنين به معروفة يمكن أن يراها الناس في كل زمان.
فأما شياطين الجن - والجن كله - فهم غيب من غيب الله لا نعرف عنه إلا ما يخبرنا به من عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو . . ومن ناحية مبدأ وجود خلائق أخرى في هذا الكون غير الإنسان وغير الأنواع والأجناس المعروفة في الأرض من الأحياء . . نقول من ناحية المبدأ ونحن نؤمن بقول الله عنها ونصدق بخبره في الحدود التي قررها . فأما أولئك الذين يتترسون "بالعلم" لينكروا ما يقرره الله في هذا الشأن فلا ندري علام يرتكنون ؟
إن علمهم البشري لا يزعم أنه أحاط بكل أجناس الأحياء في هذا الكوكب الأرضي . كما أن علمهم هذا لا "يعلم" ماذا في الأجرام الأخرى . وكل ما يمكن أن "يفترضه" أن نوع الحياة الموجودة في الأرض يمكن أولا أن يوجد في بعض الكواكب والنجوم . . وهذا لا يمكن أن ينفي - حتى لو تأكدت الفروض - أن أنواعا أخرى من الحياة وأجناساً أخرى من الأحياء يمكن أن تعمر جوانب أخرى في الكون لا يعلم هذا "العلم" عنها شيئاً ! فمن التحكم والتبجح أن ينفي أحد باسم "العلم" وجود هذه العوالم الحية الأخرى.
وأما من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن والذي يتشيطن بعضه ويتمحض للشر والغواية - كإبليس وذريته - كما يتشيطن بعض الإنس . . من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن نحن لا نعلم عنه إلا ما جاءنا الخبر الصادق به عن الله سبحانه .
ونحن نعرف أن هذا الخلق مخلوق من مارج من نار . وأنه مزود بالقدرة على الحياة في الأرض وفي خارج الأرض أيضاَ . وأنه يملك الحركة في هذه المجالات باسرع مما يملك البشر . وأن منه الصالحين المؤمنين ومنه الشياطين المتمردين . وأنه يرى بني آدم وبنو آدم لا يرونه - في هيئته الأصلية - وكم من خلائق ترى الإنسان ولا يراها الإنسان ! وأن الشياطين منه مسلطون على بني الإنسان يغوونهم ويضلونهم وهم قادرون على الوسوسة لهم والإيحاء بطريقة لا نعلمها . وأن هؤلاء الشياطين لا سلطان لهم على المؤمنين الذاكرين . وأن الشيطان مع المؤمن إذا ذكر الله خنس وتوارى وإذا غفل برز فوسوس له ! وأن المؤمن اقوى بالذكر من كيد الشيطان الضعيف وأن عالم الجن يحشر مع عالم الإنس ويحاسب ويجازى بالجنة وبالنار كالجنس الإنساني . وأن الجن حين يقاسون إلى الملائكة يبدون خلقاً ضعيفاً لا حول له ولا قوة.
وفي هذه الآية نعرف أن الله سبحانه قد جعل لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن.
ولقد كان الله - سبحانه - قادراً - لو شاء - ألا يفعلوا شيئاً من هذا . . ألا يتمردوا وألا يتمحضوا للشر وألا يعادوا الأنبياء وألا يؤذوا المؤمنين وألا يضلوا الناس عن سبيل الله . . كان الله سبحانه قادراً أن يقهرهم قهراً على الهدى أو أن يهديهم لو توجهوا للهدى أو أن يعجزهم عن التصدي للأنبياء والحق والمؤمنين به . . ولكنه سبحانه ترك لهم هذا القدر من الاختيار . وأذن لهم أن تمتد أيديهم بالأذى لأولياء الله - بالقدر الذي تقضي به مشيئته ويجري به قدره - وقدَّر أن يبتلي أولياءه بأذى أعدائه كما يبتلي أعداءه بهذا القدر من الاختيار والقدرة الذي أعطاهم إياه . فما يملك هؤلاء أن يوقعوا بأولياء الله من الأذى إلا ما قدره الله.
(ولو شاء الله ما فعلوه)
فما هى الخلاصة من هذه التقريرات؟
أولا:أن الذين يقفون بالعداوة لكل نبي ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء . . هم "شياطين" ! . شياطين من الإنس ومن الجن . . وأنهم يؤدون جميعاً - شياطين الإنس والجن - وظيفة واحدة ! وأن بعضهم يخدع بعضاً ويضله كذلك مع قيامهم جميعاً بوظيفة التمرد والغواية وعداء أولياء الله.
ثانياً:أن هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئاً من هذا كله ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء وإيذاء أتباعهم بقدرة ذاتية فيهم . إنما هم في قبضة الله . وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده من تمحيص هؤلاء الأولياء وتطهير قلوبهم وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء . فإذا اجتازوا الامتحان بقوة كف الله عنهم الابتلاء . وكف عنهم هؤلاء الأعداء . وعجز هؤلاء الأعداء أن يمدوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدر الله . ونال أعداء الله بالضعف والخذلان وبأوزارهم كاملة يحملونها على ظهورهم.
(ولو شاء الله ما فعلوه)
ثالثا:أن حكمة الله الخالصة هي التي اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا - فهو إنما يبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة - وأن يدعهم يؤذون أولياءه فترة من الزمان - فهو إنما يبتلي أولياءه كذلك لينظر:أيصبرون ؟ أيثبتون على ما معهم من الحق بينما الباطل ينتفش عليهم ويستطيل ؟ أيخلصون من حظ أنفسهم في أنفسهم ويبيعونها بيعة واحدة لله على السراء وعلى الضراء سواء . وإلا فقد كان الله قادراً على ألا يكون شيء من هذا الذي كان.
رابعاً:هو أن الشياطين من الإنس والجن وهو أن كيدهم وأذاهم . فما يستطيعون بقوة ذاتية لهم وما يملكون أن يتجاوزوا ما أذن الله به على أيديهم . . والمؤمن الذي يعلم أن ربه هو الذي يقدر وهو الذي يأذن أن يستهين بأعدائه من الشياطين مهما تبلغ قوتهم الظاهرة وسلطانهم المدّعى . ومن هنا هذا التوجيه العلوي لرسول الله الكريم.
(فذرهم وما يفترون)
دعهم وافتراءهم . فأنا من ورائهم قادر على أخذهم مدخر لهم جزاءهم.
وهناك حكمة أخرى غير ابتلاء الشياطي وابتلاء المؤمنين . . لقد قدر الله أن يكون هذا العداء وأن يكون هذا الايحاء وأن يكون هذا الغرور بالقول والخداع . . لحكمة أخرى... أنظر قول الله سبحانه:
ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون)أي لتستمع إلى ذلك الخداع والإيحاء قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة . . فهؤلاء يحصرون همهم كله في الدنيا . وهم يرون الشياطين في هذه الدنيا يقفون بالمرصاد لكل نبي وينالون بالأذى أتباع كل نبي ويزين بعضهم لبعض القول والفعل فيخضعون للشياطين معجبين بزخرفهم الباطل معجبين بسلطانهم الخادع . ثم يكسبون ما يكسبون من الإثم والشر والمعصية والفساد . في ظل ذلك الإيحاء وبسبب هذا الإصغاء..
وهذا أمر أراده الله كذلك وجرى به قدره . لما وراءه من التمحيص والتجربة . ولما فيه من إعطاء كل أحد فرصته ليعمل لما هو ميسر له ويستحق جزاءه بالعدل والقسطاس.
ثم لتصلح الحياة بالدفع ويتميز الحق بالمفاصلة ويتمحض الخير بالصبر ويحمل الشياطين أوزارهم كاملة يوم القيامة . . وليجري الأمر كله وفق مشيئة الله . . أمر أعدائه وأمر أوليائه على السواء . . إنها مشيئة الله والله يفعل ما يشاء.
إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون . . شياطين الإنس والجن . . تتجمع في تعاون وتناسق لإمضاء خطة مقررة . . هي عداء الحق الممثل في رسالات الأنبياء وحربه . . خطة مقررة فيها وسائلها . . (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً). . يمد بعضهم بعضاً بوسائل الخداع والغواية وفي الوقت ذاته يغوي بعضهم بعضا ! وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمع للشر في حرب الحق وأهله . . إن الشياطين يتعاونون فيما بينهم ويعين بعضهم بعضاً على الضلال أيضاً ! إنهم لا يهدون بعضهم البعض إلى الحق أبداً . ولكن يزين بعضهم لبعض عداء الحق وحربه والمضي في المعركة معه طويلاً.
ولكن هذا الكيد كله ليس طليقاً . . إنه محاط به بمشيئة الله وقدره . . لا يقدر الشياطين على شيء منه إلا بالقدر الذي يشاؤه الله وينفذه بقدره . ومن هنا يبدو هذا الكيد - على ضخامته وتجمع قوى الشر العالمية كلها عليه - مقيداً مغلولاً. إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط . ولا يصيب من يشاء بلا معقب ولا مراجع - كما يحب الطغاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر ليعلقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم . . كلا ! إن إرادتهم مقيدة بمشيئة الله . وقدرتهم محدودة بقدر الله . وما يضرون أولياء الله بشيء إلا بما أراده الله - في حدود الابتلاء - ومرد الأمر كله إلى الله.
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (6:114
إنه سؤال على لسان رسول الله للاستنكار . استنكار أن يبتغي حكما غير الله في شأن من الشؤون على الاطلاق . وتقرير لجهة الحاكمية في الأمر كله وإفرادها بهذا الحق الذي لا جدال فيه . ونفي أن يكون هناك أحد غير الله يجوز أن يتجه إليه طالباً حكمه في أمر الحياة كله.
أفغير الله أبتغي حكماً ؟
ثم . . تفصيل لهذا الإنكار وللملابسات التي تجعل تحكيم غير الله شيئاً مستنكراً غريباً . . إن الله لم يترك شيئاً غامضاً ولم يجعل العباد محتاجين إلى مصدر آخر يحكمونه في ما يعرض لهم من مشكلات الحياة.
( وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا)
لقد نزل هذا الكتاب ليحكم بالعدل بين الناس فيما اختلفوا فيه ولتتمثل فيه حاكمية الله وألوهيته . ثم لقد نزل هذا الكتاب مفصلاً محتوياً على المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحياة جملة . كما أنه تضمن أحكاماً تفصيلية في المسائل التي يريد الله تثبيتها في المجتمع الإنساني مهما اختلفت مستوياته الاقتصادية والعلمية والواقعية جملة وبهذا وذلك كان في هذا الكتاب غناء عن تحكيم غير الله في شأن من شؤون الحياة . . هذا ما يقرره الله - سبحانه - عن كتابه . فمن شاء أن يقول:إن البشرية في طور من أطوارها لا تجد في هذا الكتاب حاجتها فليقل . . ولكن ليقل معه . . إنه - والعياذ بالله - كافر بهذا الدين مكذب بقول رب العالمين.
أليس هذا هو حال المسلمين اليوم، تقول لهم عودوا إلى كتاب الله وهم يقولون سنة وأحاديث وروايات وأكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان، أتقولون على الله ما لا تعلمون.
وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا * فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّىٰ عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ." 53:28
ويمضي السياق في هذا الاتجاه يقرر أن كلمة الله الفاصلة قد تمت وأنه لا مبدل لها بفعل الخلق بالغاً ما بلغ كيدهم.
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6:115
لقد تمت كلمة الله - سبحانه - صدقاً - فيما قال وقرر - وعدلاً - فيما شرع وحكم - فلم يبق بعد ذلك قول لقائل في عقيدة أو تصور أو أصل أو مبدأ أو قيمة أو ميزان . ولم يبق بعد ذلك قول لقائل في شريعة أو حكم او عادة أو تقليد . . ولا معقب لحكمه ولا مجير عليه.
وإلى جانب تقرير أن "الحق" هو ما تضمنه الكتاب الذي أنزله الله يقرر أن ما يقرره البشر وما يرونه إن هو إلا اتباع الظن الذي لا يقين فيه واتباعه لا ينتهي إلا الى الضلال . وأن البشر لا يقولون الحق ولا يشيرون به إلا إذا أخذوه من ذلك المصدر الوحيد المستيقن ويحذر الرسول أن يطيع الناس في شيء يشيرون به عليه من عند أنفسهم مهما بلغت كثرتهم فالجاهلية هي الجاهلية مهما كثر أتباعها الضالون. هذه هى الجاهلية التى يعيشها المسلمون اليوم ولا يزالون يكابرون ويكفرون كل من قال لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له.
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116
ولقد كان أكثر من في الأرض - كما هو الحال اليوم بالضبط - من أهل الجاهلية . . لم يكونوا يجعلون الله هو الحكم في أمرهم كله ولم يكونوا يجعلون شريعة الله التي في كتابه هي قانونهم كله . ولم يكونوا يستمدون تصوراتهم وأفكارهم ومناهج تفكيرهم ومناهج حياتهم من هدى الله وتوجيهه . . ومن ثم كانوا - كما هو الحال اليوم - في ضلالة الجاهلية لا يملكون أن يشيروا برأي ولا بقول ولا بحكم يستند على الحق ويستمد منه ولا يقودون من يطيعهم ويتبعهم إلا الى الضلال . . كانوا - كما هم اليوم - يتركون العلم المستيقن ويتبعون الظن والحدس . . والظن والحدس لا ينتهيان إلا الى الضلال . . وكذلك حذر الله رسوله من طاعتهم واتباعهم كي لا يضلوا عن سبيل الله . .
والله - سبحانه - يقررأنه هو - وحده - صاحب الحق في وضع هذا الميزان . وصاحب الحق في وزن الناس به وتقرير من هو المهتدي ومن هو الضال.
إنه ليس "المجتمع" هو الذي يصدر هذه الأحكام وفق اصطلاحاته المتقلبة . . ليس المجتمع الذي تتغير أشكاله ومقوماته المادية فتتغير قيمه وأحكامه . . حيث تكون قيم وأخلاق للمجتمع الزراعي وقيم وأخلاق أخرى للمجتمع الصناعي . وحيث تكون هناك قيم وأخلاق للمجتمع الرأسمالي وقيم وأخلاق أخرى للمجتمع الاشتراكي أو .. الخ. ثم تختلف موازين الناس وموازين الأعمال وفق مصطلح هذه المجتمعات.
الإسلام لا يعرف هذا الأصل ولا يقره . . الإسلام يُعين قيماً ذاتية له يقررها الله - سبحانه - وهذه القيم تثبت مع تغير "أشكال" المجتمعات . . والمجتمع الذي يخرج عليها له اسمه في الاصطلاح الإسلامي . . إنه مجتمع غير إسلامي . . مجتمع جاهلي . . مجتمع مشرك بالله لأنه يدع لغير الله - من البشر - أن يصطلح على غير ما قرره الله من القيم والموازين والتصورات والأخلاق والأنظمة والأوضاع . . وهذا هو التقسيم الوحيد الذي يعرفه الإسلام للمجتمعات وللقيم وللأخلاق . . إسلامي وغير إسلامي . . إسلامي وجاهلي . . بغض النظر عن الصور والأشكال.
والآن، ننتقل إلى نقلة أخرى من سورة الفرقان والذى سوف يتضح لنا تمشيا مع ما قلنا سابقا، ليؤكد ان المسلمون اليوم يعيشون فى جاهلية ما أنزل الله بها من سلطان. نتدبر سويا هذه الآيات من سورة الفرقان فى المقالة القادمة إن شاء الله وإن كان فى العمر بقية.