أبناؤنا المراهقون فى الغربة وفى الغرب

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١٢ - سبتمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا :

1 ـ فى باب الفتاوى ( فاسألوا أهل الذكر ) فى موقعنا (أهل القرآن ) تأتى لى أسئلة من أبناء الجاليات العربية والمسلمة فى أمريكا والغرب عن صعوبات التأقلم فى تنشئة ابنائهم وبناتهم خصوصا فى فترة المراهقة، وخاصة لو كنّ بنات وفتيات.

2 ـ أنا نفسى عانيت هذه المشكلة ، ولا أخجل منها ولا أزعم أننى نجحت بسهولة فى حلها ، لأن حلها لا يتوقف على شخص واحد فهى أكثر تعقيدا من مجرد الاخلاص والامنيات الطيبة . ولكن تجربتى أكّدت لى مصداق قوله جل وعلا (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) ( البقرة  216).

لقد رزقنى ربى جل وعلا ستة أبناء ذكور . الأربعة الكبار منهم هم قرة العين ، جزاهم الله جل وعلا عنى كل خير . وهم على الترتيب (محمد ) الذى ينتج ويخرج حلقات برنامج  ( فضح السلفية ) و( الشريف ) الناشط السياسى والذى يعمل فى (بيت الحرية ) ( Freedom House  ) فى واشنطن مشرفا على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ،والحاصل بامتياز على الماجيستير من جامعة (تفت ) فى بوسطن،  و( الأمير ) عبقرى الانترنت والذى يعمل الآن رئيسا لقسم مختص بهذا فى إدراة جامعة ميرلاند ، ثم (حسام ) أصغر الأربعة ، وهو الذى وقف الى جانبى منذ أن التحق بنا فى أمريكا عام 2003 تاركا السنة النهائية فى كلية الألسن جامعة عين شمس ، وعمل مبكرا إلى أن تخصص فى شركة سفريات ، ومع نجاحه فى عمله فقد حصل على بكاريليوس العلوم السياسية من جامعة  جورج ماسون بمرتبة الشرف ، وهو الآن يدرس فى جامعة كولومبيا فى نيويورك للحصول على الماجيستير فى العلاقات الدولية . وكان ـ مع بقية اخوته  ـ زعيم المظاهرات فى واشنطن ضد مبارك وتأييدا للثورة المصرية.

لم أحس وأنا فى مصر بأى متاعب من أولادى الأربعة الكبار وهم فى مرحلة المراهقة، فقد كنا جميعا فى حالة ضنك وخوف ، مشغولين بالحصول على لقمة العيش ، يأكلنا القلق مع كل دقة على الباب خشية الاعتقال ، حيث كان (أمن الدولة ) يتفنن فى استدعائى بسبب وبدون سبب لارهابى وتخويفى بسبب ما أكتبه ، ولم أتوقف عن الكتابة ، ولم أتوقف عن الخوف ، ولم يتوقفوا عن أرهابى وتخويفى. عمل معى أولادى الأربعة الكبار ـ خصوصا محمد والشريف ـ وهم فى مرحلة المراهقة ، وشاركونى الكفاح خطوة خطوة بمجرد بلوغ أحدهم الثانية عشر من عمره ، وانغمسوا فى المؤتمرات والندوات ورواق ابن خلدون ، وكان ندوة اسبوعية كل يوم ثلاثاء مستمرة من بداية عام 1996 الى أن أغلقوا المركز فى مطلع يونية 2000 . وهربت بحياتى الى أمريكا تاركا أولادى وزوجتى خلفى ,. وبعد افتتاح مركز ابن خلدون كان محمد والشريف أعمدته يعاونان د سعد الدين ابراهيم ، دون ان يعوقهم هذا عن التفوق الدراسى ، فأكملوها بنجاح ، تخرج محمد والشريف فى جامعة الأزهر ، وتخرج الأمير فى كلية الحاسبات وعمل فى شركة متخصصة. وبعد أن لحقت بى زوجتى وحسام والاثنان الصغار من أولادى كان أكبر همى أن يلحق بى الأربعة الكبار . وكان مستحيلا أن يحصلوا على تأشيرة لدخول أمريكا مخافة أن يحصلوا مثلى على اللجوء السياسى . ولقد أمضيت عاما  من البؤس فى بوسطون (2003 : 2004 )أعمل كل طاقتى لاستقدامهم ، كانت كل الظروف مهيأة للسعادة حيث كنت أعمل فى هارفارد متفرغا ومعى زوجتى وأولادى الثلاثة ، ولكن عملى اليائس فى استقدام الثلاثة الكبار ورفض السفارة الأمريكية الحازم والجازم نغّص حياتنا ، فقد حصلوا على تأشيرة ثم تم إلغاؤها فورا . وبعد جهد جهيد نجحنا ، وجاءوا واستقرت الأحوال ، ولكن أفقنا من سعادتنا وقد اكتشفنا تغييرات هائلة طرأت على الولدين الصغيرين ، فقد قدما واحدهما طفل فى الحادية عشر والآخر فى سن المراهقة. إنشغلنا عنهما باستقدام الثلاثة الكبار ( محمد والشريف والأمير ) وانشغال حسام بعمله ودراسته وانشغالى بعملى وكتاباتى ومتابعة اضطهاد أهلى فى مصر وهم يعانون من السجن والاعتقال المتكرر. إنشغلنا عن الولدين الصغيرين وفوجئنا بتغير فيهما لا يليق بمن هم اولادى . وصارت مشكلة ، وعرفنا انها مشكلة المراهقة فى المجتمع الأمريكى كله ـ وقد قال لى صديق أمريكى انهم يعتبرون مرحلة المراهقة نفقا يدخل فيه الصبى الأمريكى فى بدايته ، وينتظره أهله عند نهاية النفق بعد ان يصلوا الحادية والعشرين . هنا مشكلة الحرية المطلقة للفرد الأمريكى والحماية المبالغ فيها للطفل الأمريكى والتى تحدّ من تدخل الوالدين لتأديب الطفل ، والتى تصل الى حدّ انتزاع الطفل من والديه بل دخولهما السجن ، وحق الطفل فى استدعاء البوليس للوالدين . مناخ جديد تعرفنا عليه لأول مرة عندما شبّ الولدان الصغيران فى المجتمع الأمريكى ومدارسه وبين أصدقائهم ، وفى غفلة عنا . أحسست لأول مرة أن الولدين اللذين أعرفهما قد تم اختطافهما وجىء لى بشابين أمريكيين لا أعرفهما يحملان نفس الملامح ولكن بثقافة أمريكية اكتسبوها فى المدرسة ومن الأصدقاء والزملاء . انشغلنا عنهما بظروفنا الخاصة ، ففقدناهما ، وعشت مرارة من نوع خاص لم أعرفها من قبل ، فما أقسى عقوق ولدك ، وأن تنظر له بحسرة لا تستطيع أن تتبرأ منه ولا تتحمل أن يكون عارا لا يليق بحمل إسمك. . وعملنا ـ أنا والأم والأولاد الكبار ـ على إصلاح الوضع وإرجاع الولدين الى ثقافتنا وقيمنا . والحمد لله جل وعلا قاربنا على النجاح . وفى ظل هذا العناء كنت ـ ولا أزال ـ أقارن بين فترة مراهقة أولادى الأربعة الكبار فى مصر (وهم الى جانبى فى مصر نعانى من ارهاب الدولة والضنك ونحترف المقاومة والنضال فصاروا رجالا قبل الأوان ) وبين الولدين الصغيرين وهم يعيشون الحياة الأمريكية التى أفسدتهم بوفرتها وحريتها وانطلاقها، وأقول صدق الله العظيم : (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) ( البقرة  216).

3 ـ فى قصص الجالية العربية تجارب مختلفة ، بعضها يجد طريقه الى الاعلام الأمريكى حيث تتكرر جرائم الشرف حين يقتل العربى الأمريكى ابنته بسب ارتباطها بالبوى فرند وفق الثقافة الأمريكية.ومشهور أن بعضهم يعود بأولاده وبناته الى الوطن الأصلى حين يقترب الأولاد من دخول مرحلة المراهقة . وأعرف سيدة مصرية قرآنية ملتزمة محترمة رفضت هذا الحل ، وتفرغت لرعاية ابنتها وولدها فى أمريكا. وجهة نظرها إن الانحلال الخلقى فى مصر لا يقل عنه فى أمريكا،ولكنه فى مصر مسكوت عنه بعكس أمريكا التى تمارسه علنا ، علاوة على وجود التطرف الدينى وهو قرين الانحلال ، ويتجلى الاثنان معا فى النقاب .

ثانيا

1 ـ الحل يبدأ بالتوصيف الصادق للمشكلة ، وهو اختلاف الثقافة واختلاف المعايير القيمية بين العرب والغرب. ( الشرف ) لدى العرب يتركز حول المرأة ؛ عذريتها وهى فتاة وسلوكها بعد الزواج . (الشرف ) لدى الغرب يتركز فى شرف الكلمة والصدق فى الوعد والشجاعة فى مواجهة الظلم والتفوق فى العمل والقدرة على المنافسة واحترام الحرية الشخصية فى السلوك وحق البحث عن السعادة الفردية ، وأن الفرد يملك جسده وله حرية التصرف فيه سواء كان ذكرا أو أنثى، زوجا أو زوجة  .

القيم العربية تدور حول الأسرة بينما تدور القيم الغربية حول الفرد ، لذا يكون للاسرة العربية اليد العليا فوق الفرد ، ويكون رب الأسرة ممثلا للمجتمع الذكورى وليس على الفرد سوى الانتماء لأسرته والانصياع لها .  اما فى الغرب فالفرد هو سيد مصيره ، وتنتهى حضانة أسرته له حين يبلغ أشدّه . وتدفع الأسرة الأمريكية الثمن ، فمهما يقال عن (الأسرة ) العربية فهى أكثر تماسكا من  ( الأسرة ) الأمريكية، حسبما أعلم فالتفكك الأسرى فى أمريكا ظاهرة ملحوظة ، وقلما يعيش الأطفال مع والديهما لأن الأغلب وقوع الانفصال بين الوالدين ، والشائع هو وجود الأب البديل ، من عشيق أو زوج آخر للأم ، أو ان تعيش الأم وقد تكفلت بولدها أوأولادها من علاقات  عابرة أو غير شرعية. الحرية الفردية هى المسئولة عن هذا . وبسبب غياب (الأسرة ) فالعادة ان (الفرد ) الأمريكى يبحث عن أسرة بديلة ينتمى اليها ويحقق من خلالها إشباعه النفسى فى الانتماء لأسرة ما حتى لو كانت مصنوعة أو وهمية، لذا يتكاثر فى الغرب الانتماء للنوادى والجمعيات والتجمعات والنقابات،بل تترسخ وتتأكد علاقات العمل فى الشركة والمصنع والمؤسسة لتصبح الزمالة كالقرابة فى الدم ولتصبح الشركة والمؤسسة بديلا عن الأسرة . هذا بينما ينعم الفرد العربى بالانتماء الى أسرته تشد من أزره وتقف الى جانبه فى الأفراح والأتراح ، يعطيها الانتماء وتعطيه الأمان.

وعلى هامش الاختلاف الثقافى بين العرب والغرب توجد مساوىء فى كل منهما . فى الثقافة العربية توجد صفات الخنوع والرضا بالمقسوم والصبر على الظلم والنفاق والكذب والتعصب للأسرة  والمحسوبية ، ثم تزداد المأساة حين يتم ربط تلك المساوىء بالدين الأرضى فيتحكم ذلك الدين الأرضى فى المجتمع ويهبط به الى الحضيض الاخلاقى باسم الدين. بينما تترك الثقافة الغربية  ضحايا بالملايين فى معارك التنافس ،ومنهم من تصل به الخسارة الى أن يصبح شريدا بلا مأوى ( Homeless)، يهبط من ناطحة السحاب الى اسفل سافلين دون برقية عزاء من الزملاء والأصدقاء المشغولين بالصراع حول البقاء فى الجنة الأمريكية أو الغابة الأمريكية المتقدمة جدا (  Advanced jungle)  التى يأكل فيها القوى الضعيف ويدوس فيها الكبير على الصغير بلا رحمة ، وتنحت اللغة الأمريكية لغتها الخاصة المستمدة من واقع المنافسة للبقاء حيا أو البقاء على القمة ومصارعة الخصوم ، ومنها مصطلح (  Survive) . وفى ظل هذا الصراع المحموم حول المال والنفوذ ومع انهيار الانتماء للقرابة والأسرة فمن السهل أن ترتفع بسرعة وبنفس السرعة تهوى الى الأرض دون أن يقلق او يحزن عليك أحد. هذا الحال من القلق من المجهول وانعدام الأمن النفسى جعل الفرد فى الغرب يبحث عن (التأمين ) فقامت شركات التأمين بغطاء تأمينى وهمى تسلب فيه أموال الناس بعرض أنواع مختلفة من التأمين على الصحة وعند الموت وعلى المنزل والسيارة والحيوانات الأليفة ..الخ..

2 ـ بعد التوصيف للمشكلة يأتى إقتراح الحل .وهو أن يتعلم المغترب مزايا الثقافة الغربية من الصدق والأمانة والشجاعة والقدرة على التنافس،وأن يتمسك بمزايا ثقافته العربية من الانتماء والعفة الخلقية ، وأن يجتنب المساوىء العربية من الكذب والنفاق والكسل والخنوع ، ومساوىء الثقافة الأمريكية من الحرية المطلقة فى الانحلال دون رابط أو وازع ، وفى الأنانية الفردية بلا تعاطف مع الآخرين . أى فى الأغلب هنا تجد معادلة صفرية أمام أبنائنا فى الغربة الغربية ؛ أما الصعود جهادا بالتمسك بمزايا الثقافتين وإما الهبوط والضياع استسلاما لمساوىء الثقافتين.

على أن الحل الأمثل فى نظرى والذى أنصح به الجميع دون إلزام لأحد هو (التقوى ) بالايمان بالله جل وعلا وحده لا شريك له والايمان باليوم الآخر ، واعتبار هذه الدنيا مجرد مرحلة إختبار للفوز بالآخرة ،وهذا يعنى الصبر على المحن وعدم الاغترار بالنعم ، مع إعطاء حق الله جل وعلا وحقوق الناس والتمسك بالسمو الخلقى والعطاء والتوكل على الله جل وعلا معتمدا عليه فى طلب الرزق ، وانتظار المثوبة من رب العزة يوم القيامة. وبهذا يتحقق التوازن النفسى ويعرف الانسان راحة البال .

3 ـ فى تطبيق الحل فإن المسئولية تقع على الزوجين أساسا، فى أن يكونا قدوة طيبة للصغار بحيث يشعر الصغار بالفخر بالانتماء الى الوالدين والمحيط الذى جاء منه الوالدان . مطلوب من الزوج أن يتحول الى (أب ) أساسا ، وأن تتحول الزوجة الى (أم ) قبل كل شىء. ومع ان الخلافات الزوجية واردة ولا يمكن تجنبها فإننا ننصح بشدة أن لا تتجاوز هذه الخلافات غرفة نوم الزوجين ، وألا يحسّ بها الأولاد مطلقا .

مطلوب أن يحس الأولاد والبنات بدفء الأسرة وحنانها وتماسكها ، ومطلوب تعليمهم الانتماء الى الأسرة والوطن الغائب مقابل ما يعانيه زملاؤهم من أسر مفككة وعلاقات أسرية متهرئة . مطلوب من الوالدين معاملة الابناء بالحزم مع الرعاية الكاملة المباشرة وغير المباشرة وتعليمهم الانتماء الى القيم الانسانية العليا من حقوق الانسان والحرية والعدل والالتزام الخلقى والعفة الخلقية فى السلوك مع الجنس الاخر، وتوضيح الفرق بين الثقافتين وأهمية التمسك بمزايا كل منهما واجتناب مساوئهما.مطلوب توفير وقت العطلة الأسبوعية للترفيه على الأولاد ، والمراقبة الحازمة لهم فى المدرسة بالتعاون مع ادارة المدرسة ، والتدقيق فيمن يصحبهم الأولاد . مطلوب ملء وقت فراغهم بما يفيد وتحصينهم مقدما ضد الانحراف الخلقى ، ودفعهم لدخول المنافسة بالتفوق فى التعليم والأنشطة المختلفة ليرفعوا من شأن أسرتهم ووطن أهاليهم .قائمة المطلوبات لا تنتهى ، ولكنها هى النجاة من شقاء مراهقة قد لا ينتهى . 

أخيرا: ما هى قيمة الجنة الأمريكية لو ربحتها وخسرت فيها أولادك ؟

اجمالي القراءات 30372