-1-
لم يكن الأردن بحاجة إلى زعيم وطني مخلص ونظيف كما هو بحاجة اليوم.
كان الملك الراحل حسين، الذي تحوّل في فترة من الفترات من ملك إلى زعيم أردني، يسدُّ هذه الخانة، ويقوم بما يستطيع، وبما تهيئه قدراته كملك، وبما يهيئه له بلد فقير وصغير كالأردن، الذي لم يبرز في العالم العربي والغربي إلا بعد وحدة الضفتين في 1950، ومحو اسم فلسطين من الخارطة السياسية (توزعت فلسطين بين مصر وإسرائيل والأردن حتى عام 1967، وكان جزاء الملك عبد الله الأول على ضم الضفة الغربية للأردن الاغتيال في 1951 على يد الفلسطيني المقدسي مصطفى عشو) . فكانت "وحدة الضفتين" هي الخطوة السياسية التنفيذية الأولى والأوسع نحو "الوطن البديل" الذي ترتعد له فرائص الهاشميين هذه الأيام، وفرائص فئات شعبية أخرى دينية، وماركسية، وقومية. ولم تنته قصة "الوطن البديل" إلى الآن. فرغم ضياع الضفة الغربية التي ضُمت إلى الأردن 1950 وتم محو اسم فلسطين منها، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من "المملكة الأردنية الهاشمية"، ورغم فك الارتباط عام 1988 بين الضفتين، وتولي "منظمة التحرير"، كممثل وحيد للشعب الفلسطيني عام 1974، إلا أن هذا لم يمنع من أن يُشكِّل الفلسطينيون أكثر من 60 % من الشعب الأردني حتى هذه اللحظة. ولم يمنع من أن تصبح غالبية الشارع الديني الأردني (الإخوان المسلمون ومجموعة السلفيين والمؤيدين لحماس وغيرهم) من الفلسطينيين. فقوي الأردن بالضفتين (الشرقية والغربية) وضعف بدون أحدهما، عندما سقطت وضاعت عام 1967 ، نتيجة خطأ سياسي واستراتيجي ارتكبه الملك الراحل بالتحالف مع عبد الناصر. وعندما قايض الملك حسين أثناءها العرش بالوطن.
فبقي العرش، وذهب الوطن.
كذلك فعل الملك الراحل في عدوان صدام على الكويت وشرق السعودية 1990. فوقف الشارع الأردني الفقير والجائع مع بريق ذهب صدام وخبزه، واضطر الملك الراحل إلى الوقوف مع الشارع الفقير والجائع ضماناً للعرش.
وتمت مقايضة العرش بالوطن.
وخسر الأردن (الوطن) مليارات الدولارات، وعادت مئات الآلاف من العاملين في الخليج، ووقعت كارثة بطالة، فخسر الوطن كل هذا، ولكن العرش ربح، بأن صمد.
فبقي العرش، وذهب الوطن.
-2-
اليوم يتعرض العرش الأردني إلى هزات سياسية، واجتماعية، واقتصادية، غير مسبوقة في تاريخه الماضي طيلة تسعين سنة مضت. وكان من المنتظر والمحتمل لهذه الهزات أن تقع.
فالعالم يتغير بسرعة جنونية من حولنا، ونحن جامدون.
والعالم العربي، يتغير من حولنا، بفضل ظهور أجيال جديدة، تختلف عن جيل الخمسينات والستينات وبقية العقود التالية من القرن الماضي، ونحن (مطنشون).
والأردن، تظهر فيه أجيال شابة جديدة، لها تطلعاتها وآمالها الجديدة المختلفة عن أجيال الماضي، ونحن غائبون، وغافلون.
والشارع العربي والأردني تجتاحه حُمَّى دينية واضحة، نتيجة للفراغ السياسي والحزبي، ونتيجة للخيبات القومية المتلاحقة، ونحن لاهون.
وفجأة، وجد الأردن نفسه في وسط (المومعة) الثورية العربية، والتفت حوله، فلم يجد غير الإخوان المسلمين في الساحة، يقولون كلمة حق شجاعة، ولا يخشون في الحق لومة لائم.
فهم الوحيدون – تقريباً- الذين قالوا بمهزلة التعديلات الدستورية الأخيرة. ورفضوا هذه التعديلات بكل شجاعة، وصراحة، ووعي سياسي نافذ.
فمرحى لهم، وحيّاهم الله.
-3-
لا يظنن كثيرٌ من القراء أنني انقلبت – كما يدّعون ويشيعون - من كاتب ماركسي إلى كاتب (إخونجي).
فأنا لم أكن شيوعياً ولا ماركسياً في يوم من الأيام. كما لم أكن بعثياً، أو (إخوانجياً). ولم انتسب إلى أي حزب سياسي في حياتي. ولم ارتهن إلى أية إيدولوجية من الإيديولوجيات، وفضَّلت أن أكون دائماً محلقاً خارج الأسراب.
فإذا قال الشيوعيون حقاً في يوم ما، فأنا مع هذا الحق!
وإذا قال القوميون إنصافاً في يوم ما، فأنا مع هذا الإنصاف!
وإذا قال الإخوان المسلمون عدلاً في يوم ما، فأنا مع هذا العدل!
فأنا مع الحق، والإنصاف، والعدل، بغض النظر من أين جاء!
ولست مع الشيوعيين، ولا مع القوميين، ولا مع الإخوان المسلمين!
-4-
ما أحوج الأردن اليوم إلى شخصية وطنية كوصفي التل (كان من عناصر القوميين العرب) وشجاعة ومثقفة (خريج الجامعة الأمريكية في بيروت).
كان وصفي التل رئيساً للوزراء براتب لا يزيد عن 15 ألف دينار سنوياً (تكلفة الهاشميين السنوية أكثر من 200 مليون دولار) ولثلاث مرات ( 1962، 1965، و1970) واستطاع أن يدير الأردن كأمهر وأنظف رئيس للوزراء في تاريخ الأردن والمنطقة العربية. كان هو الملك التنفيذي. وكان الملك حسين ملك الظل. فتمكن التل من حشد طاقات البلد – كما يقول ناهض حتَّر ، في كتابه " يساري أردني على جبهتين"، ص 22، 134 – واستخدم المساعدات الأجنبية في بناء أردن حيوي ومتسامح. وأوجد قطاع عام قيادي، وقام بإصلاح زراعي أفضل مما قام به عبد الناصر وحزب البعث – كما يقول حتَّر – وطور الخدمات في الريف، وتوسع في التعليم الثانوي، وأقرَّ مجانية التعليم الجامعي، وأتاح الفرصة لجميع الأحزاب (بما فيهم الشيوعيون، والبعثيون، والضباط الأحرار) لتولي مناصب قيادية، بعد أن أحرق كافة الملفات الأمنية السوداء للمواطنين، واستعان بخبرات القيادات الحزبية لبناء الوطن . فكان وصفي التل رمز مشروع الدولة الوطنية. ولكنه في النهاية(1971) ، دفع ثمن نزاع العرش الهاشمي مع منظمة فتح. وافتدى العرش الهاشمي والملك حسين بروحه، وقضى نحبه بعد "إيلول الأسود" 1970.
-5-
واليوم نحن بحاجة في الأردن، إلى مثل هذا الوصفي التل، بل الجبل، في زمن شحَّت فيه الزعامات السياسية. ولم يعد في الأردن راعٍ يرعى القطعان المتناثرة على سفوح الأردن، ويجمعها في مسار وطني واحد ومخلص ونظيف. ويقود ثورة ضد الفساد، والمحسوبية، وتزوير الدستور، والهروب إلى الخلف، خوفاً من مواجهة المصير المحتوم.
السلام عليكم.