مصر بدون مبارك كما شاهدتها الحلقة 4

محمد عبد المجيد في الأربعاء ٢٢ - يونيو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

بقدر مساحةِ الشر في صدر الطاغية تتكون دوائرٌ وحلقات مترابطة ومتناثرة من وصوليين ونفعيين وانتهازيين تتحول أوامرُ وتوجيهات المستبد في أفواهِهم إلىَ أنيابٍ لا تعرف الابتسامةَ إلا وهي تفترس، ولا تتلذذ إلا وهي تسحب الدماءَ من أعناق ضحاياها.

 

إذا قُدِّرَ لكَ ورأيتَ مواطناً مسكينا وقد انكمش جسدُه النحيل فور وقوفه أمام الباشا المأمور، وقد أمسك شاويشٌ أو مخبرٌ جلفٌ بقفا المواطنِ استعداداً لصفعةٍ توقظه أو تـُخَدّره، فإنك أمام مشهد صناعة البلطجة في أعتم صوره!

 

في زيارتي لمصر شاهدتُ المستقبلَ المشرق بفضل شباب الثورة الأبطال، لكن كلابَ الطاغية البائد كانوا في خلفية المشهدِ يـُخرجون لي ألسنتَهم وكأنهم يقسمون أنهم عائدون في أي صورة من الصور التي صنعها القصر، ونثرها في الوطن الصابر لعلها تسترجع مجدَها المُخزي!

شرحت في حلقةٍ سابقةٍ رؤيتي عن مجلس الشعب، وتشاؤمي البالغ من مسرحية الانتخابات الهزلية المتخلفة بنظام الدوائر، والشعارات، و( مولد) المزايدات التي تُدغدغ مشاعرَ المواطنين البسطاء، وقلتُ بأنَ مجلس الشعب بهذه الطريقة سيعيد روح مبارك حتى لو التف حبل المشنقة حول عنقه.

والآن أعرضُ أكثر تخوفاتي فزعاً وهي البلطجة التي دفنها مبارك في عمق المشهد المصري كما كان أحمد عز يدفن نفايات الحديد تحت الأرض الزراعية لتسميم ما لم يتمكن يوسف والي من سرطنتهم بمزروعاته التي امتدت بطول المساحات الخضراء في أرض مصر الطيبة.

البلطجة هي أن يستعرض مُسَجَّل خَطِر عضلاته، ويستخدم سلاحَه الناري أو الأبيض، ويبصق على القانون، ويحتقر هيبةَ الدولة، وتصبح قيمةُ المرءُ لديه، جسدًا وروحًا، صفراً أو أقل!

البلطجة هي ثقة لا متناهية من أحد غلاظ القلب، وقُساة النفس، وجفاة الروح، ومستخدمي القوة الجسدية في تعذيب الآخرين، وانتهاك حرماتهم، وانزال الخوف في صدورهم بأن القانون نائم،ٌ والدولة غائبة، وأجهزة الأمن غير مكترثة، وأن الشارع مِلْكِيّةٌ خاصة للفتوات.

وعهد مبارك أنجبهم كما تـُنجب الأرانب الأسترالية فتجري الصغار بأعداد هائلة في كل مكان، وعندما سقط في الحادي عشر من فبراير بعدما رفع المصريون أحذيتَهم في وجهه، كانت التوجيهات حاسمةً، وصارمةً، وكأنها دروسٌ يوميةٌ لثلاثةِ عُقود، فخرج السجناءُ الأكثر اجراماً، وتم تسليحُ كل مُسَجَّلٍ خَطِر، وفتحت التخشيبات أبوابها لتنفخ الشَرَّ في شوارع مصر.

لا صلاح، ولا فلاح، ولا تقدم، ولا مستقبل بدون القضاء النهائي على كل صور انعدام الأمن، ولكن كيف يمكن اعادةُ الحياة الطبيعية إلى مصر الثورة؟

ينبغي أولا أن تتوفر النية المسبقة، وأن يكون الأمن قبل لقمة العيش، والأمان قبل نظام الحُكم، وأن تتراجع كل هموم الأمة خلف الأمن والأمان، فإذا تحققا فيمكن لمصر أن

تحتفل بأكبر أعياد ثورة الشباب .. عيد أمن المواطن!

عندما يتردد مواطن في الخروج ليلا، أو التنزه على كورنيش النيل بعد منتصف الليل، أو سلوك شارع جانبي مظلم، أو العودة بسيارته في الطريق الصحراوي خشية قُطّاع الطـُرق كما يحدث في كاركاس وبوجوتا وجوهانسبرج وسان خوسيه فإن ما تحقق من انجازات الثورة ستطويه قسوة البلطجية والقتلة والمتشردين واللصوص والقراصنة.

وضعُ خطة ذكية، ومُحْكَمة لتفريغ كل شبر من أرض الكنانة من هذه الحيوانات الطليقة هي البداية، لكنها تحتاج إلى تكاتف كل قُوىَ الجيش وأجهزة الأمن والجماهير وشباب الثورة.

هل هناك بلطجي أو مسجل خطر أو سجين هارب أو قاتل مجهول لا يعرف أحدٌ مكانـَه؟

قطعا لا، ولكن الناس تخشى الابلاغَ عنهم، والخسارة معروفةٌ سـَلـَفًا، وشاهد ماشافش حاجة نموذج لما سيتخيله المواطن قبل الابلاغ عن أحد المجرمين.

إذا توفرت النية، والميزانية، والمكان البديل للبلطجية الطلقاء ( سجن، معتقل، معسكر في مكان ناءٍ) والأجهزة الأمنية وقوى الجيش، فإن الأمر سيحتاج فقط لمعرفة أماكن تواجدهم أو اختفائهم.

هنا يأتي دور الاغراء المادي المرافق باعطاء الأمان لكل من سيُبلغ عن مكان مسجل خطر، والوقت المناسب لالقاء القبض عليه، والقوى التي تتولى حمايته أو اخفاءه أو التستر عليه.

خمسة آلاف جنيه مكافأة لكل من يبلغ عن وجود هارب من العدالة أو مسجل خطر أو بلطجي يتسلمها قبل مرور شهر من القاء القبض على المجرم الخطر على أمن المواطنين.

قائمة سرية وخاصة موجودة في كل فروع أحد البنوك التي تختارها الدولة وتقوم بتحويل أقل من عشرة ملايين جنيه للمركز الرئيس.

بالهوية الشخصية فقط، وسلاسة في التعامل، ومنع طرح موظف البنك أي سؤال، يتسلم المواطن الذي ساعد الدولة مكافأته.

مكتب خاص تابع لوزارة الداخلية يتجمع فيه رجال ( لواءات شرطة، وقضاة، ومستشارون) وتحت إمرتهم كل وسائل الاتصال الالكترونية، ونفترض، مثلا، أنهم عشرون شخصاً على مدار الساعة، وتنشر كل وسائل الاعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، أرقام الهواتف العشرين.

لا يتم الاعلان عن أسماء العاملين في المكتب، وهم يملكون سلطة اعطاء التوجيهات والأوامر والنقاش مع المواطنين الذين يبلغون عن أماكن تواجد المجرمين الطلقاء، وأيضا رفع قيمة المكافأة، وهم أيضا مسؤولون عن اعطاء الأمن للمواطن الذي يعرض المساعدة.

إذا صحت المعلومة، وتم القبض على المجرم الطليق أو الهارب أو المسجل الخطر، فلا يتأخر المكتب في ابلاغ البنك باسم الشخص الذي سيحصل على المكافأة، ثم اعادة الاتصال به، في غاية السرية، لابلاغه بموعد ومكان تسلم مكافأته.

لابد من ابلاغ أي شخص يتصل بالمكتب بأن الوشاية أيضا لها عقوبة ( وليس الخطأ في التقدير) رغم أنه غير وارد مطلقا، فلا يعقل أن يخطيء مواطنون في معرفة أي بلطجي.

قد يتجمع لدينا عشرة آلاف أو عشرون ألف أو أكثر، وتبقى مشكلة عزلهم عن المجتمع، في السجون إذا كانوا هاربين منها أو من أحكام القضاء، وفي معسكرات نائية في حالة عدم وجود أحكام مسبقة.

لدى علماء النفس والاجتماع والمصلحين ورجال الحِكمة الحل الأمثل لنزع فتيل الشر من صدورهم خلال فترة عزل كامل عن المجتمع، وأنا أقترح دورات تدريبية مكثفة في الفنون والآداب والموسيقى وقيم التسامح والوطنية وتاريخ مصر وقراءة الكتب في العلوم الانسانية والتعرف على تاريخ الأمم، وتنمية مهاراتهم التي اختفت خلف عالم الاجرام.

يمكن للمثقفين والعلماء والأكاديميين التطوع في دورات التدريب، ويكون الحد الأدنى لعزل المجرم أو المسجل خطر عن المجتمع خمس سنوات، يعامـَل خلالها معاملة كريمة، ولائقة، ولا يُهان بأي صورة من الصور، الشفوية أو العملية، في مأكله، ومشربه، وملبسه.

الباب يظل مفتوحا أمام الجميع لهذا الاقتراح، زيادة أو حذفا، قبولا أو رفضا لبعض بنوده.

مصر بدون البلطجية كمصر بدون مبارك، وهؤلاء كالطعام المسموم أو كالكلاب المسعورة، أو كالقتلة المأجورين، وتركهم يجوسون خلال مصرنا الحبيبة، ويعيثون فساداً،  هي جريمة بكل المعايير، وقد رأيناهم في موقعة الجمل، وفي ترويع أمن المواطنين، وسنراهم بأعداد هائلة تجعل كل مصري يخشى الخروج من بيته.

وقبل أن يتضاعف عددهم، وتزداد شراستهم، وتصبح الإتاوة فرضا على كل من يقيم على أرض مصر من مواطنين وأجانب، فإنني أضع اقتراحي هذا أمام المجلس العسكري ورئيس الوزراء ووزير الداخلية واللواء أحمد رشدي الحالم بمصر الآمنة.

ثغرات الاقتراح بمكن أن يسدها المهمومون بمصر المستقبل، والمؤيدون لثورة الشباب، والمتطلعون لبلد قد يكون، بعد تفريغه من الذئاب الطليقة، جنة الأمن في وطننا العربي الكبير.

خوفان يصيبان المواطن في مقتل نفسي وروحي: الأول كان الطاغية السفاح مبارك ولصوصه وأجهزة أمنه وقراصنة نظامه العفن الذين قاموا بالتصفية، والاختطاف، والاعتداء، والاغتصاب، وانتهى مبارك إلى خزي التاريخ وعار زمن سيجعل كل من انتسب إليه، وأيده، وروَّج لحُكمه، ونافق عبقريتـَه المهترئة والعفنة يخجل من نفسه ما بقيت في قلبه نبضة واحدة.

الثاني هو الأمن، فإذا تحقق فيحق للمصريين أن يحتفلوا بثاني أهم نجاحات وانجازات الثورة المجيدة.

أدعو كلَّ مهموم بمستقبل مصر، وكل عاشق لترابها، وكل سعيد بثورتها أن يساهم في بلورة هذا الاقتراح، وأن يضيف إليه ما يثريه، وأن يحذف منه غير المستطاع، ليصبح اقتراحا ممهورا بتوقيع كل المصريين.

وسلام الله على مصر.

 

أوسلو في 10 يونيو 2011

Taeralshmal@gmail.com

 

 

اجمالي القراءات 8907