الاسلام دين التسامح ولكن السلفية ..!!

آحمد صبحي منصور في السبت ١٨ - يونيو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

التسامح مصطلح حديث، ولم يرد فى القرآن الكريم، ولكن للقرآن الكريم مصطلحاته الخاصة، وأقربها إلى معنى التسامح فى مصطلحات القرآن الإحسان والعمل الصالح والصبر والعفو والصفح والغفران.

والأمر بإحسان العمل: تردد فى القرآن كثيراً ومنه قوله تعالى ﴿وَأَحْسِنُوَاْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة 195) ﴿وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ﴾ (القصص 77) والإحسان هنا لا يعنى مجرد التصدق وإعطاء الصدقة ولكنه إحسان العمل كله، ومن هنا كان الإحسان من الله تعالى جزاءاً لمن أحسن عملا ﴿هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاّ الإِحْسَانُ﴾ (الرحمن 60).أى أن المقصود أن يستغرق الإنسان حياته فى الخير والعمل الصالح بحيث لا يبقى فى وقته متسع للشرور والآثام، وهذا معنى أن تتحول حياة الإنسان إلى حسنة مطلقة يأتى بها إلى الخالق جل وعلا يوم القيامة فيتضاعف له الجزاء بعشر أمثاله.

يأمر الله تعالى بالإحسان للوالدين أساساً، ويضيف إليها ذوى القربى واليتامى والمساكين والجيران والأصحاب وابن السبيل، ولا يشترط فى أولئك جميعاً أن يكونوا مسلمين حتى يستحقوا الإحسان، فالإحسان للوالدين والأقارب واليتامى والمساكين وأبناء السبيل والجيران والأصحاب، ذلك الإحسان مرتبط بالوصف الأساسى فقط، أى أن يكون أحدهم من الوالدين أو من الأقارب أو من الجيران أو من المساكين..إلخ، بغض النظر عن دينه وعقيدته ومذهبه. فالإحسان للمسيحى إذا كان قريباً أو جاراً أو صاحباً أو مسكيناً أو زائراً أو سائحاً. مع ملاحظة أن ابن السبيل هو الغريب المسافر القادم لبلادنا، وهذا ينطبق على الأجانب. ولابن السبيل حقوق فصل القرآن فيها، منها حقه فى الصدقة التطوعية والصدقة الرسمية والفئ والغنائم وحقه فى حسن التعامل معه مثلما نتعامل مع آبائنا وأمهاتنا وأقاربنا وجيراننا.. وابن السبيل فى عصرنا هو كل غريب يمر ببلادنا، ينطبق ذلك على السياح والأجانب، بغض النظر عن اللون والجنس واللغة والدين والعقيدة.. هذا هو أدب الإسلام.. وتلك هى تشريعاته.

وهناك سؤال.. ماذا إذا أساء أحد من الناس إلينا؟ هل نرد عليه الإساءة بمثلها أم نرد عليه بالإحسان؟ أم نتجاوز الإحسان إلى الرد عليه بالأحسن والأسمى خلقاً؟.إن من العدل أن ترد على السيئة بمثلها، ولكن الاحسان درجة فوق العدل ، والاحسان هنا هو العفو ، وهو أفضل للإنسان عند ربه ﴿وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ﴾ (الشورى 40) ومن هنا تكررت آيات القرآن تأمر بالإحسان فى معاملة المسئ بأن ترد السيئة بالتى هى أحسن، أى ليس بالحسنة فقط وإنما بالتى هى أحسن من الحسنة ﴿ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ السّيّئَةَ﴾ (المؤمنون 96) ﴿ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت 34).والمهم هنا أن الإحسان فريضة إسلامية يجب على المسلم أن يتبعها فى معاملته مع الناس جميعاً من الوالدين إلى الأقارب والجيران والأصحاب والغرباء والأحرار والعبيد، سواء من كان منهم مسلماً أو من لم يكن، بل إذا كان أحدهم مسيئاً فالأفضل أن نرد على السيئة بالأحسن منها، حتى يتحول العدو إلى ما يشبه الصديق عندما نواجه الشر بالخير والإحسان.

وهناك تقسيم للإحسان على أساس أنواع الأعمال أى أنواع الإحسان نفسه.

فهناك الإحسان فى القول، فلا تتكلم إلا بالكلام الحسن ﴿وَقُولُواْ لِلنّاسِ حُسْناً﴾ (البقرة 83) ﴿وَقُل لّعِبَادِي يَقُولُواْ الّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (الإسراء 53) أى بدلاً من أن يقول كلمة سيئة نضع مكانها كلمة خير حسنى، أو أحسن منها. وقد يكون الإحسان فى القول توسطاً فى الخير أو شفاعة فى مظلوم، وهذا مأمور به، وقد يكون العكس وهو التوسط فى الشر أو أن الشفاعة فى الشر، وذلك منهى عنه، وفى كل الأحوال فالجزاء عند الله تعالى من جنس العمل إن خيراً وإن شراً، وذلك معنى قوله تعالى ﴿مّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيّئَةً يَكُنْ لّهُ كِفْلٌ مّنْهَا﴾ (النساء 85).

وقد يكون الإحسان فى رد التحية، وهناك يكون بالمثل أو بالأحسن منها، يقول تعالى ﴿وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدّوهَآ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ حَسِيباً﴾ (النساء 86) ويلاحظ أن الله تعالى يقول ﴿وَإِذَا حُيّيتُم﴾ وهذه عبارة مطلقة، تعنى إذا حيانا أى إنسان بأى لغة وبأى كيفية فعلينا أن نرد عليه بالمثل أو بما هو أحسن من تحيته، وليس شرطاً أن يكون مسلماً مثلنا أو أن ينطق بتحية الإسلام، المهم أن تكون تحية، ليس مهماً الشخص وليس مهماً القول.. والمهم أن نرد عليه بالمثل أو بالأحسن.

ويبرز الإحسان أكثر فى مجال العفو والتسامح.يقول تعالى عن بعض صفات المتين ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران 134) فالذى يتحكم فى غضبه وغيظه ويعفو عن الناس يكون من المحسنين الذين يحبهم الله تعالى، وهذا يتعلق بالتعامل العادى مع الناس الذى قد يستجلب الغضب والغيظ، ويستوجب عند المحسنين الحلم والعفو.

ولكن هناك نوعاً من التعامل بالإحسان والعفو والصفح يتجلى أكثر فى الدعوة للحق، وهنا يكون أسلوب الدعوة للحق مرتبطاً بالحق نفسه، أى بأعلى درجة من الإحسان والعفو والصفح والغفران، وبالتالى الابتعاد التام عن التكفير والجدال المسىء والسب والتعريض وكل ما يهين أو يشين، لأن ذلك هو أسلوب الدعوة للباطل، حيث تتأسس الدعوة للباطل على الأكاذيب والإضلال وتحتاج إلى قوة تعضدها، وبالقوة تتمكن من فرض أكاذيبها على الناس وتسويغ تجارتها بالدين وتحقيق ما تصبو إليه من مكاسب دنيوية تحت اسم الدين.

إن الدعوة للإسلام يمتنع فيها تماماً أخذ الأجر من البشر، ويكون فيها الداعية قدوة بتصرفاته وسلوكياته ﴿اتّبِعُواْ مَن لاّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مّهْتَدُونَ﴾ (يس 21) وتكرر فى القرآن تأكيد أن كل نبى لا يأخذ أجراً وأن أجره على الله تعالى وحده. وهو يأخذ هذا الأجر من الله تعالى بمجرد أن يقول الحق مخلصاً لله تعالى دينه وقلبه، وليس عليه إلا مجرد القول، أما الهداية فهى مسئولية كل نفس إذا اختارت الهداية هداها الله تعالى وزادها هدى ﴿مّنِ اهْتَدَىَ فَإِنّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلّ فَإِنّمَا يَضِلّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ﴾ (الإسراء 15) ﴿وَالّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى﴾ (محمد 17) ولذلك فقد تكرر فى القرآن خطاب لخاتم النبيين محمد عليه وعليهم السلام بألا يحزن على عناد المشركين وألا يحرص على هداهم، وأنه لا يستطيع أن يهدى من أحب ولكن من يشاء منهم الهداية ويختارها يهديه الله تعالى.

وبالتالى كان الأمر للنبى بأن يقصر الدعوة بالهداية على من يسعى إليه طالباً الهداية، ويؤكد رب العزة جل وعلا للنبى أنه لم ينزل عليه القرآن ليشقى فى السعى لهداية الناس الضالين، ولكن يقصر الدعوة للهداية على تذكير أولئك الذين يخشون الله تعالى ﴿مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىَ. إِلاّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىَ﴾ (طه 2،3) ويقول تعالى بقصر أولئك الذين يأتون طالبين للهداية ﴿إِنّمَا تُنذِرُ مَنِ اتّبَعَ الذِكْرَ وَخشِيَ الرّحْمـَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ (يس 11) ومن هنا فلا تكون التذكرة بالحق إلا حيث تنفع فقط وحيث تؤتى ثمرتها مع القلوب الخاشعة، يقول تعالى للنبى ﴿فَذَكّرْ إِن نّفَعَتِ الذّكْرَىَ﴾ (الأعلى 9) يعنى إذا أحسست أن التذكرة ستنفع فقم بها. وإلا فلا تعرض نفسك للتعب والشقاء مع من يرفض الحق. ولهذا تكرر الأمر للنبى بالإعراض عن المعاندين سواء من كان منهم كافراً صريحاً أو منافقاً.

وفى كل الأحوال فهى مشيئة الإنسان واختياره. فهو إما أن يختار الحق بعد تكفير وطلب للهداية وإما أن يختار الابتعاد عن الحق لعدم الاهتمام به أصلاً، أو لأن الحق يتعارض مع تجارته وطموحاته. ومن هنا أيضاً ترتبط الدعوة للحق بأروع درجات التسامح.. لأن الذى يؤمن بالحق ويعمل من أجله لابد أن يلتزم بأوامر الحق جل وعلا فى آداب الحوار وحسن الخلق وسائر حقائق الإسلام الكبرى.

وبعد هذا التوضيح لأسس التسامح فى الإسلام ودعوته نصل إلى أهم مظاهر هذا التسامح أو الإحسان فى الدعوة:

1- فى الجدال:لا جدال مع المعاندين أو الذين ظلموا، وإذا صمموا على الجدال فالمجال الوحيد المتاح هو المباهلة بأن نبتهل نحن وهم بأن يجعل الله تعالى لعنته على الكاذبين بدون تحديد.

وهناك جدال مع غير المعاندين بالتى هى أحسن، يقول تعالى ﴿ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل 125).وفى القرآن أمثلة لهذا الجدال الذى هو بالتى هى أحسن.فمع أهل الكتاب نقول لهم ﴿آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـَهُنَا وَإِلَـَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت 46).ومع المشركين نلتزم بما أمر الله به رسوله ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ وَإِنّآ أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَىَ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ. قُل لاّ تُسْأَلُونَ عَمّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ. قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبّنَا ثُمّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَهُوَ الْفَتّاحُ الْعَلِيمُ﴾ (سبأ 24: 26) لم يقل للمشركين إنا على هدى وأنتم على ضلال، وإنما أمره الله تعالى أن يقول بأن أحد الفريقين على هدى والآخر على ضلال، ولم يقل للمشركين لا تسألون عن إجرامنا ولا نسأل عن إجرامكم، بل نسب الجرم إلى نفسه فقط، وهو خاتم النبيين، وفى النهاية أرجأ الحكم إلى الله تعالى ليحكم بينه وبينهم بالحق يوم القيامة. ويندرج تحت هذا المثال معنى تكرر فى القرآن، كقوله تعالى ﴿وَقُل لّلّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَىَ مَكَانَتِكُمْ إِنّا عَامِلُونَ. وَانْتَظِرُوَاْ إِنّا مُنتَظِرُونَ﴾ (هود 121،122) أى يعمل كل فريق بما يعتقده صواباً وينتظر الجميع حكم الله تعالى يوم القيامة.

2- وهناك أوامر ونواهى فى ذلك الجدل المسموح:

فالله تعالى ينهى عن سب المشركين وآلهتهم ومعتقداتهم، حتى لا يوقعهم العناد فى سب الله تعالى، يقول رب العزة ﴿وَلاَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيّنّا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ مّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام 108) ومعنى الآية واضح فى أن كل أمة ترى نفسها على الحق، ومرجعنا جميعاً إلى الله تعالى يحكم بيننا يوم القيامة. ثم أوامر بأفضل ما ينبغى أن يكون عليه الداعية من إحسان فى القول والفعل، يقول تعالى ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دَعَآ إِلَى اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ﴾ (فصلت 33: 35) وهذا هو المثل الأعلى للإحسان فى الدعوة أن يدعو الداعية إلى الله ويقرن الدعوة بالعمل الصالح ليكون فى عمله قدوة حسنة، وأن يرد بالتى هى أحسن على السيئة بحيث يجبر عدوه المسىء على الخجل من نفسه ويصبح أنه ولى حميم، وتلك منزلة لا ينالها إلا الذين تعودوا على الصبر، وأولئك لهم عند الله تعالى حظ عظيم.

وهذا الخلق العالى من الإحسان يستدعى التسامح مع المخالف والمعاند وليس الحقد عليه.. وهنا يقول المسلم كلمة الإسلام "السلام" فمن صفات عباد الرحمن أنهم إذا خاطبهم الجاهلون بالسىء من القول ﴿قَالُواْ سَلاَماً﴾ (الفرقان 63) وإذا أسمعهم الجاهلون اللغو فى الدين وهو مما يسىء إلى عقيدة المسلم أعرضوا عنهم ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ اللّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ (القصص 55) أى أيضاً قالو لهم: سلام عليكم. وبالتالى يرجئون الحكم إلى الله تعالى يوم القيامة مع يقينهم بأنهم على الحق، لذلك يقول تعالى للمؤمن ونبى الإسلام ﴿وَإِنّ السّاعَةَ لاَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ (الحجر 85) أى أن الساعة آتية يوم الفصل وبالعذاب للمعاندين وهم يستحقون الشفقة، فلا أقل من أن تصفح عنهم صفحاً جميلاً. وتكرر هذا المعنى فى ذلك الخطاب الإلهى الموجه للنبى عليه السلام ﴿وَقِيلِهِ يَرَبّ إِنّ هَـَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاّ يُؤْمِنُونَ. فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ (الزخرف 88،89) أى فاصفح عن هؤلاء الذين لا يؤمنون وقل لهم سلام عليكم، وسوف يعلمون يوم القيامة موقعهم بالضبط. وحتى لا يقال أن هذا خطاب أو أمر للنبى وحده نجد الأمر نفسه يتكرر أمراً مباشراً للمؤمنين ﴿قُل لّلّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ. مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ (الجاثية 14،15) فالله تعالى يأمر المؤمنين بأن يغفروا للمعاندين، حيث سيلقى كل إنسان جزاء ما كسبه من صالح أو من سىء. وحيث مرجع الناس جميعاً إلى الله تعالى يوم القيامة. وبهذا يصل الإحسان فى الدعوة إلى ذروته بالمغفرة والصفح والسلام مع المعاندين.

ومن الطبيعى أن هذا الأدب الراقى فى الإحسان لا يشمل فقط اللسان والجوارح بل يبدأ أساساً بالقلب والضمير حيث التعامل مع الله تعالى الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، ولذلك فقد ترى إنساناً عاجزاً عن تقديم الإحسان ولكنه عند الله تعالى من المحسنين، والسبب أنه يتمنى فى قلبه لو كانت لديه المقدرة على الإحسان. والله تعالى يعلم صدق نيته فلم يكلفه إلا حسب ما أتاه، ولذلك جعله من المحسنين اعتماداً على نيته وسريرته. يقول تعالى يتحدث عن غزوة ذات العسرة ﴿لّيْسَ عَلَى الضّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىَ الْمَرْضَىَ وَلاَ عَلَى الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ. وَلاَ عَلَى الّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلّوْا وّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ﴾ (التوبة91،92) ففى الاستعداد لغزوة ذات العسرة كان بين المؤمنين ضعفاء ومرضى وفقراء لم يستطيعوا الإسهام فى المجهود الحربى، ومع ذلك اعتبرهم الله تعالى محسنين ولم يوجه إليهم اللوم ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ﴾ وألحق بهم مؤمنين أقوياء ولكن فقراء ليست لديهم دواب يركبونها للغزو، وليس للنبى دواب تحملهم، لذلك رجعوا باكين بسبب الفقر الذى منعهم من الإسهام فى الخير.

وهذا الخلق الراقى فى الإحسان يعنى مجاهدة النفس بالصبر وقد سبق إيراد آيات كريمة يقترن فيها الإحسان بالصبر كقوله تعالى ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دَعَآ إِلَى اللّهِ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ وفى النهاية يقول تعالى عن صاحب هذا الإحسان ﴿وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ﴾ وآيات أخرى تقرن الصبر بالإحسان مثل ﴿وَاصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (هود 115) ﴿إِنّهُ مَن يَتّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف 90).

وكما يقترن الإحسان بالغفران كذلك يقترن الصبر بالغفران، يقول تعالى ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ﴾ (الشورى 43) وتكرر الأمر للنبى بالصبر على الأذى الذى كان يلقاه من المشركين وقال له ربه جل وعلا ﴿اصْبِر عَلَىَ مَا يَقُولُونَ﴾ (طه 130، ص 17، ق 39) وقال له تعالى ﴿وَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً﴾ (المزمل 10).

 وكما أن الله تعالى يحب المحسنين فإنه جل وعلا مع الصابرين، وتكرر هذا كثيراً فى القرآن (البقرة 153، الأنفال 46، البقرة 149، الأنفال 66) ولذلك أصبح من الأمثال السائرة: أن يقال "إن الله مع الصابرين" والمجتمع المؤمن يستعين على المصائب بالصبر والصلاة (البقرة 45) كما يتواصى أفراده بالصبر وبالرحمة والحق (البلد 17، العصر 3) وفى النهاية فإن الجنة هى جزاء الصابرين حيث تتلقاهم الملائكة تقول لهم ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىَ الدّارِ﴾ (الرعد 24) وفى الجنة يتلقون أجرهم بدون حد أقصى أى بدون حساب يقول تعالى ﴿إِنّمَا يُوَفّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر 10).

أخيرا

يرتبط الدين الأرضى دائما بالتدين السطحى باللحية والنقاب و الحجاب والجلباب مع سوء الخلق والفساد فى الأرض ، كما يرتبط بالمتاجرة بالدين طلباً للعلو فى الأرض وما ينشأ عن ذلك التدين من فساد. أما من يتمسك بالدين الحق فهو الذى يبغى الآخرة ويرجو الجنة بالتقوى والعمل الصالح، والاحسان فى تعامله مع الناس دون استعلاء أو فساد ، يقول تعالى ﴿تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ﴾ (القصص 83).

اجمالي القراءات 31333