هيـــــــباشيـــــــا
إحدى فتيات مصر التي يحق لنا أن نفخر بها لأنها دفعت حياتها ثمنا لمبادئها وإيمانها بقيمها الدينينة والخلقية منذ أكثر من خمسة عشر قرنا من الزمان.
في خاطرة من خاطرات عقلي، التي دائما ما تأتيني كلما جلست مع نفسي وكثيراً ما أخلو بها أكثر من مرة في اليوم الواحد، وهذه الخاطرات التي كلما عاودت، سافرت بذاكرتي في ذلك المستودع الرهيب العجيب، مستودع "النفس" وما حوته من أسرار الماضي.
في إحدى تلك الخاطرات التي يختلي بها الانسان إلى أعماق ذاته، حتى تنصرف العين وكانها مغمضة عما حولها، والأذن وكأنها صُمّتْ لا تسمع الصوت، وجدت نفسي وجهاً لوجه مع تلك الفتاة، وكنت قد تعرفت عليها والتقيت بها على صفحات التاريخ، ولم أكد أبصر طيفها وشبحها في ثويها الأبيض كأنها القديسة في طهرها ونقائها، حتى تذكرتُ في وضوح ناصع، متى وأين التقيت بها، ووقفت معها طويلا؟
إنها "هيــــباشيـــــا" الاسكندرانـــــية، وقد نذرت حياتها ووهبتها للفلسفة، فهي في ذلك فريدة ومتميزة في تاريخ الفكر، فحفيظتي وذاكرتي الآن لا تسفعني بإسم آخر لإمراة ذكرها تاريخ الفلسفة على صفحاته.
لكن "هيباشيا" كانت فريدة في مصرعها على أيدي رجال قُساة فظاظ غلاظ القلوب يحملون على أعناقهم رؤوساً خاوية إلا من الهوس وأحلام الجنون.
كانت "هيباشيا" هي التي جاءتني بها خاطرة عقلي هذه المرة، رأيتها واقفة أمامي في رزانتها الرصينة، ففتحت عيني وأرهفتُ أذني وكأني سمعتها تقول: لقد دعوتيني فهأنذا.
قلتُ لا، لم ادعُكِ ولا توقعت قٌدُومٌكِ ولا وقوفكِ أمامي، فربما استدعاك ما كنت أفكر فيه.
_ قالت: وفيما كنتِ تُفكِرين؟
_ قلتُ في رجل الشارع، لكن دعينا الآن مما كنت أفكر فيه ولنا إليه عودة، أما الآن ... فقُصِّي عليَّ ما أصابكِ، إنني أعلم عنه شيئاً أضاع منه النسيان شيئاً وأبقى شيئاً.
_ قالت وكيف عرفْتِ مأساتي، وبيننا ستة عشر قرناً من الزمان، فأنا من أهل القرن الخامس الميلادي وأنتِ من بنات وسيدات القرن العشرين؟
_ قلتُ لها: قرأت عن مأساتك فيما كتبه وسطَّرِه عنِّكْ شيخ المؤرخين الإنجليز "إدوراد جيبون" ذلك المؤرخ الذي كان يكتب التاريخ بقلم الأديب وأسلوبه، يرسم الصور فتحيا ويحيا معها القارئ،فكان قلمه للأحداث هو نشور لها بعد قبور ودثور.
_قالت: كانت مأساتي ومعاناتي مروعة دامية، وأغرب وأعجب ما فيها أن جنايتي عند أولئك القساة الجفاة هى اشتغالي بالفلسفة وعلوم الرياضة. ولقد أوقعوا بي ما أوقعوا وساموني سوء العذاب والتنكيل باسم الدين.
_ قلت هيا يا فتاتي، حدثيني، فالأمس البعيد يبدو كاليوم، والانسان هو الانسان لا يغيره الزمان، حدثيني وأخبريني عما حــــــــــدث..
_ قالت: أراد بي ربي ألا ألهو مع اللاهيات من بنات عصري وجنسي فشغلتُ نفسي بالدراسة، ودفعني هوايَ وجذبني إلى أن تكون الفلسفة موضع حبي وإهتمامي، ولعلكِ تعلمين أن الفكر الفلسفي والفكر الرياضي قرينان متلازمان. لأنهما شبيهان في طريقة البدء ومنهج السير.
وذات يوم في ساعة الضحى، في هذه الأثناء كنت متنقلة في عربة أطوي وأقطع بها الطريق في مدينة الاسكندرية ، وأنعم بزرقة البحر ومن فوقي وفوقه زرقة السماء، والهواء منعش جميل ونسيم عليل.
إلا وقد دهمت عربتي التي استقلها جماعة اشتد بهم الهـــوس والجهل معا، فحسبوني خارجة عن الدين ومهرطقةً به، فلا هم يدركون حرفا مما أدرسه ، ولا هم يأخذون بكلمة مما يوصي به الدين.
جرّوني وانتزعوني من العربة انتزاعاً، وخلعوا عني الثياب عنوة وقسراً.
ودفعوا بجسدي العريان على الأرض، وشدوني إلى حبل وربطوني، ثم جروني جرّاً على حصى الأرض وحصباء الطريق.
حتى لقد تسلخ جسدي ونُهِشِ وكادت تظهر العظام مما كان يكسوها، فلما نقلوني وبلغوا بي حيث أرادوا وسولت لهم أنفسهم، وجدتُ رؤساءهم في انتظاري، وأقاموا من أنفسهم ما يشبه المحكمة الدينية لمحاكمتي!.
وعبثاً حاولت الكلام للدفاع عن نفسي، فالبدن منهوك القوى والطغاة لا يصغون، والحكم مقرر من ذي قبل وسلفاً ...
انقضّوا علىَّ بالسكين ذبحا، وأشعلوا ناراً، وأخذوا يكشطون ما بقي من لحم بمُدىً ومحارات مسنونة الأطراف، ويقذفون في النار بالأشلاء شلواً شلواً، وبقِطَِعِ اللحم قطعة قطعة، وكان بعضها يُلْقُونه في اللهب وهو لم يزل يرتعش ببقية من حياة.
_ قلت لها: يا لهول المأساة، هل لكِ أن توجزي فلسفتك وعقيدتك الإيمانية في عبارات قليلة وجمل قصيرة، لأوُازن بين الجريمة والعقاب؟
_ قالت: أتقولين "جريمة" عن فكر فاحص باحث دؤوب؟ لا ، لا ، إنه لا جريمة هناك، وما كانت عقيدتي وفلسفتي إلا ترجيعاً وصدى للفلسفة التي سادت الاسكنــــــــدرية منذ نحو قرنين من الزمان!
فلقد كانت الاسكنـــــدرية ـ ولابد أن تكوني على علم بذلك ـ نقطة التقاء الشرق والغرب في كل شئ، من تبادل السلع في دنيا التجارة، إلى تبادل المذاهب الفكرية في دنيا الفلسفة، وكانت الاسكندرية كذلك هى التي رفعت لواء الفكر، بعد أن وهنت دون حمله مدينة أثينا، وكان قد جائنا فيما جاءنا من اليونان فلسفة أفلاطون.
أخذنا فلسفلة اليونان ، لكننا طبعناها بطابع مصري أصيل، كشأن مصر دائماً في عصور قوتها، وماذا يكون الطابع المصري الأصيل إن لم يكن، التدين والتصوف؟ وبهذه الطريقة مزجنا الأفلاطونية اليوناينة، بنفحة مركزة من الدين والحس الصوفي، فنتج لنا بذلك ما يطلقون عليه "الأفلاطونية الحديثة" ، وكان الأوْلى أن تُدْعَى الأفلاطونية المصرية".
كان الفضل في إبداعها يرجع لذلك الأسيوطي "أفلوطين" الذي كان قد قَدِمَ إلى الاسكندرية من موطنه أسيوط في صعيد مصر جاء يطلب العلم وينشد الحكمة، وما أن إلا تابعة من أتباعه وتلاميذه.
_ قلتُ الحق أني لا أجد في تلك الرؤية الفكرية والعقيدة الايمانية ما يستحق العقاب.
_ قالت: أبداً، ليس فيها ما يعاب، فهى رؤية تؤكد وحدانية الله ودوام مشيئته، بالنسبة إلى مخلوقاته المتعددة المتغيرة الفانية، ثم هى تُقدم تفسيرا لخلق الله للعالم، إذ تشبه ذلك بالشمس يفيض عنها الضوء.
_ قلت لها : لا تحزني يا فتاتي، فالذين ـ واللائي ـ اغتالهم الجهل والتعصب كثيرون في التاريخ وتقفز إلى بؤرة شعوري للتو قصة ذلك التقي الورع "عبدالله بن حباب" الذي سبق وجودكِ في الحياة وجدوه بمائة عام أو يناهزها إذ فاجأته جماعة من الخوارج بمثل ما فاجأتكِ الجماعة المتهورة المتهوسة التي رويْتِ لي حكايتها.
قالت: ومن هم الخوارج، ومن هو عبدالله بن حباب؟
قلتُ: لقد انزل الله على العالمين بعد زمنكِ بأقل من قرنٍ دين الاسلام وكان محمد عليه السلام هو في ذلك هو نبي الله ورسوله، ومن بين أصحابه "عبدالله بن حباب" الذي بلغ من حبه للإسلام أن علق كتاب الله حول عنقه بخيط ليظل الكتاب على صدره.
أما جماعة الخوارج فهم جماعة اجتمعت فيهم المتناقضات وتأصلت، فبينما هم يوصلون في عبادتهم الليل بالنهار ويكثرون من السجود على الرمل والحصى، حتى لقد كانت جباههم تتقرح، وفي نفس الوقت كانوا قساة فظاظا غلاظ القلوب على من يخالفهم في الرأي!.
لا يترددون في قتل الآخر المخالف، والركيزة الأساسية عندهم في اختبار من يقع في طريقهم بالصدفة من المسلمين، هى أن يسألوه عن رأيه في أمير المؤمنين "علي بن أبي طالب" وهو الذي خرجوا على طاعته، عندما اعتقدوا أنه لم يلتزم كتاب في نزاع قام حول الخلافة.
الخوارج من وجدوه من المسلمين موالياً لعلي، قتلوه، فاسمعي ما جرى من حوار قصير بين نفر من هؤلاء الخوارج، وعبدالله بن حباب، وقد كان عبدالله هذا مع زوجته في داره، حين سمع صوتاً آتياً من الطريق، عرف منه أن رجالاً من الخوارج ، يجوبون الحي ليفتكوا بمن وجدوهم مخالفين لهم في الرأي.
خرج عبدالله بن حباب ومعه إمرأته، ليلوذا بالفرار حتى لا يصيبهما السوء ، لكنهما ما كادا يخرجان من دارهما، حتى أمسك بهما هؤلاء الرجال، ودار الحوار التالي:
_ الخوارج لابن حباب: إن هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك.
_ ابن حباب: ما أحياه الله فأحيوه، وما أماته فأميتوه.
_ الخوارج: ما القول في علي بعد التحكيم؟
_ ابن حباب: إن علياً أعلم بالله، وأشد توقياً على دينه، وأبعد بصيرة.
_ الخوارج: إنك لست تتبع الهوى، على أسمائهم.
وبعد هذا الحوار القصير المقتضب دفعوه هو وزوجته إلى شاطئ نهر قريب، فأضجعوه، فذبحوه، ثم اتجهوا إلى إمرأته الحبلى، فبقروا بطنها.
وكانت تلك الفظاظة والفظاعة وقسوة القلب وغلظة الكبد، هى أيضاً بإسم الدين، كالذي حدث في مأساتك يا هيباشيا.
إن رسالات السماء يا فتاتي، إنما نزلت رحمة للعالمين، لكنه الانسان وما يكمن في صدره من غرائز الحيوان، هو الذي يضيق به الأفق فلا تقوى طبيعته على حمل الرسالة حتى وهو مؤمن بها فيما يظن.
الجماعة التي اغتالتْكِ يا هيباشيا على نحو ما فعَلَتْ، ربما جاءت لتتربص بكِ، بعد أن أدت شعائر الصلاة في الكنيسة، إذ تقول رواية التاريخ ، عن القديس كيرلس، راعي كنيسة الاسكندرية وقتئذٍ، كان هو مدير الاغتيال، صادراً في تدبيره ذاك عن إيمانه الديني كما صورته لهم روح التطرف، فالعلة _ إذن _ يا هيباشيا في التربية الدينية وعلى أي صورة ينبغي أن تكون.
يسأل القرآن الكريم عن الموءودة إذا سئلت، بأي ذنب قتلت؟ وعلى هذا الضوء الهادي، نسأل عن الذبائح البشرية في أنحاء العالم كله اليوم وفي مصرنا والعالم العربي على وجه الخصوص بأي ذنب ذبحت، وعن المعذبين والمعذبات في معتقلات مصر والعالم الثالث (العربي والاسلامي) وسجونه ، يلقون من التعذيب ما يشيب له الولدان، بأي ذنب عُذِّبوا، سيكون الجواب في هذا كله هو أنهم أصحاب رأي وعقيدة.
كانت هذه لمحة وومضة عن حياة فتاة مصرية عاشت منذ خمسة عشر قرنا في مصرنا المحروسة غُذبت وقتلت بسبب عقيدتها الدينية لكن قاتيلها وجلاديها ماتوا في ذاكرة الأمة وعاشت هيباشيا وخُلّدت في وجدان المصريين الأحرار.
المراجع من كتاب (في مفترق الطرق) للدكتور زكي نجيب محمود